عندما
يقر رئيس الوزراء الليبي عبد الله الثني بأن الأسلحة التي تتوافر لدى الجماعات
المتناحرة في طرابلس وبنغازي وغيرها أكبر مما تملكه قوات الجيش النظامية والشرطة،
فإن ذلك يبطل رهان الحوار لإقرار مصالحة وطنية. ففي كثير من التجارب التي همت
بالبحث عن الوئام، كما في الجزائر، لم تكن التنظيمات الخارجة عن القانون تملك
عتاداً حربياً ثقيلاً، مثل المدرعات وراجمات الصواريخ والعربات المتنقلة.
في
المراحل الأولى لبناء الاستقلال عاشت دول عربية وإفريقية المأزق ذاته، مع فارق في
أن سلاح المقاومة كان موجهاً ضد الاستعمار، بينما في الحالة الليبية استخدم لإطاحة
النظام، وكثيراً ما مانعت فصائل المقاومة في تسليم أسلحتها، لأنها كانت تعتبرها
الوسيلة التي تحقق من خلالها نفوذاً في الدولة الناشئة. الثورة الجزائرية عانت من
هذه الظاهرة، والمقاومة المغربية تأثرت بها، والتونسيون أيضاً لم يكونوا أبعد من
الاكتواء بنارها. غير أن ما ساعد هذه البلدان أن السلطة اهتمت بالانفتاح على حركة
المقاومة، وإن كان بعضها تنكر لها بمجرد بسط نفوذ الدول. فالمقاومون عادة ليسوا
متجانسين سياسياً. لأن السلاح يشكل مصدر القوة لديهم وليس الفكر، لذلك فرض
الانفتاح على زعامات المقاومة نفسه.
في
الجزائر أنشئت وزارة المجاهدين لاستيعاب شركاء ثورة السلاح، وفي المغرب أحدثت
مندوبية للمقاومة وجيش التحرير بهدف تمكين الفصائل من خدمات اجتماعية. ولم يتمكن
الليبيون عبر التجارب القصيرة لحكومات انتقالية من تحقيق انفتاح على الفصائل
المتناحرة، يشجعها على وضع السلاح والاندماج في الحياة المدنية. بيد أن انعدام
الثقة أبقى على سياسة الحذر المتنامية إلى درجة الصدام المسلح.
ما
زاد في تعقيد الموقف أن حملة السلاح توزعوا إلى طوائف ومشارب، وأن هاجس الاستئصال
سيطر على النفوس، فقد ألقت تجربة إطاحة حكم «الإخوان المسلمين» في مصر بنفوذها على
الساحة الليبية. ولامست بعض الفصائل المتشددة في إقامة الدولة الإسلامية في العراق
ما يشجعها على المضي قدماً في تنفيذ مشروعها. هذه المعطيات وغيرها نقلت الصراع على
السلطة في ليبيا إلى منعطف المرجعيات بدل الاتفاق على خيارات ديموقراطية تسمح
بتكريس التعددية والتعايش.
ثمة
من يرى من داخل النخب الليبية أن التوغل في التطرف يساعد في تكوين فكرة حول حجم
الأخطار التي لا تهدد ليبيا فحسب، بل كل جوارها المغاربي والعربي والإفريقي، ما قد
يدفع أصدقاء ليبيا إلى التدخل لحسم الموقف. وثمة من يرى أنه لا بد من اختبار وصفة
العلاج بالصدمة عبر تقوية الجيش ودعم القوات التي تحارب الفصائل المتناحرة. لكن
بريق الأمل الذي لاح في الأفق من خلال إقدام الجيش الأميركي على قصف المواقع
الأمامية لتنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق، يتوازى والحاجة إلى إقامة حكومة
وفاق تدمج كل التيارات المعتدلة. فالاشتراط الأميركي على العراقيين ينسحب في جانب
منه على ما يتوقعه الليبيون من دعم غربي، وإن كانوا لا يجاهرون بالدعوة إلى تدخل
عسكري. بل الاكتفاء بتقديم الخبرة والمساعدة في التدبير وتأهيل قوات الجيش
والشرطة.
تقف
الحكومة الليبية بين نارين، إن هي طالبت بتدخل عسكري صريح، يكون امتداداً لتدخل
حلف «ناتو»، فإنها تدخل خط اللارجعة في مواجهة الفصائل المتناحرة. علماً أن أقصى
ما يمكن أن يحققه ذلك التدخل المحتمل هو القصف من الجو وعدم النزول إلى الأرض. وإن
هي استمرت في مهادنة المتناحرين، فإن الدولة في طريقها إلى الانهيار، في ظل العجز
الكبير عن تقديم خدمات الماء والكهرباء والأمن الذي أصبح مطلباً قومياً.
ما
ستؤول إليه تطورات الأوضاع في العراق يشد انتباه الليبيين وغيرهم. ويبدو أن دخول
الفرنسيين على الخط، من خلال زيارة وزير الخارجية لوران فابيوس إلى العراق أكثر
أهمية في نظر الليبيين، كونهم يستحضرون الحماسة الفرنسية للتدخل في شمال مالي. لكن
ذلك ارتدى طابعاً شرعياً عبر المرور بمجلس الأمن. غير ان الفرنسيين أكثر اهتماماً
بتفاعل الأحداث في منطقة الشمال الإفريقي، فيما الأميركيون لا يمكنهم التفريط
بليبيا. وبين كل الاعتبارات والمواقف تحتاج ليبيا بدورها إلى حكومة وفاق تجيز أي
نوع من المبادرات لإنهاء معاناة انفلات الأمن وغياب الاستقرار. نقلا عن الحياة