من
الواضح أن مصر تريد مسح الصورة الخانعة السابقة لها، وأن تبرهن أنّ «الندّية» في
العلاقات هي الأساس مهما كانت المخاطر وأياً كان الطرف الآخر، تعبيراً عن سلطة
حاسمة ذات منبت عسكري، لذلك كان بيان الخارجية المصرية عن أحداث فيرغسون الأميركية
صاعقاً وغير مسبوق، وإن لم يكن في جوهره تهوراً أو رعونة أو مزحة، كما حاول البعض
تصويره.
عملياً،
أصدرت الخارجية المصرية نسخة عربية أمينة ودقيقة من البيان الأميركي عن التظاهرات
في مصر العام الماضي، وأعادت تصديره إلى أميركا، الأمر الذي رصده عدد من وسائل
الإعلام الغربية التي أدركت مغزى السخرية فيه.
يبدو
أن القاهرة اختارت هذا النهج غير البروتوكولي لتبرز حجم المفارقة في الخطاب
الأميركي نحوها، وتقول لواشنطن: نحن نؤيد التظاهرات السلمية ونتعامل معها بأقصى
درجات ضبط النفس، لكن أين هو هذا النوع من التظاهرات؟
التظاهرات
في مصر تتضمن النهب والسلب والتخريب والمولوتوف واستهداف الشرطة، ما يدفع بالأخيرة
إلى استخدام الغاز المسيّل للدموع والرصاص المطاطي واعتقال المشاغبين. في فيرغسون
تكرر المشهد من دون تغيير، مع فارقين؛ الوضع في أميركا مقتصر على مدينة صغيرة،
بينما الحال في مصر متمددة ومتجددة. وجذر المشكلة في فيرغسون عنصري أفرز تظاهرات
عفوية، أما مصر، فهي تحاول استعادة هويتها، وتتعرض لحرب منظمة شاملة غايتها
الإمساك بخناق مصر كلها.
في
فيرغسون تعرض الصحافيون للمضايقة والمنع من التغطية، واعتقل بعضهم ساعات، كما
أطلقت الشرطة الغاز واستخدمت العنف، ما أدى إلى إصابات واعتقال العشرات، ثم جاء
أخيراً دور الحرس الوطني لينزل إلى المدينة ويتولى الأمور فيها، ومع ذلك لم تتوقف
التظاهرات. هذا هو ما يحدث في مصر مع تأكيد التباينات الديموقراطية الكبيرة، إلا
أن مصر التي تتشكل من جديد تبعث برسالة: إن كانت الديموقراطية العريقة لم تنجح في
أميركا، فكيف تكون حالنا نحن؟
الرئيس
أوباما في جانب من حديثه انتصر لشرطته حين قال: «لا يوجد عذر لاستخدام العنف ضد
الشرطة، أو لمن استغل هذه المأساة ليتخذها غطاء للسلب والنهب» ورئيس الشرطة يقول
إن المتظاهرين يدفعوننا إلى العنف. فهل ما يجري مجرد هدية غير متوقعة لمصر كي
تتحرر من الضغط الأميركي الذي ترى القاهرة أنه يرفع وتيرة العنف ولا يخفضها؟
الشماتة
العلنية بأميركا لم تقتصر على مصر، فقد شارك فيها خامئني عبر حسابه في «تويتر»،
واستهجنت روسيا اعتقال الصحافيين، كما وصفت منظمة «مراسلون بلا حدود» منع المراسلين
واحتجازهم، بأنه «عمل غير منطقي وغير مسؤول، ومناف للحرية الصحافية بالولايات
المتحدة الأميركية».
من
الواضح أن مصر تشعر بغضب كبير من أميركا، فهذه ليست تجربتها الأولى؛ إذ سبق أن
تعرض وزير الخارجية الأميركي جون كيري لتفتيش ذاتي قبل لقائه الرئيس السيسي، وهي
سابقة أخرى أثارت ردود فعل كثيرة حينها.
وفقاً
لهاتين التجربتين، فإن القاهرة ليست عديمة التجربة ومتهورة، بل تتعامل بطريقة
جديدة مع البيت الأبيض، وترسم حدوداً مختلفة للعلاقة، ليس مدارها الثابت فكرة:
المانح والممنوح.
من
جهة أخرى تعرف مصر أن في يدها أوراقاً كثيرة لا يمكن لواشنطن أن تتجاهلها، سواء في
خياراتها السياسية المتنوعة أم قدرتها على ضبط الأمن في المنطقة ومحاربة الإرهاب،
فضلاً على المؤشرات الإيجابية في الاستقرار وجديتها في حل مشكلاتها الداخلية
وترسيخ دستورها الجديد.
لقد
ألقت مصر بورقتها، أما قياس تأثيرها فمرتهن بنوعية الاستجابة الأميركية مستقبلاً،
وإن كانت المؤشرات تشي بأن مصر ستكون هي الرابحة، نتيجة ارتباكات إدارة أوباما في
التعامل مع قضايا المنطقة عموماً، ولاستحالة الاستغناء عن مصر أو القبول بأن تكون
ساحة قلق، وخصوصاً في هذه الفترة الحرجة.
في
كل الأحوال فإن هذه الخطوة المدهشة لها انعكاسات داخلية إيجابية على الاعتزاز
بالهوية المصرية والشعور مجدداً بالتأثير والقوة والحضور الصارم. نقلا عن الحياة