فجأةً
تتفجرُ حملةٌ إعلاميَّةٌ مُمنهَجة فى كثير من وسائل الإعلام، المرئيًّة والمقروءًة
والمسموعًة وغيرها، على مدى الأسابيع الماضية ضد الأزهر الشريف ومناهجه وطلابه وكل
شيء فيه،
لاحظَتْها
جماهيرُ الناس، وجعلتها تتساءلُ ما الذى يُدبر للأزهر الشريف؟! وماذا يُريد
المغرضون من هذه الحملة بدِين الله؟! ومَن وراءها؟! وتساؤلاتٌ كثيرة تَدُور
بالأذهان، ولكن مع هذا الاستغراب أيضًا وقَع شك واضطراب بشأن أحكام الشريعة فى
نفوس البعض الآخَر، وتجرؤٌ وانتهازيَّةٌ من فريقٍ ثالث، فهذا محامٍ كسدت بضاعته
يريد الإعلان عن نفسه يُقرِّر أنَّ مناهج الأزهر تُشجِّعُ على القتل والفتنة
والإرهاب، وذاك غائبٌ عن الوعى يُنادى بتأجيل الدِّراسة بجامعة الأزهر لمدَّة
عامين، واصفًا طلابها بأوصاف تنظيم داعش الإرهابي، وثالثٌ ساقطُ الدِّين والخُلُقِ
والمروءة يحمل شهادةً أزهريَّة يُمرِّغُ صحيحَ البخارى فى الطين، ورابعٌ يُطالب
باسم الوطنيَّة بتمجيد فرعون - جد المصريين - والتوقُّف عن إطلاق سيدنا لأنبياء
الله، موسى ويعقوب وداود لأنهم يهود، وامرأةٌ تَصِفُ الأزهر بأنَّه ساكتٌ عن
الحق... مع حِرصها على وضع هذه النِّقاط لكى يُكمِلها القارئ... وهكذا، فماذا
بعدُ...؟!
إنَّ
هذه الشخوصَ التى تتطاوَلُ على مقام الأزهر وأئمَّته وعلمائه لا يعلمون أنَّ
الخبائث لا تطفو على السطح وتغوصُ اللآلئ إلى القاع إلا فى فترات الاضطراب والضعف،
وفقدان المعايير التى توزن بها الأمور، عندما يكونُ لارتفاع الأصوات وزنٌ، ولكثرة
الأعداد قيمةٌ، ولتهريجِ المهرِّجين أثر، ولانتهاز الانتهازيِّين مكان ومكانة،
إنهم حينئذ ينتَكِسون بالناس إلى بهيميَّةٍ فاجرةٍ مُدمِّرة لا تتقيَّدُ بدِين ولا
خُلُقٍ، ولا نظامٍ ولا قانون ولا ضمير، ويَصنَعون مناخًا تَندفعُ فيه عواملُ التحلُّل
والإلحادِ والأنانية والنفاق والقسوة والفحش والزندقة والشهوة تنخر فى العقول
والقلوب، ويَتحكَّمُ الهوى فى النفوس ويشيع الجهلُ ويتوارى العلم، ولا يبقى من
المعانى العالية فى الإنسان والمجتمع شيءٌ يُبشِّرُ بخير أو هدايةٍ، إلا من عصم
الله!
ومن
الطبيعى فى هذه الأجواء المكفهرِّة التى تختلُّ فيها الموازين، وتتوارى فيها
القيم، وتتبدَّلُ فيها الأخلاق، وتزيغ فيها الكفايات، أن يطفو على السطح شخوص
تافهاتٌ تتطاوَلَ على مقام الأزهر الشريف دونما أدنى اعتبارٍ لكرامة مناصب الدِّين
أو حُرمة علومه، أو احترام رسومه أو حفظٍ لحقوقِ مؤسساته وتاريخها.
لقد
جَهِلَ هؤلاء أنَّ الذى جعَل من الأزهر أزهرًا ليس عمامة وجبَّة، وإنما هو منهجُه
العلمى والخلُقى المتفرِّد، الذى استقرَّ فى ضمير الأمَّة على مدى أكثر من ألف
عام، وبخصائص مُعيَّنة فى العقيدة والشريعة، والأخلاق، تركت بصماتها بقوَّةٍ ليس
فى الشخصيَّةِ المصريَّةِ فحسب، وإنما فى الشخصيَّةِ الإسلاميَّة عُمومًا، فضلاً
عن أثرها الكبير فى الحضارة العالمية.
ليس
فى شخصيَّة الأزهريِّ ما يُمكِّنه من مُنازلة هؤلاء بما يَتفوَّقون به من خُبث
وكيد، وخيانة ومراوغة، وسوء أدب وقلة حياء، وإنكار للفضل، وتشويه للجميل وتوفُّر
على أذى الخلق.
لا
تعرفُ شخصيةُ الأزهرى التجريحَ والطعن، والسب واللعن، وتهوين أقدارِ الأئمَّة
والسُّخرية من أولياء الله كما شاهد الناس فى بعض مسلسلات رمضان، سخرًا يُدمِّرُ
من روحانيات الدِّين، وعلومه المقدَّسة، ورسالة الأزهر، ويحطُّ من هيبته فى عيون
الناس.
إنُّ
ما يجهلُه هؤلاء أنَّ مشيخة الأزهر هى مشيخةُ الإسلامِ، والعالمُ كلُّه والعالم
الإسلامى خاصَّةً عينُه على رتبة الإسلام ومَقام الإسلام لا على وظيفة شيخ الأزهر.
فالأزهرُ ليس ناديًا للكُرة، ومنصبُ شيخ الأزهر ليس منصبًا سياسيًّا ولا إداريًّا،
وإنما هو رمزٌ ديني، وقيمةٌ روحية، ومنصبٌ علمى قبل أنْ يكون وظيفةً، فماذا يَقصِد
هؤلاء من هذه الحملة المسعورة؟! إنْ كانوا يَقصِدون الأزهر، فالأزهرُ هو هوية مصر
وكل مصري، وقلبُ أمَّة الإسلام النابض بالحضارة والعلم والدِّين، وإن كانوا يقصدون
النَّيْلَ من شخصِ شيخ الأزهر، فالشيخ ليس كما يراه هؤلاء- بحسَب مبلغ العلم عندهم
- رئيساً لعمل أو مديراً لإدارة، إنه كما يراه أهلُ العلم والبصيرة - رمزٌ
للدِّين، ورائدٌ للعلم، يَعلمُ ويعلّمُ الناس أنَّ الناس هم الناس، لن يرضوا عنكَ
ولو كنتَ فى قَداسة الملائكة وطُهر الأنبياء، فلا يعمَلُ إلا لله، ولا يبحث إلا عن
رضا الله، أليس هذا هو الرجل الذى كان بالأمس القريب رمزًا للوطن فى مواجهة امتهان
الدِّين فى السياسة، واستخدامه لأغراض الحكم فيما سجَّلته الأحداث منذ الخامس
والعشرين من يناير وحتى الثالث من يوليو، حينما حمل رُوحَه على كفه فى أشد اللحظات
حرجاً عندما بلغت القلوب الحناجر ليضعَ مع مَن وضَعُوا خارطةَ الطريق لمستقبلِ
الوطن. نقلا عن الأهرام
إنَّ شيخ الأزهر لا يُبالى بهذه الصغائر؛ لأنَّه يَعلمُ ويُعلِّم الناس أنَّ العَناء والابتلاء من مواريث النبوة الأولي، وعلى قدرِ الإخلاص والدِّين يكون الابتلاء، وكلَّما تَنكَّر لك الخصومُ وتَألَّبَ عليك المقرَّبون كان ذلك دليلاً على أنَّك من أحباب السماء.
إنَّ هؤلاء لا يعلمون أنَّ الدسَّ بالأخيار نعمةٌ من الله لهؤلاء الأخيار، وفضلٌ من مواريث النبوة، قال السيوطى - رضى الله عنه -: وممَّا مَنَّ الله به على أنْ أقام لى عدوًّا يُؤذِينى ويمزق عِرضي، ليكون لى أسوةٌ بالأنبياء والأولياء.
ولقد ابتلى اللهُ البخاريَّ، صاحب أصحِّ كتابٍ بعد كتاب الله، وإمام الأئمَّة مالك - رضى الله عنه - فُتِنَ بحثالةٍ من الناس حتى سُجِنَ وضُرِبَ وأُخرِج من ديارِه، وظلَّ معتكفًا عن الناس لا يَشهَدُ جمعةً ولا جماعةً ثلاث سنوات. ومن قبلُ نسَبُوا عبدَ الله بن الزبير إلى الرِّياء والنفاق، وكان لابن عباسٍ نافع بن الأزرق يُؤذِيه أشدَّ الأذي، ولسعدِ بن أبى وقَّاص جهلةٌ يُؤذونه وهو المشهود له بالجنة. ومن بعدُ ضُرِبَ أبو حنيفةَ وابن حنبل، ونُفِى الشافعى من أهل العراق إلى مصر، ورموا العزَّ بن عبد السلام سُلطان العلماء بالكُفر وتاج الدين السبكى بالزندقة... والقائمة تطولُ.
إنَّ محاولةَ إرهاب الناس بالتشهير والتشنيع والتلفيقِ والشائعات انتصارًا لسياسة أو لحزب أو لأيديولوجية أو لرأي، أو طمَعًا فى منصبٍ على منصب، أو رياءً وسمعةً، إنما هو إسفافٌ يُجافى كلَّ القيم والأخلاقيَّات، وسيظل الأزهر قلعة الأمة وحصنها الحصين فى مواجهة أى انحراف دينى أو فكرى أو ثقافي، ولن ينثنى أو يلين أو يخضع لابتزاز أو إرهاب.
ومَن أرضى اللهَ بسَخَطِ الناس كان الله له، ومَن أسخط الله برضا الناس كان الله عليه، ولا يستوى الخبيثُ والطيبُ، ولا المفسِد ولا المصلِح، ولا العالِم والجاهل، ولا مَن يُصانِعُ الناسَ ومَن يُقارع الناس.
ألا إنَّه لا يزالُ هناك وهنا رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، أولو بقيَّةٍ ممَّن ينهون عن الفساد فى الأرض، لا يلبسون الحقَّ بالباطل، ولا يكتمون الحقَّ وهم يعلمون؛«فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِى الْأَبْصَارِ». [الحشر: 2]. نقلا عن الأهرام