ثمة
رمال متحركة كثيرة فى ساحة الشرق الأوسط، ولعل أهم ما يمكن ملاحظته أن «إعادة
بناء» نظام إقليمى جديد فى المنطقة تجرى على قدم وساق بل «بالحديد والنار»، والأمر
الثانى أن محور مصر السعودية الإمارات الجزائر يكتسب يوما بعد يوم «أرضا جديدة» بل
ومصداقية كبري، وفى المقابل فإن المحاور المناوئة إيران العراق سوريا حزب الله من
جهة وتركيا ـ قطر ـ حماس جماعة الإخوان من جهة أخرى تدافع عن مواقعها أو تتراجع
تحت وطأة «الانكشاف» أو «صعوبة الأوضاع» من جهة أخري.
ـ
وفى هذه اللحظة الراهنة لعل من أبرز ما يمكن ملاحظته هو أن الرئيس عبد الفتاح
السيسى تمكن من «انتزاع» أو «تحييد الورقة الروسية» لصالح مصر على الأقل، ولم لا..
أليست مصر على حد تعبير وزير خارجية الاتحاد السوفيتى أندريه جروميكو ـ «الجائزة
الكبري» فى المنطقة، أو «ملك لعبة الشطرنج» مثلما قال لحافظ الأسد. إلا أن الجديد
هذه المرة هو أن مصر لا تقفز من «قوة عظمي» إلى أخرى بل تبدأ رحلة «التوازن
الدقيقة» و»التعايش الصعب« فى علاقاتها مع الولايات المتحدة. فبالرغم من كل
التحفظات، بل و«الحقائق الصعبة» فى علاقات القاهرة مع واشنطن، إلا أن «لعبة الأمم»
التى علينا أن نلعبها ونتفوق فيها ـ تفرض علينا أن نبقى «شعرة معاوية» بل ما هو
أكثر مع القوة العظمى الأكبر فى عالمنا. ولكن فى ذات الوقت فإن «رحلة الألف ميل»
فى توازن علاقاتنا الدولية تحتم أن «نقفز بقوة» بالعلاقات مع قوى تزداد حضورا على
المسرح الدولى وهي: الصين الهند البرازيل اليابان كوريا الجنوبية إندونيسيا. أما
بالنسبة للدوائر فعلينا ان نهتم بمنطقة آسيا الوسطى (كازاخستان وتركمانستان
وقرغيزيا.. الخ)، فضلا عن أذربيجان، وأيضا آسيا بصورة عامة ودول الآسيان (ثانى
أكبر تجمع اقتصادى بازغ بقوة).. وفيما يتعلق بالآسيان فنحن عضو مراقب، ولكن علينا
ان نتفاوض على اتفاقية تجارة حرة مع هذه الدول.
ـ
وأحسب أن «نظرة خاصة» يجب أن تعطى لإفريقيا، وأفضل أن يكون لدينا «وزير دولة
للشئون الافريقية» يسانده مجلس أعلى لتنمية التعاون الاستراتيجى مع إفريقيا. وهنا
لابد من تحديد الأهداف الاستراتيجية لمصر.. والتى أعتقد أنها كالتالي: تأمين حصة
مياه النيل، تعزيز التعاون الاستراتيجى مع دول حوض النيل، إنشاء منطقة تجارة حرة
مع دول الحوض، العمل على الوصول بحجم التجارة المتبادلة ما بين مصر وافريقيا إلى
«100 مليار دولار» خلال 4 سنوات، والوصول بحجم العمالة المصرية المدربة (أطباء ـ
خبراء فى الزراعة والرى مهندسين ـ معلمين.. الخ) الى مليون مصرى خلال 5 سنوات،
العمل على أن تصبح «القاهرة» النقطة الأهم فى ربط العواصم الإفريقية بالشرق الأوسط
والعالم العربى وآسيا خلال 5 سنوات، العمل على انشاء 50 مستشفى مصريا و50 مركزا
مصريا للمنتجات المصرية فى إفريقيا خلال 5 سنوات.
ـ
وتبدو هذه الدوائر البعيدة نسبيا.. فماذا عن الدوائر القريبة؟ وهنا فإن تهديد
«داعش» سواء فى سوريا والعراق، والذى يهدد الأردن ولبنان وصولا إلى مصر يفرض أكبر
تحد على الدولة المصرية وهى تعود لملء فراغ القيادة. وفى مقال لفريد زكريا فى
واشنطن بوست يتحدث عن «الصحوة الثانية للسنة» يناقش مسألة تحدى داعش وجاذبيتها فى
آن واحد. وينسب زكريا لأحد الدبلوماسيين الأوروبيين تفسيرا مهما لظاهرة داعش
فيقول: إن أكثر العوامل خطورة بالنسبة للدولة الإسلامية داعش ـ هى جاذبية
أيديولوجيتها. فلقد تمكنت من تجنيد الشباب السنى المهمش والساخط فى سوريا والعراق،
والذين يعتقدون أنهم يحكمون من قبل أنظمة كافرة ومرتدة عن الدين. وهذه الجاذبية
التى تدغدغ الشعور بالفخر لدى السنة قد فعلت فعلتها نظرا للسياسات الطائفية التى
اتبعتها حكومات بغداد ودمشق. كما أن الدولة الإسلامية نمت أيضا نظرا للسقوط الكبير
لكل من المعتدلين والعلمانيين بل وحتى جماعات ومنظمات الإسلاميين ـ مثل جماعة
الإخوان ـ بامتداد الشرق الأوسط.
ـ
إذن نحن وفقا لهذا التشخيص أمام حالة فراغ مخيفة، وحالة صحوة للغالبية السنية
بامتداد الشرق الأوسط، وأمام حالة «غياب النموذج الناجح» الذى يجتذب المهمشين
والساخطين فى العالم العربي. وهؤلاء وغيرهم يبحثون عن مشروع يلهمهم «وراية»
يحتشدون خلفها، وهنا يأتى »النداء الأخير« على الدولة المصرية لكى تتقدم وتملأ
الفراغ الرهيب فى القيادة. والحقيقة تقتضى المصارحة بأن «الحلول الأمنية» و
«التدخلات العسكرية» وحدها لن تكون الشافية، ولنا عبرة فى أن جحافل المقاتلين هم
من خريجى أقبية السجون والمعتقلات فى العالم العربي، وأيضا نتاج سياسات التهميش
و«الفشل الذريع» للأنظمة العربية فى سنواتها الأخيرة بعدم قدرتها على توفير الحد
الأدنى من الحياة الكريمة، ناهيك عن الإلهام، والإحساس بالكرامة والعزة، والتضحية
من أجل مشروع وطنى عملاق ينصهر فيه الجميع، ويعيد للأمة كرامتها وعزتها بعيدا عن
مشاريع التوريث ورأسمالية المحاسيب المتوحشة.. ويلخص زكريا استراتيجية هزيمة داعش
بأنها ليست أقل من «صحوة سنية ثانية»، ونحن من جانبنا انتفق مع وصفة «الصحوة
الثانية» ولكن لا نعطيها وجها طائفيا بل وجها يتسع للجميع من جميع أبناء هذه
الأمة. نحن مع شعار الأمة الخالد «الدين لله.. والوطن للجميع»، تلك هى المسألة.
وليس هناك من هو أقدر من مصر لكى تقدم الحل لأمتها العربية والإسلامية، الحل الذى
يكشف عن وجه الإسلام الحضاري، والمسلمين المعتدلين، والدولة المتسامحة مع الجميع ،
والحانية على الكل، والتى لا ترغب فى خلق المشاكل والنزاعات مع الإخوة والجيران.
ومن
هنا فإن مصر الجديدة بقيادة السيسى لم ولن تكون «جزءا من المشكلة» سواء فى ليبيا
أو غزة، بل جزء من الحل المشرف. وهذا ما تعمل من أجله «الدبلوماسية المصرية» فى
ليبيا، وحسنا فعلت فى قدرتها على جمع جميع دول الجوار حول ليبيا، ولعل فى محاولة
الوقيعة باتهام مفضوح لمصر والإمارات بشن غارات على ليبيا ما يكشف عن الانزعاج من
نجاح القاهرة فى لم الشمل، والتصرف بعقلانية وبروح «الكل فى واحد» والرضا بقيادة
مصر دون منغصات.
ـ
ويبقى أن مصر بقيادة السيسى خرجت حتى الآن منتصرة من المؤامرات الكثيرة لقوى
هامشية راودتها أحلام يقظة بأن مقعد القيادة شاغر ويمكن لها أن تملأ الفراغ!. ومن
المدهش أن «مقعد القيادة» فى العالم العربى كان شاغرا ويعانى من ترهل وشيخوخة وضيق
أقل وأحلام صغيرة، إلا أن المصريين فى 30 يونيو أزاحوا «عصابة التنظيم الدولي»
للجماعة وأخواتها، وانتصروا لحلم الدولة القوية، والمشروع «الصحوة الحضارية»،
وقيادة مصر لأمتها. والآن الجميع ينتظر بأمل، وأحسب أن بواعث الأمل مبررة. فمصر
عادت شمسها الذهب!. نقلا عن الأهرام