يبدو أن «باراك أوباما» اليوم ما زال لا يفهم كم هو مدين للرئيس الأوكراني «بيترو بوروشينكو». وإذا فعل، وإذا استمر وقف إطلاق النار وشروط التفاوض التي وقعها الرئيس «بوروشينكو» مع المتمردين الموالين لروسيا بجنوب شرق البلاد وأصدقائهم في موسكو، فإن «أوباما» سيشكر الرئيس الأوكراني مقابل هدية السلام التي لا تُقدر بثمن التي قدمها للأميركيين وحلف شمال الأطلسي وكذلك لمواطنيه.
ومنذ فترة ليست بالبعيدة قال الرئيس «أوباما» إن مبدأ سياسته الخارجية هو «عدم القيام بأشياء غبية». وفي الوقت نفسه تقريباً، كانت وزارة خارجيته، ووكالة المخابرات المركزية تقومان بجهد واضح في توجيه ودعم انقلاب في أوكرانيا، والذي كان على النقيض تماماً مع بيان «أوباما» حول سياسته. وكان أول إجراء يقوم به البرلمان الأوكراني عقب الانقلاب هو تمرير قرار يحظر استخدام اللغة الروسية في أوكرانيا، والتي تُعد اللغة الأم لما يزيد على خمس عدد السكان في أوكرانيا التي كانت دائماً تتشارك في التاريخ والدين والثقافة مع الأمة الروسية. ليس هناك ما يمكن أن يكون أكثر غباءً.
وكانت نتيجة هذا الانقلاب نشوب نضال مدني داخل أوكرانيا، وتحريض جزء كبير من الناطقين بالروسية في أوكرانيا، والمدعومين بصورة شبه سرية من قبل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ضد الأغلبية في الدولة.
وعلى الفور تفاعلت إدارة «أوباما» بتفجير حملة دعائية قوية لحرب باردة، حيث عرّفت هذه الانتفاضة التي قام بها المسلحون الناطقون بالروسية باعتبارها «غزوا هتلريا» لأوكرانيا التي ينبغي أن تسارع على الفور إلى الصد بوساطة الوطنيين الأوكرانيين، بدعم من حلف شمال الأطلسي، والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي (الذي تورط ضمناً في انقلاب فبراير، وكان لديه المرشح الخاص به ليحل محل الرئيس الأوكراني السابق والذي يراه البعض سيئاً، ولكنه منتخب بشكل صحيح وهو «فيكتور يانوكوفيتش» - والذي تمكن من اللحاق بآخر طائرة تغادر كييف).
وكانت مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية «فيكتوريا نولاند» على الساحة في كييف لتشهد الانقلاب وتوزع الكعك على المتشددين الذين تم إعدادهم لتنفيذ هذه الانتفاضة العنيفة. والآن يعرف الجميع عن المكالمة الهاتفية التي أجرتها «نولاند» مع السفير الأميركي في أوكرانيا «جيفري بيات»، حيث رفضت على نحو فج الاتحاد الأوروبي ومرشحه، وحددت المرشح الأميركي (الناجح) لرئاسة الحكومة بعد الثورة.
ومن الرائع أن أقول إن هذا الزميل الذي يبدو رثاً نسبياً «أرسيني ياتسينيوك» كان يحضر عشاء في البيت الأبيض مع الرئيس «أوباما» لتلقي التهاني القلبية على إنجازات الديمقراطية في أوكرانيا. وقد سبق أن ذكرت من قبل أن لا شيء أسوأ من حظر استخدام اللغة الروسية. لكنني كنت مخطئاً. فهذا التتويج المدني من قبل الرئيس الأميركي، والذي حظي بدعاية كبيرة، كان أكثر غباء، كما وصفته «نولاند».
وقد بدا ذلك دليلا على أن «باراك أوباما» كان على علم تام بما كانت تهدف إليه وكالات سياسته الخارجية في كييف في تلك الليلة من شهر فبراير. ولأنني كنت أكن احتراماً للسيد «أوباما» وأيدت انتخابه، فقد كنت حتى أحداث كييف أحسن الظن به، وكنت أعتقد أن «نولاند» والسيناتور «جون ماكين» ومؤخرا مدير وكالة المخابرات المركزية «جون برينان» قاموا بترتيب هذا الأمر مع أصدقائهم في الصندوق الوطني للديمقراطية في واشنطن، لتجنيب «أوباما» الحرج بسبب هذا التصرف الأميركي الضار وغير القانوني والمثير للسخرية.
وكنت حتى وقت قريب أشعر بأن السيد «أوباما»، وهو رجل له خبرة ضئيلة أو معدومة في الشؤون الخارجية، قد ترك، بحكمة، إدارة الحروب الأميركية للجنرالات -- بشرط أن ينتهوا منها قبل مغادرته البيت الأبيض، وهو الأمر الذي كان يبدو أنهم يفعلونه - وأنه ترك السياسة الخارجية والدبلوماسية للمسؤولين من «المحافظين الجدد»، الذين عينهم في مناصب عليا كبادرة على المواءمة السياسية وحسن النية تجاه قافلة الصقور (الجمهوريين) المؤثرة في واشنطن.
ومن الواضح أنني لم أكن الوحيد الذي أخطأ. فالمؤرخ السياسي «الواقعي» المتميز بجامعة شيكاغو «جون ميرشايمر» يضع كل ذلك في الشؤون الخارجية الحالية وكذلك الحال أيضاً مع «ستيفين كوهين»، المؤرخ الخبير في شؤون روسيا في جامعة برينستون، وذلك في العديد من المقالات والمحاضرات التي ألقيت مؤخراً حول هذه الأحداث. وأي شخص لديه اتصال مع البرامج الأميركية لنشر«الديمقراطية»، كما كان الحال معي، لابد أنه لمس منذ البداية ما الذي كان يحدث في أوكرانيا.
ولحسن الحظ (كما نأمل من أجل أوكرانيا والغرب) أنه تم إجراء انتخابات لتعيين رئيس جديد، وهو المنصب الذي فاز به السيد «بوروشينكو» وهو شخص ذو نفوذ وثروة له صلات سياسية ويعمل في مجال صناعة الحلوى «ملك الشوكولاتة» ولديه مصالح تجارية مع روسيا. وعلى الفور، أظهر السيد «بوروشينكو» ذكاءه وحبه لشعبه، حيث اقترح وقفاً لإطلاق النار في الحرب الأهلية، تتبعه مفاوضات سياسية لاحقة، وتسويات مع مواطنيه المحبين لروسيا والناطقين باللغة الروسية (ومؤيديهم العسكريين، ومن بينهم عدد من الشباب المصحوبين بأسلحة من روسيا، والذين يسافرون أثناء العطلة). ويبدو أن كلا من الجانبين اتفقا على أن أي تسوية يجب أن تتضمن تمديد نطاق الحقوق والتمثيل السياسي للأوكرانيين الناطقين بالروسية في شرق وجنوب شرق البلاد، مع احترام عاداتهم وثقافتهم.
وفي الوقت نفسه، فإن الشعب الروسي، وفقاً للصحافة الأجنبية، يتحدى العقوبات المفروضة من الغرب، ويبتهج لبراعة فلاديمير بوتين ورباطة جأشه في توحيد شبه جزيرة القرم مع روسيا رداً على المضايقات الدولية التي نتجت عن الجهود الخطيرة لإدارة «أوباما» – والتي لم يتم تفسيرها حتى الآن للمواطنين - لدفع حدود «الناتو» العسكرية ضد حدود روسيا، على ما يبدو لتقويض حكومة هذه الدولة. هذا بالتأكيد ما يمكن وصفه بـ «القيام بأشياء غبية». نقلا عن الاتحاد