نظام عالمي جديد» يفتقر العالمية الجامعة وقيود التنظيم
أفضت عقيدة توازن القوى الكبرى واقتسامها النفوذ في العالم، أواسط القرن التاسع عشر الى عقيدة أخرى خلفتها نبهت الى وجوب إقرار النظام والسلم على تغيير المجتمعات وثقافاتها، من جهة، وعلى عموم «التجارة الرخية» (من دون قيود) أو المجتمع الصناعي، من جهة أخرى. فيحل هذا محل النظام العسكري، وتقويه هيئات وهياكل حقوقية وقانونية تحول دون جموح العنف الى أقاصيه المدمرة. وغداة قرن من علاقات دولية لم تعكرها الحروب المتواصلة، أدى القيام على الامبراطوريات باسم النزعات القومية، وتنافس الدول «الناشئة» الكبيرة، وضعف الامبراطوريات المتهاوية الى حرب 1914-1918. فدمرت «المفاجأة التقنية» (ريمون آرون) التي انطوت عليها الحرب، وتفشي الأيديولوجيات الثورية القومية والشيوعية، عوامل النظام الاوروبي. وتضافرت الحروب الاستعمارية، وأزمة 1929 الاقتصادية، والنزاع المثلث بين النازية والشيوعية والليبرالية، لافتتاح عصر ملأته منافسات عنيفة، سادته الانعطافات غير المتوقعة والقوة، على خلاف إعمال «التحكيم والأمن ونزع السلاح» (اريستيد بريان).
وجمعت الحرب الثانية فظائع الحروب وأهوال المجازر التوتاليتارية (الكليانية). وأثمرت الحرب محق النازية وغلبة الولايات المتحدة، وعالماً ثلاثي الاقطاب: في الغرب استتب نظام دولي سلمي مزدهر رعته هيئات انغلو- أميركية المصدر (بريتون وودز، خطة مارشال...)، أبعد طيف الحرب في دائرة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. وهيمنت على شرق أوروبا، وشطر من وسطها، القوة السوفياتية، وتوسلت أيديولوجيا مفروضة، ومحاكمات مفبركة، وسجوناً اعتباطية. والقطب الثالث هو الامم المتحدة التي سعت في نشر نظام دولي أو أممي استلهم مبادئ عصبة الامم، قبل الحرب الثانية. لكن سلطات مجلس الامن وحق النقض الذي يتمتع به الاعضاء الخمسة الدائمون جعلته هيئة تنسيق عليا لم يلبث نزاع الشرق والغرب أن جمّدها. واضطلعت الأمم المتحدة بدور رمزي في استقلال الدول المستعمَرة، وخلخل دورها المضطرب بروز القوى الآسيوية الكبيرة (الصين والهند واليابان على نحو مختلف) وانفجار نزاعات جديدة مثل حرب كوريا في الأعوام الأولى من خمسينات القرن العشرين.
وانتظم التوتر الدولي حول محورين: شرق وغرب، وشمال وجنوب، وهما محوران مختلفان ومتضافران معاً. وتوَّج المحور الأول خلافات الأنظمة السياسية، والسباق على التسلح النووي، والتعاون للحؤول دون إفضاء السباق الى الكارثة. أثمر التعاون حواراً أميركياً- سوفياتياً، ومفاوضات نجم عنها نزع سلاح جزئي والتزام القوتين العظميين معاهدة حظر انتشار أسلحة الدمار الشامل. وكرس مؤتمر الأمن في أوروبا، واتفاقات هلسنكي التي ولدت من مناقشاته، سياقاً أدى الى انحلال النظام السوفياتي وتداعي معسكره.
وتوقع فرنسيس فوكوياما وصمويل هنتينغتون، معاً وفي آن، نهاية التاريخ وصدام الحضارات. وكذب ابتداء الألفية الثالثة التوقّعين وصدّقهما: فالعولمة هي الواقعة الغالبة، وهو ما توقعه فوكوياما، إلا أنها لم تتوج بانتصار الرأسمالية والديموقراطية بل كانت فاتحة أزمتهما والقيام عليهما على نحو غير مسبوق. وتتبوأ منازعات الهوية التي نبّه اليها هنتينغتون، مكانة مركزية ومتعاظمة، غير أن اطراف هذه المنازعات ليست حضارات متماسكة، نواتها معتقدات دينية تقتتل وتتحالف... بل إن الأطراف المتقاتلة هي غالباً صيغ متفرقة من المعتقد الواحد أو أمم مختلفة. وأزمة الدول الوطنية، تحت وقع العولمة والهجرات والنزعات المحلية وعصبياتها، لم تضعف القوميات- الكاتبان التقيا على إغفالها- التي قويت شوكتها ونزعت الى اطراح الأجانب أو عصفت بها مطامع سيطرة امبريالية، أو جمعت الأمرين، وهي حال روسيا اليوم.
ومنذ الحادثين المحوريين، الهجوم على مركز التجارة العالمية في 2001 وانفجار الأزمة الاقتصادية العالمية في 2007، يستحيل جعل تحليل أشكال التفاعل والتداخل والاستتباع بين صناع السياسة مقتصراً على الدول وكياناتها الحكومية وحدها. فضعف التجانس بين الفاعلين سمة بارزة من سمات العلاقات والمنازعات الدولية والإقليمية والمحلية. وهو يتطاول الى طبيعة هؤلاء، وما تتماسك به كياناتهم وثقافتهم المتعصبة والعدوانية، أو المائلة الى «فردية متملكة» والسعي في الرخاء. لذلك لم يفقد تبويب القوى كبيرة وصغيرة، حكومية وخاصة، داخلية وخارجية، مدنية وعسكرية، دلالته وحقيقته، إلا أن تشويشاً حاداً دخل عليه، وقلب معاييره. وتشهد النزاعات التباساً قوياً طرأ على علاقة الأبعاد المحلية والاقليمية والشاملة.
فظواهر التفتت والعدوى، واجتماعها في آن وفي مكان واحد، تجعل فرض السِّلم بواسطة الامبراطورية أو بواسطة القانون متعذّراً. وأما السلم بواسطة التوازن فيعرقله رسوه على اختلالات ينفرد واحدها بديناميته الخاصة التي تحول دون التحكيم والاتفاق الشاملين. ولا شك في ان الحرب الباردة وحروب الاستقلال طوت بعض النزاعات، إلا أنها أحيت نزاعات من أصناف أخرى، وأنشأت دولاً ضعيفة المناعة من الصراعات القومية (العرقية) والانقلابات العسكرية، والحروب الاهلية المزمنة، والإبادة. وتلد هشاشةُ أشباه الدول وانقساماتها وغلبةُ رأسمالية غير مقيدة وعولمة تحملها الثقافات غير الغربية على عدوان غاشم عليها، ردوداً أصولية أو تقليدية متزمتة تتغذى من ضغائن مكبوتة، وتبيّت ثارات ورغبات محمومة في انبعاث أمجاد ماضية. والعولمة التحديثية تتولى نازعين متناقضين: فهي تخرج شطراً كبيراً من سكان البلدان المتخلفة، من الفقر، وتهمش شطراً آخر وقد ترمي به في لجّة الجوع والعوز، بينما تنشئ طبقات متوسطة جديدة ومتعلمة تميل الى الغرب، وتتبنى مبادئه. وقد تتمرد الطبقات المتوسطة الناشئة سلمياً على حكوماتها المستبدة والفاسدة والمتعصبة، أو تختار الهجرة بحثاً عن العمل والحرية فتثير، في الحواضر الغربية، انغلاقاً ولفظاً.
ومن الجماعات غير المستقرة العصابات، والمافيات، والميليشيات. وهي تجمع، على نسب متفرقة، التهريب والقرصنة والارهاب المتشدد. ويخلف جمعُ ثروات البلدان الريعية الى عمليات رأسمالية من غير وازع أو ضابط، ظاهرة الفساد العالمية والعنف المرتبط بها.
هذه الظواهر نجمت عن ثورتين: ثورة وسائل الاتصال، وثورة وسائل الدمار. ويؤثّر مزيج الاثنتين ووسائلهما تأثيراً مباشراً في تدخل الدول الغربية على مسارح البلدان المستعمَرَة سابقاً. فالخصم في هذه الاحوال أقوى تنظيماً وعتاداً مما كان في عهد الحروب الاستعمارية، وإذا افتقر اليوم الى سلاح دمار شامل، فهو يملك وسائل اتصال وتحريض حديثة، وأسلحة لا يفوق إعدادها طاقته (مثل السيارات المفخخة والمتفجرات المحلية الصنع). والعملية الانتحارية، أو «القنبلة البشرية»، سلاح جديد وفاعل في متناول الارهابيين الذين لا يقتصدون في استعماله.
في ضوء هذه العوامل، يستحيل على دولة ديموقراطية غربية، الفصل بين عملياتها العسكرية البعيدة وبين حياتها السياسية الداخلية. فالولايات المتحدة لم تخسر الحرب في فيتنام في الميزان العسكري، بيد أنها اضطرت الى الإقرار بهزيمتها نتيجة رفض الكونغرس تمويل العمليات هناك، واستجابته رأي الاميركيين في الحرب وفي موت أبنائهم في معركة لا نهاية لها. وقررت حكومة الولايات المتحدة إلغاء الخدمة العسكرية الإجبارية، شأن الدول الغربية الاخرى. فافتقرت الى عدد الجنود الذين تحتاج اليهم في سبيل خوض الحرب، وفرض السلم، والاستمالة الى الديموقراطية وبناء الدولة.
وعالجت الولايات المتحدة صعوبات «الجنود في الميدان» باللجوء الى الحرب الخفية من بُعد. واستراتيجيتها الحالية تمزج الحرب البحرية والحرب الجوية، وتقدمها على البر. فيتبارى الانتحاري الساعي إلى موت اكيد ومحرك الطائرة من غير طيار في حجرة قيادته الآمنة. وثمة سلاح من صنف آخر يدخل في باب ما سمّاه دومينيك مونجان سلاح «التخريب الشامل» أو «سلاح الحرب في وقت السلم»، وهو السلاح السيبيري، ويرجح أن بكين تخوض حرباً تجارية دائمة سلاحها التسلل الى الحواسيب الاجنبية. ويبدو أنها نجحت في استنساخ تصاميم المقاتلات الاميركية. وتتجسس وكالة الامن الوطني (الاميركية) على العالم كله، ولا تعف عن القادة السياسيين، ولا عن التسلل الى الشبكات الصينية. وهي لوّثت المولدات النووية الإيرانية بجرثومة ستاكسنت، فانتقلت العدوى جزئياً الى حواسيب غربية. وعمد الإيرانيون الى تلويث حواسيب اميركية، انتقاماً. وشلّت روسيا، أو منظمات قومية تستلهم سياستها، نظام استونيا المعلوماتي اقتصاصاً من نقلها تمثالاً سوفياتياً.
نقلاً عن الحياة