أينما تلفّت الأميركيون ألفوا سبحة أزمات تكر: العدوان الروسي في أوكرانيا، والتطرف والفوضى في العراق وسورية، ووباء قاتل في غرب أفريقيا، وتوترات حدودية في بحور شرق الصين وجنوبها، واقتصاد دولي ضامر النمو لا يذيع الازدهار. ويبدو أن النظام الدولي الليبرالي الذي سعت الولايات المتحدة طوال عقود في إرسائه والدفاع عنه، يتعرض لضغوط أو يواجه تحديات من كل حدب وصوب. ولا عجب في أن كثيرين من الأميركيين يشعرون بالحيرة والافتقاد الى يقين، والخوف على دور أميركا ومستقبلها في العالم.
في كتابه الجديد، «وورلد أوردر» (النظام العالمي)، يشرح هنري كيسنجر الأبعاد التاريخية لتحديات اليوم. وفيما خلا بعض أوجه الخلاف في سياسات معينة، يوافق تحليله استراتيجية أوباما في الاعوام الستة الماضية، الرامية الى إرساء بنية عالمية للأمن والتعاون في القرن الواحد والعشرين. وفي الحرب الباردة، أجمعت الثنائية الحزبية في أميركا على حماية مجتمع الأمم الملتزمة الحرية واقتصاد السوق والتعاون، ونشر القيم هذه. وانعقدت ثمار المساعي هذه وجناها العالم وأميركا. ويبدو تلخيص كيسنجر الرؤية الاميركية هذه في محله: نظام تعاون لا ينفك يتوسع ويجمع دولاً تلتزم قواعد ومعايير مشتركة وتلفظ (نهج) احتلال الاراضي، وتحترم السيادة الوطنية، وتنتهج أنظمة حكم ديموقراطية». وساهم هذا النظام الذي رسخته القوة العسكرية والديبلوماسية الاميركية والتحالف مع دول تجمعها قيم متشابهة، في هزيمة الفاشية والشيوعية، وفي جني الاميركيين وبلايين من الآخرين مكاسب هائلة. لكن عدداً كبيراً من الناس حول العالم، خصوصاً الجيل الشاب، لم تبلغهم قصص النجاح هذه. لذا، علينا إظهار ما هي القيادة الأميركية...
ويتساءل كيسنجر: «هل نحن في مرحلة تولي قوى منفلتة من عقال كل نظام (عالمي متعارف عليه) رسم وجه المستقبل؟». والسؤال ليس غريباً عني. فيوم دخلتُ وزارة الخارجية الاميركية في كانون الثاني (يناير) 2009، كان ثمة إجماع على أننا في مرحلة تغيرات واضطرابات محيرة وغامضة، لكن الاجماع كان ينفرط عقده في مرحلة تحديد القصد منه.
فهل الازمة الاقتصادية ستنتهي الى اشكال تعاون جديدة أو تحيي الخلافات الحمائية؟ وهل التكنولوجيا الجديدة تساهم في محاسبة المواطنين القادة أو يتوسلها الديكتاتوريون في ملاحقة المعارضين؟ وهل تساهم القوى «البارزة»، على غرار الصين والهند والبرازيل، في حل المشاكل الدولية أو تنفخ في الاضطراب؟ وهل نفوذ اللاعبين غير الدوليين يُعرَّف بتهديدات الشبكات الارهابية والمجموعات الاجرامية أو أعمال المنظمات غير الحكومية المقدامة؟ وهل الترابط المتعاظم بين دول العالم يشد لحمة التضامن أم هو مصدر صراعات جديدة؟
دار كلام اوباما على التحديات هذه في خطاب تسلمه جائزة نوبل عام 2009، وقال: «اميركا وجهت دفة العالم في بناء بنية تحفظ السلام... ولكن، إثر مرور عقد على القرن الجـــديد، بدأت البنية القديمة تتداعى على وقع أخطار جديدة».
وأشعر بالفخر إزاء مساعدتي الرئيس في تصور النظام العالمي وترسيخه من أجل النزول على تحديات عالم متصل ومترابط. وفي ولاية اوباما الأولى، أرسينا الأسس، بدءاً من تقويم التحالفات مروراً بتطوير المؤسسات الدولية وصولاً الى قرارات حاسمة لمواجهة تحديات مثل ملف ايران النووي وتهديدات أسامة بن لادن. لكن أزمات ولاية أوباما الثانية سلطت الضوء على طابع هذا المشروع (مشروع ارساء نظام عالمي جديد) الطويل الأمد (على مدى أجيال)، وهو يقتضي التزام الولايات المتحدة وحلفائها في الأعوام المقبلة.
ويكتب كيسنجر أن السياسة الخارجية ليست «قصة لها مقدمة وخاتمة» بل هي «سيرورة إدارة تحديات دورية وضبط إيقاعها. ويعيد كلامه الى الاذهان ملاحظة جون أف كينيدي أن السلام والتـــطور «لا يستندان الى ثورة أو انعطاف مـــفاجئ في طبيعة الانسان بل الى تطـــور تــدريجي في المــؤسسات الانسانية...اي إلى سيرورة، نهــج في حل المشكلات».
وأميركا هي أمة «حلاّلة» (تحل خيوط النزاعات المتشابكة وتوضبها وتجمعها) مشاكل. والتزامها تجديد النظام العالمي وحمايته يوجه دفة المستقبل نحو السلام والتقدم والإزدهار. وشاغل شطر كبير من كتاب «النظام العالمي» هو سبر هذه التحديات. وكيسنجر يملك مَلَكَة الجمع بين الخطوط الرئيسية والاتجاهات، فينتقل من سلم فيستفاليا الى التحليل المجهري، من سن تزو (سون وو) الى تاليراند ومنه الى تويتر.
ويربط بين الرؤية الهندية والملاحم الهندوسية، وبين الرؤية الاسلامية وحملات الرسول، وبين الرؤية الأوروبية ومذابح حرب الثلاثين عاماً (ويستنبط أوجه شبه بينها وبين حوادث الشرق الأوسط اليوم)، وبين الرؤية الروسية و«مدرسة السهوب الموحشة والقاسية» حيث درجت عشائر رحالة على التنافس على موارد أراضٍ لا حدود مستقرة لها». وبصيرته الواسعة هذه تقرب الى الفهم عدوان بوتين اليوم والطريقة الايرانية في التفاوض، لكنها تطرح سؤالاً عسيراً: «كيف تجمع تجارب تاريخية مختلفة وقيم متباينة في نظام مشترك؟».
يرى كيسنجر أن كلاً من الدول النامية في آسيا، ومنها الصين، لها رؤيتها الخاصة الى النظام الاقليمي والدولي. والرؤية هذه تتأثر بتاريخها وأوضاعها اليوم، وسبل مقاربة هذه الرؤى المتباينة ترسم وجه تصدينا للتحديات العالمية. وتسعى واشنطن إلى إيجاد توازن بين نسج علاقة تعاون مع الصين وبين التعاون مع الآخرين من غير التفريط بالمصالح والقيم في منطقة مزدهرة.
ولا يخفى أن وقع الديبلوماسية المنهجية أو المنظمة والمتعددة الاقطاب بطيء ومحبط، وثمارها تتأخر، وغالباً ما لا تتصدر العناوين في أميركا، لكنها تخلّف آثاراً إيجابية في حياة الملايين. وأبرز تحديات النظام الدولي وأكثرها تعقيداً هي تلك التي تدور في الشرق الأوسط: «الجمع بين تنظيم النظام الإقليمي والحرص على تناغمه مع السلام والاستقرار في انحاء العالم».
ولا تقوم قائمة لنظام دولي من غير أن يجمع «القوة الى المشروعية»، كما يكتب كيسنجر ويفاجئ القارئ. فملاحظته هذه، هو «الواقعي» الذائع الصيت، تجلوه على صورة مثالي. وهو يذكر القارئ بأن لدى التنازع بين القيم الأميركية والأهداف، لا تنجح أميركا إلا عبر التمسك بمبادئها وقيمها، وتتولى القيادة من طريق إشراك الشعوب والمجتمعات، وليس التعاون مع الحكومات فحسب.
نقلاً عن الحياة