المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. شريف يونس
د. شريف يونس

أزمة الجمهورية الثانية مع قوى النظام القديم

الإثنين 13/أكتوبر/2014 - 11:14 ص

وفَّرت دولة يوليو فى مرحلة تحللها المباركى البيئة الاجتماعية المناسبة لنمو وتوحش الصحوة الإسلامية. فانتهاك كرامة الأفراد واهتراء جهاز الدولة الذى تحول إلى خدمة فساده الخاص وما يرتبط به من مجموعات مصالح، وسيادة الاستثناءات، وتراجع الخدمات، وباختصار مجمل ما سميتُه خصخصة الدولة كدولة. أفقدت النظام الثقة والاعتبار، وتركت المجتمع نهبا لكل جماعات النفوذ، ليتحلل إلى عصبيات قديمة (قبلية أو عائلية) أو حديثة (القضاة، الشرطة، الخارجية) تقوم فعليا بتوريث وظائفها وتتمتع بالتالى بامتيازاتها القانونية بوصفها طائفة. ومع السقوط الفعلى لدولة القانون لصالح دولة النفوذ والعصبيات التى كان معيار سلطتها القدرة على خرق القانون، تم إلقاء باقى السكان فى هوة بلا قاع، معرضين لتغول مجموعات المصالح التى ورثت الاستبداد الناصرى، لتعتدى على كرامتهم وأرزاقهم، وتلحقهم بها فى منظومة الفساد، من الرشوة إلى البلطجة.

فى هذا الوضع، أصبحت التنظيمات الإسلامية الأهلية والسرية والسياسية والدعوية ملجأً بديلا عن دولة، أصبحت كيانا عدوانيا متطرفا، وراعية فعلية لجميع أشكال العدوان المجتمعى. وتفاقم نفوذها بفعل الصفقة التى عقدها معها نظام مبارك، ومؤداها ترك المجتمع لهم مقابل عدم تكفير النظام، فضلا عن منافستهم على الشرعية الإسلامية من خلال أسلمة التعليم والإعلام الرسميين.

بهذا المنطق، لا يمكن مواجهة الإرهاب، خصوصا مرتكزاته فى الداخل، إلا بالتصفية الدءوبة لمجمل تراث دولة مبارك، الذهنى (ولا أقول العقلي) والعملي. بعبارة أخرى، لا يمكن أن تقوم شرعية الجمهورية الثانية على محض جهود التخلص من خطر الإسلاميين، بل بإعادة بناء شاملة للدولة المهترئة التى وفرت الأرضية المُثلى لـ«الصحوة الإسلامية».

لذلك، فإن أخطر ما يواجه شرعية الجمهورية الثانية هو ذلك التيار العالى الصوت، بفعل اتساع إمكاناته، الذى يعبر عن مختلف مصالح دولة مبارك المُخَصْخَصَة، بمرتكزاته القوية فى الاقتصاد الخاص، المرتبطة بمواقع نافذة، مثل الإعلام والشرطة والقضاء وجهاز الدولة عموما، خصوصا القطاعات العاملة على خصخصة التعليم والصحة ومختلف الخدمات الحكومية وفقا لبرامج المعونة الأمريكية ومخططاتها. يرتكز خطاب هذه القوى على أن ثورة يناير مؤامرة (وبالتالى على نظام صالح أو جيد)، بهدف اختزال انتفاضة يونيه إلى مجرد ثورة على الإخوان، الذين لا يعتبرون فى هذه الحالة مختطفى ثورة يناير، بل مختطفى الدولة من النظام القديم المطلوبة استعادته (وهو للمفارقة نفس كلام الإخوان الذين يختزلون الثورة فى عصبتهم). يتمثل «البرنامج» الوحيد لهذه القوى فى استعمال الدولة فى قمع المجتمع مجددا، بذريعة مكافحة الإرهاب.. أو باختصار، أن يمسك الرئيس قرنى البقرة بينما يقومون بحلبها.

مشكلة هذا التيار، فضلا عن توحشه، أنه لا يملك أى رؤية لتجاوز الماضى ولا لبناء المستقبل. وفوق ذلك، لا يمثل معسكرا متضامنا مستقرا، لأنه ليس سوى مجموعة من المصالح المتصارعة على أسلاب البلاد، وهو ما تجلّى فى التفكك المتزايد للحزب الوطنى إلى جماعات متناحرة فى النصف الثانى من حكم مبارك، سواء داخل ما سُمِّى الحرس القديم أو الجديد.

بينما يتيح هذا الوضع للرئيس أن يناور بينها فإنه لا يتيح التخلص منها كليَّة. فتمترسها فى مواقع إنتاج الثروة والنفوذ والخطاب الإعلامى (على انحطاطه) يجعل منها، ككل، «شريكا» موضوعيا. بعبارة أخرى يصعب استبدالها كليةً. وبالتالى يتمثل طريق الإصلاح المتاح فى تقويمها بسياسات عامة، تشمل استعادة ما نهبته من ثروات البلاد بالاستيلاء أو بـ«الشراء» بالبخس، وكذلك اتباع سياسات تمييز لمصلحة عناصرها الأكثر استجابة للإصلاح.

يختلف هذا التصوُّر عن الإصلاح تماما عن «الصفقة» التى تحاول هذه القوى إجراءها مع الجمهورية الثانية. تقوم هذه الصفقة على شراء «صكوك الوطنية» بالإنفاق على تأييد الحرب ضد الإرهاب، أو الدعاية «الوطنية» فى الداخل والخارج، مقابل الحفاظ على الامتيازات، أو أكبر قدر منها، ثم توسيعها لاحقا. وهى الصيغة نفسها التى قام عليها نظام مبارك. يعنى ذلك أن تصبح الوطنية سلعة، يشتريها من يملك المال والنفوذ، ليمتلك الوطن بمقتضى هذا الشراء، ويعاد تهميش معظم سكان البلاد مرة أخرى على الطريقة المباركية، باعتبارهم «الباقى» الذى لا لزوم له، ولا حقوق بالتالى.

يعنى الإصلاح إذن التحطيم التدريجى لشبكة الفساد النافذة داخل جهاز الدولة، سواء بالمحاباة فى التعيين فى الوظائف، أو «بتيسير» سريان المصالح، أو بتخصيص المشروعات لشركات بعنيها، أو بـ«التساهل» فى تسلم المشروعات بعد تنفيذها، أو بتوجيه التشريعات لتدعيم الصادرات على حساب الموازنة العامة، الأمر الذى يعنى دعم المستهلك الأجنبى والمجموعات المستفيدة على حساب ثروات البلاد الطبيعية، بل والبشرية. ويعنى فوق ذلك، مواجهة أيديولوجيا النهب الاستبدادية باسم «التنمية» التى سادت فى عصر مبارك.

فى المقابل، هناك تيار آخر، يرى أن تحقيق هذه الأهداف يتطلب إعادة بناء دولة يوليو، لكن على النمط الأقدم، الناصري. برغم أن هذا طرح آخر يحتاج ربما إلى مقال مستقل، فإنه فيما يتعلق بموضوعنا هنا، يقدم فى الحقيقة مرتكزا لشبكات الفساد. فشبكات الفساد المذكورة تحتاج إلى حزب رسمي، على طريقة الحزب الوطني، يمثل «الجناح المدني» فى الحرب على الإرهاب، فيحتكر الوطنية، وبالتالى الموارد العامة، وتلتف حوله المجموعات الطامحة المتصارعة على النفوذ، ليعيد بناء الرابطة القديمة بين دولة بوليسية فاسدة وجماعات مصالح تستثمر فى هذا الفساد نفسه. كان هذا هو بالضبط ما وجده عبد الناصر فى تجربته مع «الاتحاد القومي»، حيث تسيدته العناصر السائدة فى مختلف القطاعات والمناطق، فى كل مستويات الاتحاد التى أُجريت فيها انتخابات. وهو ما أدى به فى النهاية إلى التأميمات (المستحيلة الآن) لإنقاذ النظام. لكن هذا الإجراء لم يَحُل فى النهاية دون سقوط النظام ككل فى أيدى مجموعات المصالح النافذة.

فى نهاية المطاف، سيظل القطاع الخاص هو المكوِّن الرئيسى للاقتصاد. وبالتالى فإن الأزمة الحقيقية للجمهورية الثانية فى هذا الصدد هى أن معظم الفئات الاجتماعية المالكة والنافذة ليس لديها مشروع لبناء البلاد، بل فقط الاستثمار فى تدمير المواطنة وبناء مواقع النفوذ الحصينة، لا يختلفون فى ذلك عما سُمّيَ الإضرابات الفئوية. بعبارة أخرى، لم ترتق هذه الفئات بعد إلى أن يكون لها تمثيل سياسى (مع التشديد على كلمة سياسي)، أى رؤية عامة للمستقبل، تدعم المنافسة الشفافة وتضبط القوانين الاقتصادية، وتحفظ التوازن الاجتماعي، بما يبرهن على جدارتها السياسية والاجتماعية لاستعمال مواردها الواسعة لتحقيق تنمية مستدامة. ما لم يبرهن البرلمان القادم على قدرة بعض قطاعات الطبقة المالكة على تجاوز مأزقها التاريخى هذا، سيصبح البرلمان هامشيا فى صياغة السياسات العامة، إن لم يكن قوة تسعى للحفاظ على فساد الدولة المباركية.

 نقلاً عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟