المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

البحث عن المكانة: إشكالية الدور الخارجي المصري

الإثنين 20/أكتوبر/2014 - 12:19 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
محمود جبر

في ظل تشابك المصالح عالميًّا وإقليميًّا، وتلاشي الحدود بين الداخل والخارج، والتأثير الكبير المتبادل بينهما، لم يعد في إمكان أية دولة حماية مصالحها العليا في عزلة عن محيطها الخارجي، ودون القيام بدور في هذا المحيط بدافع حماية مصالحها، وتقليص التأثيرات السلبية لهذا المحيط على تلك المصالح، وتعظيم الفرص المتاحة به لتحقيقها.

ولا شك أن المصالح الوطنية لدولة مثل مصر بما لها من موقع جغرافي وإمكانات ورسالة حضارية فرضت عليها الاهتمام بالمحيط المجاور لها، وربما أبعد من هذا المجال. فعلى مدى تاريخها كانت مصر مُستهدَفة دائمًا من قِبَل الخارج، وهو ما فرض عليها أن تهتم بهذا الخارج، وكان هناك دائما ما يستجد من الأحداث والتطورات بما يرسخ لديها قناعة بأن قيامها بممارسة دور خارجي ليس ترفًا أو خيارًا بقدر ما هو ضرورة حتمية للدفاع عن مصالحها الحيوية وأمنها القومي.

كما أثبتت التجربة التاريخية أيضًا أن العالم العربي هو المجال الطبيعي لممارسة مصر لوظيفتها الإقليمية. ففيه يجتمع الحد الأقصى من كثافة وفاعلية السياسة المصرية الخارجية، وكذلك من جدواها ومردودها أو عائدها على المصلحة المصرية، والأمن القومي المصري.

ورغم أن دور مصر الإقليمي شهد تأرجحًا ما بين القوة والضعف؛ نتيجة لعلاقات التأثر والتأثير بين البيئة الداخلية للدولة المصرية، والبيئة الخارجية لها –تفاعلات النظام الدولي والإقليمي- إلا أن تطورات الأوضاع بمصر وخارجها أكدت -بما لا يدع للشك- أن قيام مصر بدور خارجي قوي ونشط كان له مردود إيجابي على الداخل المصري؛ حيث الاستقرار والتنمية، والعكس عندما تَراجَع دور مصر، ومال إلى الانعزال عن محيطها الطبيعي، المحيط العربي، كان له مردود سلبي.

فمصر القوية هي التي تمارس دورًا إقليميًّا نشطًا ومؤثرًا، والعكس تقوقع مصر وتراجع دورها هو انعكاس لضعفها. وفي ذلك يقول د. جمال حمدان: "مقياس قوة مصر السياسية الحساس هو العزلة و/ أو الانطلاق. إنه ترمومتر حرارة القوة المصرية الذاتية، وباروميتر ضغطها السياسي الدولي". ودائمًا ما يثار الجدل موسعًا حول الدور الإقليمي لمصر في أوقات الأزمات أو فترات التحول المفصلية للدولة المصرية أو المنطقة العربية كالتي نشهدها حاليا.

ومن هذا المنطلق، كان من الطبيعي أن يثار الحديث من جديد داخليًّا وخارجيًّا حول طبيعة الدور الخارجي لمصر عقب الحراك الثوري الذي شهدته المنطقة العربية فيما أطلق عليه الربيع العربي، وسقوط نظام مبارك في مصر عقب ثورة 25 يناير 2011، ثم نظام جماعة الإخوان المسلمين عقب الموجة الثانية في 30 يونيو 2013، وما تلا ذلك من تغييرات عدة على المجتمع والسياسة في مصر، تترك أثارها بالضرورة على سياسة مصر الخارجية، توجهًا وممارسةً ومؤسسةً، بما يزيد من فرص مصر في عودة دورها الإقليمي مجددًا لممارسة مهامه في دائرة نفوذه التقليدية، بعد أن تحررت من القيود التي فُرِضت على السياسة الخارجية إبان العقود الأربع السابقة، وأصبح لمصر قدرة على مراجعة سياستها الخارجية في مختلف الدوائر، بما يجعلها أكثر استجابة للإرادة الشعبية المصرية.

الجدل حول طبيعة الدور المصري انصب في مجمله على توجهات النظام السياسي الجديد في مصر، ومن ثَمَّ التساؤل حول ماهية الملفات الرئيسة على أجندة السياسة الخارجية للنظام الجديد، وهل سيتبع النظام الجديد في مصر الراديكالية نهجًا له كما يحدث لكثير من الدول في أعقاب الثورات، أم سيفرض الواقع الإقليمي والدولي اتباع نهج برجماتي بحت، وما هي السيناريوهات التي تترتب على كل نهج، وهل تستعيد مصر دورها الرائد على غرار مصر الناصرية، أم تنكفئ على ذاتها على غرار مصر السادات –مبارك.

ورغم مشروعية وأهمية تلك الأسئلة، إلا أنه قبل الدخول في خضم ذلك الجدل لا بد أن ندرك أن الدور الخارجي لمصر كان دائمًا رهن ثلاث إشكاليات رئيسة تتحكم في صياغته، ويجب أن تكون صوب عين صانع القرار والسياسة الخارجية المصرية:

د. جمال حمدان: "مقياس قوة مصر السياسية الحساس هو العزلة و/ أو الانطلاق، أنه ترمومتر حرارة القوة المصرية الذاتية وباروميتر ضغطها السياسي الدولي"

أولاً: إشكالية العمق الحضاري- التاريخي

مصر دولة قديمة، وربما تكون الأقدم في التاريخ البشرى، ولديها تراث حضاري متعدد المراحل جعلها إحدى الدول القليلة المعروفة لدى كل شعوب الأرض، كما أنها مارست دورًا خارجيًّا نشطًا على المستوى السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي في مراحل تاريخية مبكرة ومختلفة، على نحو شَكَّل أحيانًا خرائط المنطقة.

والتطورات اللاحقة في تاريخ مصر الحديث والمنطقة لم تُفعَّل سوى أن تؤكد الدور الإقليمي لمصر، وإن كانت قد وسعت من بعض عناصره خلال فترات قوة الدولة المصرية، كما شهدت تجربة محمد علي والرئيس جمال عبد الناصر.

فقد أدرك محمد علي -بوعيه الفطري وتكوين فكره الإستراتيجي، وهو بصدد بناء إمبراطورية مصرية قوية- أن هناك علاقة عضوية بين مصر والبيئة المحيطة بها، لا سيما منطقة بلاد الشام.

وفى هذا الصدد كتب البارون "كوهرن" من وزارة الخارجية الفرنسية عام 1829 في تقرير دبلوماسي ما يوضح دور مصر في مشروع محمد علي يقول: "هناك أولًا موقع مصر الذي يفرض بأن يمتد تأثيرها إلى أكثر المقاطعات بعدًا عن مركز الإمبراطورية، أو الأكثر تعرضًا للانفصال. فهذا الموقع يساعد كثيرًا على إنشاء قوة حقيقية... إن صلات اللغة والعادات والأصل المشترك تُشكِّل روابط دائمة قد تتيح دمج سكان سوريا وبلاد البربر بسكان مصر...". ولعل ما ورد في هذا التقرير أصدق تعبير عن الدلالة التاريخية لتجربة محمد علي في بناء دولة عربية كبرى، ودور مصر الرئيس في المنطقة المحيطة بها(1).

لقد أدى فشل تجربة محمد علي بسبب المؤامرات الخارجية، ثم احتلال مصر عام 1882 إلى تجمد الوظيفة القيادية لمصر في محيطها العربي خلال فترة الاستعمار البريطاني، حيث انحصر دور مصر في نيل الاستقلال، والحفاظ على وحدتها مع السودان. وبدأت مصر تستعيد دورها الإقليمي مع نهاية الربع الأول من القرن العشرين، وهى عملية بلغت ذروتها بإمساك الحكومة الوفدية بزمام المبادرة في إنشاء جامعة الدول العربية، وكان لمصر دور بارز وملموس لاعتبارات كثيرة، أهمها تفوقها من حيث القدرات الاقتصادية والثقافية والعسكرية والبشرية.

كما لعبت القضية الفلسطينية دورًا أساسيًّا في حرص مصر على استعادة دورها القيادي في المحيط العربي؛ من منطلق أن المصلحة المصرية وحماية الأمن القومي المصري يتماهى تمامًا والمصلحة العربية والأمن القومي العربي. وقد رسخت ثورة 23 يوليو 1952 الإدراك بأن المحيط العربي هو المجال الطبيعي والرئيس للدور المصري، وهو ما تجلى في كتاب "فلسفة الثورة" الذي كتبه جمال عبد الناصر حين يقول: "أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا، وأن هذه الدائرة منا ونحن منها، امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحنا بمصالحها، حقيقةً وفعلاً لا مجرد كلام"(2).

ومنذ ثورة 1952، ودور مصر في المحيط العربي يهدف إلى جعل هذا المحيط آمن للمصلحة المصرية، دون أن يكون مصدرًا من مصادر التهديد لها، ولهذا عملت على التخلص من الاستعمار، ودعمت حركات التحرر الوطني في العالم العربي، وتصدت لجميع محاولات ربط الوطن العربي بالأحلاف الأجنبية، وكسرت احتكار الدول الغربية لاحتكار السلاح إلى الدول العربية، وأطلقت مشروعًا قوميًّا عربيًّا يرمي إلى الحفاظ على تماسك النظام الإقليمي العربي، وتسخير المكنات العربية لخدمة الأمة العربية.

ثم تعرض الدور الإقليمي لمصر للتراجع والانحسار عقب هزيمة 1967، ثم الانهيار الذي قاده السادات في التوجهات المصرية، والذي ارتضى التخلي عن المشروع القومي لعبد الناصر، واستبداله بالخضوع للرؤية الأمريكية بشكل كامل، وكان له أثره في السقوط التدريجي للمكانة المصرية في العالم العربي، التي شهدت أقصى ازدهار لها في الفترة الناصرية، بالإضافة إلى السياسات الخطأ التي مارستها إدارة الرئيس الأسبق مبارك خلال حكمه الممتد لثلاثين عامًا تجاه العالم العربي؛ إذ اقتدى برؤية سلفه السادات، بضرورة التوجه السياسي ناحية الغرب الذي يملك 90% من أوراق اللعبة، حسب زعمه.

يعبر عن ذلك د. جمال حمدان بقوله "العزلة أو الانطلاق في السياسة الخارجية المصرية إنما تعني بالدرجة الأولى العزلة عن العالم العربي أو الانطلاق إليه. فبدون العالم العربي تعيش السياسة المصرية في عزلة حقيقية حتى ولو بدت شكليًّا ذات سياسة خارجية، أو حتى ذات أبعاد عالمية... وبدون العالم العربي لا تعد سياسة مصر الخارجية عالمية مهما انطلقت دوليًّا في أبعد العلاقات الخارجية مع الغرب أو الشرق"(3).

كان هذا التراجع في مكانة الدور المصري تعبيرًا عن حالة الضعف التي أصابت البيئة الداخلية للدولة المصرية جراء سياسات السادات ومبارك. فبما يشبه القاعدة الأساسية، تتناسب قوة مصر السياسية تناسبًا عكسيًّا مع درجة عزلتها وانغلاقها داخل حدودها، وطرديًّا مع مدى انطلاقها خارج حدودها. فكلما كانت مصر ضعيفة عاجزة، وتضاءل حجمها السياسي، وخفَّ وزنها، انطوت وتقوقعت على نفسها داخل حدودها، وتقلص ظلها الخارجي. وعلى العكس، كلما كانت قوية فوَّارة، زاد ثقلها، وفاضت قوتها خارج حدودها، وامتد نفوذها، وتمدد وجودها عبرها.

ورغم هذا التراجع، إلا أنه ظل حائزًا على الشرعية، ومطلوبًا من قِبَل الدول والشعوب العربية، كما أنه صار جزءًا من تصور مصر لنفسها ولمكانتها، ولتصور الآخرين لها، بحيث أصبح قيام مصر بدورها في النظام الإقليمي العربي مطلبًا عربيًّا.

وفي كل مرحلة تاريخية يعاني فيها النظام الإقليمي العربي حالةً بالغةً من الضعف والاختراق الخارجي -مثلما يشهده الآن من مخططات ترمي إلى تفجير المنطقة من الداخل؛ بهدف إعادة ترتيب أوضاعها بما يحقق مصالح قوى معينة طامعة في مقدرات هذه الأمة- والصراع غير المسبوق على الأدوار، وتعظيم المصالح على حساب العرب، أمام كل هذا يتساءل العرب عن الدور المصري.

د. جمال حمدان بقوله " العزلة أو الانطلاق في السياسة الخارجية المصرية إنما تعنى في الدرجة الأولى العزلة عن العالم العربي أو الانطلاق إليه.

فثمة من يعتقد جازمًا أن أزمة النظام العربي الراهنة -في جزء منها على الأقل- نابعة من غياب الدور المصري الفاعل والمتكامل. وعلى الجانب الآخر، فإنه مما لا شك فيه أن دور مصر العربي تفرضه اعتبارات المصلحة المصرية البحتة، وأن عدم القيام بهذا الدور يعني إلحاق ضرر كبير بهذه المصالح، وهو ما أكدته التجربة التاريخية لمصر منذ الربع الأخير من القرن الماضي.

لذا كان طبيعيًّا أن يتابع العالم أجمع، وفي القلب منه العالم العربي، باهتمام بالغ تطورات الأحداث في مصر لحظة بلحظة عقب ثورة 25 يناير 2011، ويصدر عن كافة قادة المنطقة تصريحات تعبر عن تطلعهم لعودة مصر إلى ممارسة دورها العروبي الرائد في المنطقة.

إلا أن تطورات الأحداث في مصر أتت بما لا تشتهي سفن القومية العربية؛ حين استولت جماعة الإخوان المسلمين على سدة الحكم في مصر –في ظل ظرف تاريخي ليس هذا مجال تحليله- وخابت آمال القوى القومية في المنطقة بعد أن أعلنت الجماعة عن نهجها الخارجي إزاء الأمة العربية عبر سياسات التدخل في الشئون الداخلية للدول، ودعم جماعات وتنظيمات معادية للأنظمة العربية في منطقة الخليج العربي وغيرها، وتصريحات قادة الجماعة والمتحدث باسمها محمود غزلان العدائية لعدد من الدول العربية.

والواقع أن هذا النهج العدائي للقومية الذي اتبعته الجماعة ليس بعيدًا عن التكوين العقدي والأيديولوجي للجماعة الذي لا يؤمن بفكرة القومية العربية ولا الأوطان، بل يؤمن باستعادة الخلافة الإسلامية. وفي سبيل تحقيق ذلك الهدف الهلامي الغامض، فلا مانع لديهم بالتضحية بأمن ومصالح الأوطان، والتحالف مع أية قوة يبدو لهم أنها قد تكون عاملًا مساعدًا –ولو بشكل مؤقت- في تحقيق الهدف، وهو ما بدا جليًّا في موقف الرئيس الأسبق محمد مرسي من الصراع الدائر في سوريا، الذي جعل الدور المصري مسايرًا للمخطط الدولي والإقليمي بشأن الأوضاع في سوريا، وإعلان دعمه للميلشيات التكفيرية التي تحارب النظام السوري، وتأييد نظامه لتدخل مجلس الأمن في سوريا.

ووصلت الأزمة مع دمشق إلى ذروتها لأول مرة في تاريخ العلاقات بين الدولتين، وسارت مصر بذلك في ركاب مخطط مرسوم ليس لها أية مصلحة فيه، بل يمكن أن تكون أثاره كارثية على أمن مصر القومي، والدولة المصرية ذاتها.

ورغم أن غياب الفعالية قد يكون أمرًا واردًا في مراحل مختلفة من تاريخ الأمم ذات الدور المحوري في إقليمها، أو على المستوى الدولي، إلا أن وصول جماعة الإخوان لحكم مصر أوجد ما هو أسوأ بكثير؛ حيث تحولت مصر إلى طرف تتصارع الأطراف الإقليمية على الاستحواذ عليه بشكل انقلبت معه معادلة الاستقطاب الإقليمي من كون مصر قطبًا تجذب الدول الهامشية في المنطقة ذات المرتبة الأقل في القوة؛ للدوران في فلكها، إلى دولة تتصارع قوى إقليمية صغيرة وقزميه مثل قطر، ومتوسطة مثل تركيا لجعلها ضمن دائرة نفوذها.

ومرة ثانية تلتفت أنظار العالم باهتمام شديد للموجة الثانية من الثورة المصرية في 30 يونيو 2013 التي أزاحت عن كاهل الدولة المصرية خطر جماعة الإخوان المسلمين. ومن جديد تتطلع الأمة العربية للدور المصري؛ لعله طوق النجاة من الوقوع في مخطط تفكيك المنطقة عبر سلاسل من الحروب الأهلية.

وقد عكست تصريحات وتحركات القيادة السياسية عقب 30 يونيو 2013 في مصر إدراكها بأن المحيط العربي هو المجال الحيوي والطبيعي للدور الخارجي لمصر، وأن هناك من المخططات ما يحاك لإحداث فوضى به، وأن على مصر استنهاض دورها الإقليمي العربي لمواجهة ذلك المخطط؛ إيماناً بأن آثاره سوف تطال الجميع، وفي القلب مصر، باعتبارها المستهدف الرئيسي.

وقد عكست تحركات الرئيس عبد الفتاح السيسي، فور توليه مهام الحكم، ذلك الإدراك. فالزيارة الخاطفة والهامة للجزائر جاءت تقديرًا منه لقوة الجزائر في المنطقة العربية، وإيمانًا منه بقوة جيشها، استعدادها لمواجهة الإرهاب الذي يضرب المنطقة؛ بسبب انتشار التنظيمات الإرهابية في الكثير من البلدان العربية والأفريقية، ثم لقائه الهام مع الملك عبد الله بن عبد العزيز بمطار القاهرة؛ من أجل التنسيق العربي، وإيمانًا بأهمية دور السعودية في حل القضايا والمشكلات الطارئة التي تعصف بالأمة العربية والإسلامية، والاستفادة من كافة المساعدات والنصائح التي تقدمها المملكة لصالح مصر بمساندة من دول الخليج وبخاصة الإمارات والكويت.

كما كلف السيسي وزير خارجيته بالتوجه إلى بغداد؛ لاستكمال المشاورات حول السبل الكفيلة بإعادة الوفاق الوطني بين أبناء الشعب العراقي في مواجهة خطر داعش، وصيانة وحدة واستقلال العراق، وكذا أمن دول الجوار والمنطقة العربية بأسرها.

 

ثانيًا: إشكالية الموقع "الجغرافيا"

إذا ما صدقت مقولة إن الجغرافيا وراء السياسة بصفة عامة، فإنها تصدق على مصر على وجه الخصوص. فسياسة مصر الخارجية تعكس شخصيتها الإستراتيجية بشكل أو بآخر. فإذا كان لسياسة مصر الخارجية مجموعة من الثوابت والمتغيرات، فعلى رأس هذه الثوابت تأتى حقائق الجغرافيا والتاريخ. فالجغرافيا هي قدر الأمم الذي لا فكاك منه، وهى العامل الثابت في صناعة التاريخ.

ولقد أدى الموقع الجغرافي لمصر إلى أن تصبح سياساتها وتوجهاتها ذات حساسية تجاه العوامل والأفكار المُولَّدة من قِبَل البيئة الدولية والإقليمية. وفي ذلك يقول الأستاذ "محمد حسنين هيكل" بأن موقع مصر كان خليقًا بأن يفرض نفسه على التاريخ. ولم يكن أمام مصر –إذا كانت قوية– غير أن تتحمل مسئولية موقعها. وإذا كانت ضعيفة، فليس أمامها إلا أن تكون جزءًا من إمبراطورية، أو نظام أجنبي يسيطر على الموقع... فإذا لم تكن مصر تملك القدرة على استعمال موقعها، فإن غيرها سوف يستعمله؛ لأن هذا الموقع ببساطة لا يمكن أن يظل خاليًا. فالتاريخ أيضا لا يقبل الفراغ"(4).

ويعتبر عالم الجغرافيا المصري "د. جمال حمدان" أفضل من تحدث عن الأثر الذي تركه موقع مصر الجغرافي على دورها الخارجي، وأدائها لوظيفتها الإقليمية، حيث يقول: "إن مصر كانت دائمًا مركز دائرة... ضاقت أو اتسعت، ولكنها دائمًا لها محيط وأبعاد، وهى مركز ثقله وجاذبيته، ولها الدور القيادي فيه بإيجاز حاسم. وكانت مصر باستمرار قطب قوة وقلب إقليم حتى وهى مستعمرة محتلة. ومهما كانت أوضاعها الداخلية، كانت مصر مركز دائرة ما، وليست على هامش دائرة أخرى.

إن مصر التاريخية حرصت علي علاقة وثيقة مع إثيوبيا جسدتها الكنيسة القبطية لقرون، كما أن ملوك مصر عبر القرون حرصوا علي علاقات وثيقة مع شيوخ وقبائل الجنوب

ولا شك أن هذه الصفة الجوهرية التي تكاد تنطوي على متناقضة مثيرة ترتد إلى جذور جغرافية أصيلة وكامنة في كيان مصر... الحقيقة العظمى في كيان مصر ونقطة البدء لأي فهم لشخصيتها الإستراتيجية هي اجتماع موقع جغرافي أمثل، مع موضع طبيعي مثالي، وذلك في تناسب أو توازن نادر المثال. فالموقع والموضع هنا متكاملان جدًّا في الدور"(5). ويقصد د. حمدان هنا بالموقع مكان مصر على الخريطة الجغرافية، والموضع إمكاناتها التي تصون هذا الموقع وتحافظ عليه.

ولا شك أن موقع مصر الجغرافي دفعها دائمًا إلى الانفتاح على الخارج وعدم العزلة، وصعوبة الحصار الخارجي في نفس الوقت. وكانت إلى حد كبير نقطة تنافس وتوازن، ولكنها لم تكن نقطة جمود، لا في الداخل ولا في المحيط الذي تحيا فيه. ولعل هذا الموقع المصري هو الذي يسَّر لمصر تبني سياسة عدم الانحياز والحياد والإيجابي بين القوتين العظميين أثناء وطأة الحرب الباردة.

كما يسَّر هذا الموقع لمصر أن تكون مركزًا حضاريًّا جمع بين العروبة والأفريقية والآسيوية والمتوسطية والعالمية، ومثلت هذه المحاور جميعها مجالات لدور مصر الخارجي دون تناقض أو تعارض. وان كان يلاحظ إعطاء أولوية لواحد منها أو أكثر على الآخرين، وفقاً لرؤية صانع القرار لمصلحة مصر الوطنية في ظرف تاريخي معين، إلا أن هذه التعددية تفيد كثيرًا في بلورة الدور المصري الأصيل والأدوار الأخرى التابعة، وتعطى صانع القرار قدرًا أكبر من حرية الحركة، ومرونة أكثر إزاء الأطراف الدولية الأخرى تجاه القضايا العامة التي تمس المصلحة المصرية(6).

ويمكن تلخيص ثوابت الدور المصري التي تفرضها المحددات الجغرافية على النحو التالي:

1.    وحدة الدولة المصرية ومركزيتها

إن الفكرة الأساسية في التاريخ المصري الحديث هي النمو المطرد في مركزية الدولة، وقدرتها على السيطرة على الأنشطة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولقد كان المصريون القدماء على وعى تام بذلك، رسخ ذلك الوعي طبيعة مصر النهرية. وعبَّر المصريون القدماء تعبيرًا حاسمًا عن هذا المعنى في نص فرعوني منقوش يقول: "كل بلاد يغمرها النيل في فيضانه هي من مصر، وكل من يشرب من ماء هذا النيل تحت جزر الفانتين فهو مصري".

فعند أسوان تبدأ مصر السياسية التاريخية، مثلما تبدأ مصر النيلية الحقيقية. كما أن المصريين كانوا دائمًا على وعي بأنهم أمة واحدة مختلفة ومنفصلة عن كل الشعوب والجماعات المحيطة بهم، ودافعوا عن كيانهم السياسي موحدًا، ونجحت مصر في الاحتفاظ بحدودها السياسية ووحدتها عبر كل العصور، وربما كانت هي الدولة الوحيدة في المنطقة التي لم يتم النيل من وحدتها الإدارية وحدودها السياسية والوطنية.

ولذا ترسخ لدى مصر قناعة بأن على رأس الأولويات، سواءً على صعيد العمل في الداخل أو الخارج، المحافظة على وحدة الدولة المصرية ومركزيتها. وربما كان هذا هو الهدف الأساسي لقيام ثورة 30 يونيو 2013؛ حين استشعر المصريون خطرًا حقيقيًّا على كيان الدولة المصرية ذاته ووحدتها، جراء سياسات ومخططات جماعة الإخوان المسلمين التي تؤمن بفكرة استعادة الخلافة في أرض الإسلام.

وفي هذا الإطار تصبح مصر مجرد ولاية أو إمارة في تلك الخلافة، ولا مانع لديهم من التنازل عن أرض مصرية لآخرين في سبيل تحقيق حلم الخلافة، وما أثير عن جعل سيناء وقطاع عزة إمارة إسلامية حمساوية، أو التنازل عن مثلث حلايب وشلاتين لنظام البشير الموالي للإخوان يصبح منطقيًّا في ظل تلك الفكرة، وسوف يثبت التاريخ الحقيقة في هذا الشأن.

2.    تأمين حصول مصر على مياه نهر النيل

معطيات الموقع الجغرافي لمصر فرض على مصر معضلات عديدة. فمصر بلد زراعي مطلوب منه توفير الغذاء لشعب يتزايد باضطراد مستمر، ومصدر غذائه الرئيس هو الزراعة، في حين أن مصر بلد تقع جغرافيًّا في بيئة شديدة الجفاف، ومعدلات سقوط الأمطار بها ضعيفة، وتعاني من ندرة في مصادر المياه الجوفية المتجددة والقابلة للاستخدام في الزراعة. ولذا فإن المصدر الرئيسي ويكاد يكون الوحيد لمياه الري والشرب هو نهر النيل الذي ينبع على بعد آلاف الأميال وراء حدودها الجنوبية(7).

هذه المعطيات التي تبدو شديدة الوضوح والثبات، حتَّمَت على مصر أن تمد بصرها دومًا نحو الجنوب، وفرضت على صانع القرار بها ضرورة صياغة وتنفيذ سياسة خارجية قادرة على تأمين تدفق مياه النهر، والحصول على ما يكفى لسد احتياجات مصر المتنوعة منها.

ولعل تجربة النهضة المصرية في العصر الحديث على يد محمد علي قامت بالأساس على الوعي بضرورة تأمين حصول مصر على مياه نهر النيل، وهو ما دفعه لتحريك الجيوش المصرية لأقصى نقطة تستطيع أن تصل إليها في اتجاه منابع نهر النيل، وضم السودان إلى الدولة المصرية.

ولعل هذا استثناء نادر في تاريخ مصر؛ حيث تخلت عن مبدأها الأساس بعدم ضم أراضي الغير إليها، إلا أن ذلك الضم لم يكن من قبيل الاستعمار الذي ظهر على يد البورجوازية الأوروبية حينها، بقدر ما كان أقرب إلى ما يسمى النمو الذاتي أو الامتداد العضوي للدولة المصرية الناهضة إلى حدود شريان الحياة الرئيسي فيها، وهو نهر النيل.

وظلت مصر طول التاريخ تحاول جعل منابع نهر النيل منطقة هادئة ما استطاعت، ولم تقبل أن تدخل في صراعات فيها. وساعدها على ذلك أنه لم تكن هناك قوة عسكرية في الجنوب -في منابع مياه النيل وحتى وصول فيضه إلى الأراضي المصرية- تستطيع أن تتحدى حقوق مصر علي النهر. ثم إن أحدًا لم يكن يملك وسيلة تكنولوجية يستطيع بها اعتراض تدفق مائه إلى شمال واديه.

من هنا فإن مصر التاريخية حرصت علي علاقة وثيقة مع إثيوبيا -المنبع الأكبر لحصة مياه مصر من نهر النيل- جسَّدتها الكنيسة القبطية لقرون، كما أن ملوك مصر عبر القرون حرصوا على علاقات وثيقة مع شيوخ وقبائل الجنوب.

وترسخ في الوعي المصري هذا التوجه على امتداد تاريخ مصر الحديث؛ حيث توحدت جميع فصائل القوى الوطنية في مصر، على اختلاف مبادئها وأيديولوجياتها وتوجهاتها، حول شعار "وحدة وادي النيل" بما في ذلك دوائر القصر وأحزاب الأقلية. وتجلى هذا التوحد بوضوح في كل مراحل المفاوضات التي تمت مع بريطانيا حول قضية الاستقلال، بصرف النظر عن الحزب أو الائتلاف الحاكم الذي قاد المفاوضات. فقد اعتبر الجميع أن طلب الاستقلال ينسحب على مصر والسودان باعتبارهما بلدًا واحدًا. وكثيرًا ما أدى تمسك القوى الوطنية المصرية بهذا الموقف إلى فشل مفاوضات الجلاء.

ولقد أعاد عبد الناصر صياغة هذا التوجه برؤية أوسع وأشمل لدور مصر الإقليمي. فلم يعد الاتجاه جنوبًا مجرد تعبير عن مصالح مائية مع حوض نهر النيل، وإنما بإقامة علاقات سياسية واقتصادية قوية مع دول الحوض، واتخاذ ما يلزم من إجراءات وقائية للحيلولة دون تغلغل نفوذ أية دولة معادية في شئون تلك المنطقة، ثم العمل على التصدي لمثل هذا النفوذ ومقاومته، وتحجيمه إن وجد.

ومارست مصر دبلوماسية شديدة النشاط في هذه المنطقة، جوهرها تقديم الدعم الفني والمادي لإقامة مشروعات من شأنها الحفاظ على موارد المياه في نهر النيل، وزيادة حصة مصر منها، وإقامة أطر مؤسسية للتنسيق بين سياسات دول هذه المنطقة بما يضمن تحقيق الأمن والاستقرار لها وفيها، ودفع عجلة التعاون بينها، خصوصًا في كل ما يتعلق بتوزيع وتنمية وترشيد واستغلال الموارد المائية وفق مبدأ التكافل وتكافؤ المصالح والمنافع المتبادلة. والمثال البارز على ذلك توقيع مصر لاتفاقية النيل لعام 1959 بين مصر والسودان التي تنظم حصول مصر على مياه نهر النيل.

ولقد عبَّرت مصر في أكثر من مناسبة عن أن استخدام مياه النيل كورقة ضغط ضد الإرادة السياسية لمصر، أو للتأثير على سياسة مصر الخارجية أو الداخلية، وبما يتعارض مع مصلحة مصر الوطنية يعد خطًّا أحمر لن تسمح مصر بتجاوزه. ولحسن الحظ، فإنه -حتى وقت قريب، وبسبب مجموعة مركبة من العوامل السياسية والتاريخية والاقتصادية والقيود التكنولوجية في دول حوض نهر النيل- لم يكن يوجد خطر كبير حالٌّ يهدد وصول مياه نهر النيل إلى مصر(8).

وفي عهد الرئيس الأسبق مبارك، شهد الدور المصري في أفريقيا انحسارًا كبيرًا، ولم ينشغل بأفريقيا إلا في حدود ضبط العلاقات بين الأقطار العربية والدول غير العربية في المنطقة، لا سيما في منطقة منابع النيل وأثيوبيا التي ينبع منها 86% من مياه نهر النيل التي تدخل الحدود المصرية عند خط عرض 22 جنوبًا.

ويعترف وزير الخارجية الأسبق أحمد أبو الغيط في شهادته(9) أن مبارك أهمل كثيرًا الملف الأفريقي، وأن الدور المصري بها انزوى بسبب ذلك الإهمال. وتَسبَّب الانحسار المصري في إحداث فراغ ليس بالقليل بالقارة، الذي مهد الطريق من ناحية أخرى لظهور إسرائيل على الساحة الأفريقية بقوة، وركزت على دول منطقة حوض النيل والبحر الأحمر التي تعد أخطر المناطق المؤثرة على الأمن القومي المصري والعربي.

واستغلت ذلك بالضغط على الإرادة المصرية لتمرير أجندة أمريكية- إسرائيلية بالمنطقة من خلال تقديم الدعم الاقتصادي والتكنولوجي، وتمويل بعض المشروعات التي تعتمد على مياه نهر النيل؛ لزيادة قدرات دول الحوض على التحكم في مياه النهر بما قد يؤثر بالسلب على حصة مصر من مياه النهر الحالية، أو زيادتها مستقبلاً، ومنها سد النهضة الأثيوبي الذي تشير كثير من الدلائل إلى أن إسرائيل تقف من ورائه.

ولقد كشفت أزمة سد النهضة عن مدى خطورة تراجع الدور المصري في أفريقيا، وخطورته على الأمن القومي المصري في الصميم. ويبدو أن نظام الرئيس السيسي –على نقيض الرئيس الأسبق مرسي- يدرك ضرورة وضع حد لهذا التباعد، وربما العداء، مع بعض دول القارة، والسير على درب سياسة عبد الناصر في التقارب مع أفريقيا، وهو ما عكسه دعوة إثيوبيا لحضور حفل تنصيب الرئيس، الذي أشار في خطابه إلى أنه لن يسمح بإفساد العلاقات التاريخية بين مصر وإثيوبيا بسبب هذا المشروع، فيما يمكن اعتباره إعادة التأسيس لسياسة مصر تجاه أفريقيا في الفترة القادمة.

وأكد السيسي توجهه ذلك في البيان المشترك مع ورئيس وزراء أثيوبيا "هايلى ماريام ديسالين" الصادر على هامش قمة الاتحاد الإفريقي في غينيا الاستوائية؛ حيث تم الاتفاق على البدء الفوري في الإعداد لانعقاد اللجنة الثنائية المشتركة خلال ثلاثة أشهر، وتشكيل لجنة عليا تحت إشرافهما المباشر، لتناول كافة جوانب العلاقات الثنائية والإقليمية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية.

وأكد الطرفان على محورية نهر النيل كمورد أساسي لحياة الشعب المصري ووجوده، وإدراكهما لاحتياجات الشعب الإثيوبي التنموية، وتجنب الإضرار ببعضهما البعض، وأولوية إقامة مشروعات إقليمية لتنمية الموارد المالية لسد الطلب المتزايد على المياه، ومواجهة نقص المياه، واحترام مبادئ القانون الدولي، والاستئناف الفوري لعمل اللجنة الثلاثية حول سد النهضة؛ بهدف تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية، واحترام نتائج الدراسات المزمع إجراؤها خلال مختلف مراحل مشروع السد، مع التزام الحكومة الإثيوبية بتجنب أي ضرر محتمل من سد النهضة على استخدامات مصر من المياه، والتزام الحكومة المصرية بالحوار البنَّاء مع إثيوبيا، والذي يأخذ احتياجاتها التنموية.

وهكذا بدا نهر النيل ملمحًا هامًّا في الوظيفة الإقليمية لمصر عبر عصورها المختلفة.

كشفت أزمة سد النهضة عن مدى خطورة تراجع الدور المصري في أفريقيا، وخطورته على الأمن القومي المصري

1.    الارتباط العضوي بين الأمن القومي المصري والأمن العربي

لم يكن قيام مصر بدور إقليمي قيادي في محيطها الإقليمي العربي ينسحب فقط على اعتبارات المكانة، بل يمس جوهر وجود الدولة والأمة المصرية، كان يعني حماية الأمن القومي لمصر؛ وحماية شعبها، والحفاظ على استقرارها، وتحقيق النمو والنهضة، بالإضافة إلى تقليص وطأة الخطر الخارجي الذي يمكن أن يهدد وجودها كان يحتم عليها القيام بهذه الوظيفة الإقليمية.

إن ارتباط الأمن القومي المصري بالعربي فرضه الموقع الجغرافي لمصر في قلب العالم العربي(10) كما فرضته التجربة التاريخية، فالمنطقة العربية منطقة جيوبوليتكية واحدة بصورة عامة.

والعلاقة بين الأمن القومي المصري ونظيره العربي علاقة الجزء بالكل؛ فالأمن القومي المصري هو النواة للهيكل الرئيس لبنيان الأمن القومي العربي، والهيكل بدون النواة لا يمثل شيئًا سوى الفراغ، والنواة لا تعني شيئًا بدون الهيكل، وهى حقيقة عبَّر عنها زعيم حزب الوفد مصطفى النحاس عام 1936 إبان الثورة الفلسطينية الكبرى ضد الهجرة اليهودية لفلسطين، عندما طلب منه المندوب السامي البريطاني اللورد " كيلرن" إصدار بيان يدعو فيه الفلسطينيين إلى التعايش مع اليهود، فرد برفضه القبول بوجود كيان في فلسطين يعرض أمن مصر للخطر(11).

كما أدرك عبد الناصر حقيقة الارتباط العضوي بين أمن مصر الوطني والقومي، واستحالة الفصل بين ما هو وطني وما هو قومي، وعبَّر عنها صراحة في كتابه "فلسفة الثورة" بقوله: "إن القتال في فلسطين ليس قتالاً وراء عاطفة، وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس... إن نطاق سلامتنا يقضي علينا أن ندافع عن حدود إخواننا الذين شاءت لنا أحكام القدر أن نعيش معهم في منطقة واحدة"(12).

انطلاقًا من هذه الرؤية الإستراتيجية، باتت الدائرة العربية هي المجال الحيوي والرئيسي التي يتحرك فيه الدور المصري لحماية المصالح الحيوية والأمن القومي لمصر. وظلت هذه الرؤية هي الحاكمة للدور المصري حتى قيام السادات بتوقيع معاهدة سلام مع إسرائيل منفردًا عام 1979م، ما أدى لعزل مصر عن محيطها العربي.

وهنا يكمن الخطأ التاريخي والإستراتيجي للسادات، حين ظن أن أمن مصر القومي يمكن أن يتحقق ويصان بمعزل عن الأمن القومي العربي. علاوةً على تصور وجود علاقة تناقض وتعارض بين الأمنين العربي والمصري.

وهكذا حدث تراجع استراتيجي في إدراك مفهوم الأمن القومي المصري، ترسخ أكثر في عهد مبارك بعد أن صار الأمن القومي خاضعًا لرؤية صانع القرار، وليس لاعتبار التاريخ والجغرافيا والمصلحة القومية؛ حيث صار اعتبار حماية أمن النظام مُقدَّم على اعتبارات المصلحة القومية في صورتها الكلية الشاملة. كما احتكر النظام الحاكم لنفسه تحديد مفهوم الأمن القومي وأدوات تنفيذه، وفرض على قضية الأمن القومي كهنوتًا لا يحق لأحد الحديث فيه إلا النخبة الحاكمة باعتبارها هي العالمة ببواطن الأمور، أما الشعب فلا يدرك هذه الأمور، وبالتالي لا يحق له مناقشة هذه القضية.

ثم زاد الأمر خطورة حين تولى حكم مصر جماعة الإخوان المسلمين الذين هددوا كيان الدولة والهوية المصرية والوحدة الوطنية. فالجماعة لا تنتمي لوطن ولا قومية، ولكن لما يسمى "الأممية الإسلامية" الساعية لإعادة إحياء الخلافة الإسلامية على حساب الوطن وحدوده. وبذلك صار أمن مصر القومي رهنًا باسترداد الخلافة الإسلامية، والوصول إلى ما يسمى "أستاذية العالم".

وربما لم يتعرض الأمن القومي المصري -بل وبقاء الدولة المصرية ذاتها- لخطر كما تعرضت له إبان العام الذي حكمتها فيه جماعة الإخوان. ولولا حكمة المصريين التي صهرتها تجربة تاريخية عبر آلاف السنين، ووطنية الجيش المصري وصلابته لصارت مصر إلى تحلل عبر مخطط إخواني– دولي.

أعادت الموجة الثانية للثورة المصرية في 30 يونيو لفمهوم الأمن القومي المصري معناه الشامل والحقيقي والتاريخي، وهو ما عبَّر عنه السيسي حين أكد على أن أمن مصر جزء لا ينفصل عن الأمن القومي العربي، وأن مصر عليها التزام قومي وتاريخي ومصلحي بحماية الأمن القومي العربي، باعتباره مصلحة وطنية في المقام الأول وقومية في المقام الثاني.

لم يكن تصريح السيسي –قبل توليه الرئاسة– حول استعداد مصر لتلبية أي نداء من جانب السعودية أو الإمارات أو غيرهما من دول الخليج، لمساندتها عسكريًّا لمواجهة ما قد تتعرض له من مخاطر وتهديدات في المستقبل، وأن زمن الاستجابة المصرية لمثل هذا النداء هو "مسافة السكة"، من قبيل المجاملة أو الدعاية السياسية، ولكن له واقع نابع من إدراك واعٍ أن أي تهديد لأمن دول الخليج هو تهديد لأمن مصر، يفرض عليه التدخل لدفعه، بل وإجهاضه قبل أن يقع.

كما أن القيادة السياسية في مصر بتكوينها العسكري ووعيها الإستراتيجي عبَّرت عن وجهة نظرها في القضية السورية بما يؤكد إدراكها أن الحفاظ على الدولة السورية، وحماية الأمن القومي للدولة السورية -وليس النظام- هو جزء لا ينفصم عن الأمن القومي المصري. وهو نفس ما أكدت عليه بالنسبة لتطورات الأوضاع في ليبيا والعراق حين عبَّرت عن حرصها ودعمها لكافة الإجراءات الرامية لاستتباب الحالة الأمنية في ليبيا والعراق، والحفاظ على وحدة وسيادة التراب الوطني للدولتين.

وهكذا، يترسخ في وعي صانع القرار المصري أن مشكلة الأمن القومي المصري وعلاقته بالأمن القومي العربي مشكلة داخلية أكثر منها خارجية.

خاتمة:

من خلال ما سبق ندرك أن قيام مصر بدور خارجي ليس من قبيل الترف السياسي، أو إثبات مكانة كما تفعل بعض الدول والدويلات الآن، بل هو مسألة وجود للدولة المصرية ذاتها. كما لا بد من إدراك دروس التاريخ التي تؤكد أن الدور المصري رهن ثلاثة عناصر رئيسة (العمق الحضاري- التاريخي، الجغرافيا، الأمن القومي)، وأن العامل الحاسم في تراجع وانطلاق هذا الدور هو قدرات مصر الداخلية على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. وإذا كان للبيئة الخارجية أثر لا بد من الاعتراف به، ولكن مدى فاعليته وتأثيره يتوقف على قوة البيئة الداخلية المصرية.

وعلى هذا الأساس، فإن قيام مصر الثورة باستعادة وتفعيل دورها الخارجي سوف يظل رهنًا في المقام الأول ببناء القدرات الذاتية للدولة المصرية؛ بهدف تعظيم محصلة القدرة الشاملة للدولة المصرية؛ لتقوية ركائز دورها الإقليمي عقب عقود من استنزاف أرصدة القوة وتقييد هذا الدور. كما يفرض الوضع القائم على مصر ضرورة صياغة واضحة لملامح دورها الإقليمي المنشود في الفترة القادمة بما يسمح لها بالتكيف مع تحولات المرحلة المقبلة، وعلى نحو يسمح لها بالتأثير فيها بما يخدم مصالح مصر الإستراتيجية.

*هذا المقال جزء من دراسة منشور في العدد الحادي عشر من مجلة أفاق سياسية

*باحث علوم سياسية

المراجع

(1)                 د. فؤاد المرسى خاطر، "حول الفكرة العربية في مصر: دراسة في تاريخ الفكر السياسي المصري المعاصر"، (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1985)، ص 33.

(2)                  جمال عبد الناصر، "فلسفة الثورة"، (القاهرة: الهيئة العامة للاستعلامات، بدون تاريخ)، ص ص 57- 58.

(3)                  د. جمال حمدان ، "شخصية مصر : دراسة في عبقرية المكان"، المجلد 2، (القاهرة: دار الهلال، 1984)، ص 723.

(4)          طوال 1500 عام قبل ثورة 23 يوليو، ومنذ انتهاء عصر الأسر الفرعونية، كان الموقع المصري محتلًا باستمرار، ولم يكن يطرد الدولة القديمة من الموقع إلا غاز جديد يتحداها فيه. فالإغريق أخرجوا الفرس، والرومان أخرجوا الإغريق، والعرب أخرجوا البيزنطيين (ورثة الرومان)، وتكرر ذلك حتى جاء العثمانيون فأخرجوا المماليك، ثم جاء الفرنسيون وحاولوا إخراج العثمانيين وبقايا المماليك، ثم جاء الإنجليز وأخرجوا العثمانيين. انظر: محمد حسنين هيكل، "خريف الغضب: قصة بداية ونهاية عصر أنور السادات، ط1، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، 1988)، ص 133.

(5)                   د. جمال حمدان، مرجع سبق ذكره، ص 690.

(6)          د. عبد المنعم المشاط، "القدرات المصرية المؤهلة للدور الإقليمي"، في د. عبد المنعم المشاط (محرر)، "الدور الإقليمي لمصر"، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، بدون تاريخ)، ص ص 70- 71.

(7)                  يقول جون ووتربرى: "لا يوجد واد لنهر رئيس يشارك فيه فواعل مستقلة كثيرة كما هو الحال فى وادى النيل، كما لا توجد دولة مصب تعتمد تمامًا فى معيشتها على مثل هذا النهر مثل مصر".

John Waterbury, Hydro Politics of the Nile Valley, (Syracuse, N.Y.: Syracuse University Press, 1979), p. 63.

(8)         د. حسن نافعة، "رؤية لتطور سياسة مصر الخارجية في ضوء جدلية العلاقات بين الداخل والخارج"، في د. مصطفى علوي (محررًا)، أعمال المؤتمر السنوي الرابع عشر للبحوث السياسية من 13- 15 يناير 2001، المجلد 1، (القاهرة: مركز البحوث والدراسات السياسية، 2002)، ص 50.

(9)                 أحمد أبو الغيط، "شهادتي.. السياسة الخارجية المصرية"، ط5، (القاهرة: دار نهضة مصر، 2012).

(10)              صلاح ذكى، "مصر والمسألة القومية: بحث فى عروبة مصر""، (القاهرة: دار الشروق، 1983)، ص 90 .

(11)               فهمي هويدى، "صوت الضمير المصري" www. Ahram.org.eg فى 26/ 2/ 2008.

(12)               جمال عبد الناصر، مرجع سبق ذكره، ص ص 57- 58، 67.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟