لكل دولة منطق خاص بها، إفتقاده أو التسامح فيه يفقدها وجودها، أو يمنعها من أداء دورها، ومنطق الدولة هو النظام الدقيق الذى يحدد طريقتها فى القيام بوظائفها، وإستقرار مكوناتها، وإستمرار أداء أدوارها الداخلية والخارجية بصورة تحافظ على كيانها، وتحقق أهدافها على مر التاريخ.
ومنطق الدولة يحدده التفاعل التاريخى بين المكان الذى تتحكم فيه العوامل الجغرافية، وبين المكانة التى يصنعها الانسان والمجتمع مع مرور الزمن، لذلك نجد أن منطق الدولة فى بريطانيا مثلا؛ مازال كما هو رغم تغير الأحوال، وتقلص الأملاك، وزوال المستعمرات، مازالت تتصرف رغم ما أعترى وجودها من ضمور بنفس المنطق العالمى الذى كان أيام كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس، منطق الدولة هو نوع من الحتميات التاريخية التى يصنعها الإنسان والمجتمع، فتتحول إلى قانون لا يستطيع الإنسان والمجتمع مخالفته.
ومنطق الدولة المصرية أنها فلك فى ذاتها تدور فيه دول وكيانات أخري، ولا تدور هى ابداً فى فلك أى دولة أو كيان آخر، هكذا كانت منذ أن ظهرت فكرة الإدارة المركزية على أرض مصر، حتى عندما تم اخضاعها لإمبراطوريات أو دول أخرى كالرومان أو الخلافة الإسلامية؛ تم التعامل معها بنفس المنطق فكانت فلكا فى ذاتها، وكان حكمها بنفس منطقها، ولم يتم التعامل معها كوحدة إدارية تابعة، فقط كانت هناك إستفادة من خيراتها الاقتصادية ليس أكثر، ظل هذا المنطق منذ فجر التاريخ فاعلاً حتى هزيمة المماليك على يد العثمانينين فى مرج دابق شمال حلب 1516م، وبعدها إنتهى منطق الدولة المصرية أو توقف، إلى أن جاء عبدالناصر فأعاده لعشر سنين فقط، وتوقف بعد هزيمة 1967م ولم يعد حتى اليوم.
منطق الدولة المصرية له جانبان، أو مكونان أساسيان، أولها خارجى وهو الأساس، ويقوم به الجيش، والثانى داخلي، وينهض به المجتمع وفعالياته الذاتية، وتحقق البعد الخارجى يقود إلى ازدهار ونهوض البعد الداخلي، وتراجع البعد الخارجى يؤدى إلى تآكل وضمور، وفساد البعد الداخلي، أى أن تقوقع مصر وتراجع دورها الخارجى يؤدى إلى تراجع المجتمع وتدهوره، وفساده، وإنحلاله، هو قدر تاريخى على مصر، يكاد يكون قانونا ثابتا، فعلى سبيل المثال لم يحدث أن واجهت مصر عدوا على أرضها وانتصرت نصراً كاملا عليه، فكل الغزوات والحروب التى تفاجأت بها مصر على أرضها كانت نتيجتها الهزيمة، لذلك خلص عالم السياسية الكبير المرحوم حامد ربيع فى كتاب ز الأمن القومى العربيس وبحث زالأمن القومى المصريس والجغرافى العظيم المرحوم جمال حمدان فى موسوعته زشخصية مصرس وكلاهما مات أو أميت فى ظروف غامضة، خلصا هذان المفكران الكبيران إلى أن حدود مصر تبدأ فى جبال طوروس شمال سوريا حيث خط الدفاع الأول عن مصر، وبعده يكون الجليل الأعلى شمال فلسطين هو خط الدفاع الثاني، وبعده التل الكبير شرق القاهرة هو خط الدفاع الثالث، لذلك كان إنتصار الأيوبيين على الصلبييين فى حطين شمال فلسطين، وكان إنتصار المماليك على المغول فى عين جالوت، وهى أيضا فى شمال فلسطين، وكانت هزيمة المماليك وانتهاء دولتهم فى مرج دابق فى شمال حلب.
الأمن القومى المصرى يبدأ شمالاً من سوريا ولبنان، ولا يتحقق أمن مصر إذا كان فى هذه المناطق كيانا يعادى مصر فى أى من الدول الواقعة فى هذه المنطقة، فوجود حماس فى غزة خطيئة أمنية كبري، يستحيل أن يتحقق أمن مصر وفى فلسطين أو الإردن او سوريا أو لبنان كيان يعادى مصر، سواء أكان أسمه حماس أو حزب الله أو اسرائيل. وأمن مصر جنوبا يبدأ من منابع النيل، ولا يمكن أن تشعر مصر بالأمن وفى السودان نظام يتربص بمصر، ويسعى لإفشال الدولة المصرية تمهيداً لعودة حكم الإخوان، وأمن مصر غرباً يبدأ من تونس، ومصر مهددة طالما فى تلك المناطق عصابات تسعى لإرباك الدولة المصرية، وأمن مصر شرقاً يبدأ من مضيق هرمز ثم باب المندب، وهنا ينبغى أن نتذكر أن الهزيمة الأولى التى سقطت على إثرها دولة المماليك كانت فى زديوس وهى مدينة جنوب بومباى فى الهند حين واجهت أساطيل المماليك بقيادة حسين الكردي، وبالتعاون مع حكام كاليكوت الهنود المسلمين، وجيش جوجارات الهندى المسلم، واجهت أساطيل البرتغاليين دفاعا عن جزيرة العرب، وهزم أسطول المماليك فى 3 فبراير 1509م، وبعده بسبع سنوات هزم جيش المماليك أمام العثمانيين شمال سوريا 1516م، ودخلت مصر فى فلك الدولة العثمانية، ثم فى فلك الانجليز، وحاول عبد الناصر إعادتها لدورها التاريخي، وتربص به الجميع، فكانت هزيمة 1967، وبعدها أدرك السادات الدرس، وأدخل مصر فى الفلك الأمريكي.
القتل المتكرر لجنودنا فى سيناء والفرافرة يبين لنا جميعا أن الخطر الحقيقى ليس فقط فى سيناء والصحراء الغربية، وإنما أصل الخطر فى غزة، وليبيا والسودان، والأن توسع إلى سوريا واليمن، ولابد أن نتصرف كدولة كبيرة، ونخرج من عباءة السادات ومبارك اللذين نجحا فى تقزيم وقوقعة مصر داخل حدود لا تحقق الأمن لشعبها، وتضعف من مكانة جيشها، لابد من التصرف بمنطق الدولة المصرية خارجيا وداخليا، ما يحدث فى سوريا ولبنان وفلسطين واليمن هو من صميم الأمن المصري، وليس تدخلا فى شئون الدول الأخري، ولابد من يفهم العالم أن الفوضى المحيطة بنا تهدد أمننا، وكفى ذلك الخجل العذرى الذى تعودت سياستنا الخارجية أن تغلف به كل سلوكياتها، وكأننا دولة قزمية صغيرة، مصر لها مجال حيوى لابد أن يكون مستقراً وآمناً.
وداخليا لابد من التصرف بمنطق الدولة، بحيث يتم تجاهل دعاوى الرأى العام العالمي، ومنظمات حقوق الإنسان، وموقف الدول الغربية، لابد من ترك كل ذلك جانبا إذ لا قيمة له عندما تتعرض الدولة المصرية للتهديد، وتزهق ارواح ابناء مصر، ويتهدد المجتمع فى أمنه وإستقراره، لابد من تجريم الإنتماء إلى الكيانات التى لا تحترم الدولة، ولا تخضع للقانون، ولابد من تجريم الأفعال الفوضوية سواء على وسائل التواصل الإجتماعي، أو فى الشارع لانها أدت إلى تلاشى مفهوم الدولة فى أذهان الشباب المنتمى إلى الجماعات الإرهابية، أو المتعاطف معها، لم يعد هناك دولة تملك السيادة، وتطبق القانون والجميع يخضع لها، اصبحت الدولة عندهم طرفا، أو جماعة من الجماعات، وكلهم سواء، هذه الحالة الفوضوية فى الشارع وفى العالم الإفتراضى لابد من وضع حد لها. نقلا عن الأهرام