في انتخاباتها التشريعية الأخيرة، إن على صعيد سيرها أو نتائجها، قدمت تونس برهاناً جديداً على تميز الحال التونسية عربياً . إن ثورة الياسمين تعطي أُكلها في التحول الديمقراطي، لأنها ثورة أصيلة، لم تفتعل أو تختلق تعسفاً من دون نضوج مقدماتها، كما حدث في بلدان أخرى انزلقت نحو الفتن والتشظي والحروب الأهلية .
ثورة تونس جاءت نتاجاً لتفاعلات مجتمع مدني عصري، تشارك فيه المرأة بفاعلية ووعي، ونضال عمالي طويل تقوده حركة نقابية منظمة ذات تقاليد عريقة راسخة، لذا لم يكن غريباً أن تكون هي النسخة الأكثر تقدماً في المنطقة، والأكثر قدرة على استيعاب وامتصاص ارتدادات التغيير الكبيرة .
لا يعني هذا أن النموذج التونسي مثالي وخالٍ من النواقص، ولكنه، بالتأكيد، الأكثر قدرة على التعامل المرن مع هذه النواقص، وقد برهن التوانسة على ذلك غير مرة، سواء في انتفاضهم السلمي على احتكار حزب النهضة للسلطة، أو في طريقة إقرار دستورهم الجديد الذي حافظ على منجزات الجمهورية الأولى والتراث البورقيبي الراسخ في التكوين السياسي والمجتمعي للبلد، وعززه بأهداف وتطلعات الثورة . وها هو البرهان يأتي مجدداً في الانتخابات الأخيرة ومخرجاتها .
تجربة تونس، بما فيها انتخاباتها الأخيرة، أكدت أن الإسلام السياسي ليس قدراً مفروضاً على العرب في المرحلة الراهنة، وإن الآليات الديمقراطية حتى لو مكنته من الصعود إلى مواقع السلطة، فإنها قادرة أيضاً على تحجيمه .
وأهم دروس تونس هي أن الاقصاء القسري لأي قوة نهج مدمر، فليترك للآليات الديمقراطية أن تؤدي دورها في توجيه المسار الديمقراطي، وهي أوسع من أن تحصر في صناديق الاقتراع، على أهمية مخرجات هذه الصناديق، فهي تشمل، أيضاً، ديناميات أخرى في مقدمتها دينامية مؤسسات المجتمع المدني، والدينامية الثقافية والفكرية .
ثمة من يتحدث أن البرنامج الاقتصادي للنهضة لا يختلف من حيث الجوهر عن برنامج حركة نداء تونس، الذي يضم في صفوفه نخبة من رجال الأعمال ومن تكنوقراط العهد السابق، وأن هذا قد يهيئ الفرصة لحكومة مشتركة تضم الطرفين، وربما يكون في ذلك عامل استقرار سياسي تحتاج إليه تونس، ولكن يظل أن الانتخابات حملت إلى المجلس التشريعي ألوان الطيف الحزبي والمجتمعي، بما فيها الجبهة الشعبية، تنظيم الشهيد شكري بلعيد، ورغم أنها لم تحقق المرتبة التي تستحقها بين القوائم الفائزة، إلا فإنها مؤهلة لأن تلعب دوراً نوعياً مهماً، ببرنامجها التقدمي وبتعبيرها عن مصالح الفئات الشغيلة . نقلا عن الخليج