المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

المختبر السياسي(2): مصر وتونس..أوجه الشبه والاختلاف

الخميس 13/نوفمبر/2014 - 10:43 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
إبراهيم نوّار*

أنجزت تونس بنجاح المهمة الثانية على طريق الانتقال إلى الديمقراطية، انتخابات البرلمان، في أكتوبر 2014 بعد أشهر من إتمام المهمة الأولى، الدستور، بنجاح في يناير من العام نفسه، وتستعد من الآن لإنجاز المهمة الثالثة، الانتخابات الرئاسية قبل نهاية العام نفسه. إذن تونس على الطريق الصحيح من ناحية "الاستعداد للديمقراطية". ومع ذلك فإن معايير النجاح في وضع الدستور أو في إتمام الانتخابات، أيا كان الفائز، ليست سوى علامات على الطريق، ولا تعني أبدا "الانتقال" إلى الديمقراطية، وذلك على أساس أن تعريف "الديمقراطية" من حيث هي "عملية" يتجاوز كثيرا تعريف "الانتخابات" من حيث هي "إجراءات". وذلك لا يعنى صبا لماء بارد على دفء فرحة النجاح، ولكنه ليس إلا مجرد "تحوط ضد مخاطر" تبدو رابضة هنا وهناك، ربما تنتظر وقت الانقضاض في المستقبل القريب. فالسياسة، خصوصا في مراحل الانتقال، ليست مثل القطار الذي يجري على قضبان في طريق ممهد ومحصن ومعد جدا، ينتقل بسهولة من محطة إلى أخرى، بل إنها مثل عربة تسير بسرعات متفاوتة في طريق وعرة، مليئة بالحفر والمطبات والمنحنيات، ومن ثم تحتاج إلى قدر كبير من المهارة في القيادة، وإلى حذر شديد من خطورة الطريق، حتى الوصول إلى محطة الهدف.

فقدت العملية السياسية في مصر القدرة على الوصول إلى حالة "توازن القوى" التي من شأنها أن تخيف الإخوان من عواقب المغامرة، وتوفر لخصومهم السياسيين القدرة على إزاحتهم، بمعاونة الشعب إذا

أولا- المخاطر والتهديدات المستقبلية

ونقصد بها في هذا السياق المقومات والمتغيرات السلبية "النشطة" التي قد تعترض تونس وهي في طريق "الانتقال" إلى الديمقراطية. وهذه إما أنها تدخل عضويًّا شريكًا في التأثير على عملية الاختيار في المرحلة السياسية الراهنة، مثل الميل السياسي لدى أطراف العملية السياسية إما للمشاركة أو للإقصاء، أو أنها تقف خارج عملية الاختيار التي تقرر طبيعة مرحلة الانتقال، وتعارضها أو تحاول نفيها مثل الميل إلى تغليب "الحاكمية" على النظام الديمقراطي، واللجوء إلى تغيير النظام السياسي بالعنف، من جانب جماعات متطرفة تتخذ لنفسها مواقع خارج نطاق العملية السياسية، وهو نهج لا يقف بعيدا عن تونس. ويمكن القول بأن هناك ثلاثة اختبارات أو حواجز رئيسية سوف يتعين على التجربة الانتقالية في تونس أن تعبرها أو تمر منها بنجاح في الفترة المقبلة، قبل أن نتمكن من إصدار حكم دقيق بشأن مصير ثورتها. فالحكم على طبيعة الثورة كما يقول هنري كيسنجر، لا تقرره طبيعة القوى المشاركة فيها، وإنما يقرره المصير الذي تنتهي إليه. إن هذه الاختبارات الثلاثة تتجاوز كثيرا ما أشار إليه فريد زكريا في الواشنطن بوست (30 أكتوبر 2014) من اختبار هنتنجتون الذي يحكم على نجاح التحول الديمقراطي بنجاح عملية تداول السلطة سلميا مرتين متتاليتين. وهذه الاختبارات الثلاثة تأخذ في اعتبارها دروس التجربة الأفغانية والتجربة العراقية التي لا تزال كل منهما في حال تعثر حتى الآن، على الرغم من انتقال السلطة سلميا عبر صناديق الانتخابات (في حال العراق: انتخابات 2006- 2010 ثم أخيرا 2014). كما تأخذ في اعتبارها أيضا طبيعة التهديدات الداخلية والإقليمية التي تواجه التجربة التونسية.

الاختبار الأول: الديمقراطية

وقد تحدثت عن ذلك فيما سبق، واللافت للنظر أن هناك بعض القوى السياسية التي يمكن أن "تنقلب على نفسها" خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي. فهي قد تتبنى خطابا سياسيا منفتحا على الآخرين، ثم وبعد أن تستخدم "الانتخابات" سلما لها للصعود إلى السلطة، لا تلبث أن تنقلب على خطابها السياسي "الانتخابي" وتهرع إلى الاستمساك بخطاب سياسي نقيض. إن مثل هذه القوى لن تعجز أبدا عن خلق أو اختلاق المبررات والوسائل التي تحقق بها هذا الانقلاب على النفس. رأينا ذلك بوضوح في تجربة (حماس) في فلسطين وفي تجربة حزب (الدعوة) في العراق وفي تجربة (الإخوان) في مصر. الآن الدائرة تدور في الاتجاه المقابل، القوى "المدنية" التي تقترب من السيطرة على السلطة في تونس، والسؤال هو: هل سيتمكن الائتلاف الحاكم الجديد في تونس "قوى مدنية"، في مقابل ائتلاف معارض، بنكهة "إسلامية" بالأساس بقيادة (حركة النهضة) من تطوير الديمقراطية وإرساء قواعد التعددية والتنوع وسيادة القانون واحترام حقوق الإنسان، والتداول السلمي للسلطة؟ أم أن هذا الائتلاف المدني بقيادة (نداء تونس) والذي لم يتبلور سياسيا بعد ولم تتضح هوية سياساته، سيسقط في "اختبار الديمقراطية"؟

إن الانفتاح على الآخرين، وتعزيز مقومات الديمقراطية، من شأنه أن يؤدي إلى حالة من "توازن القوى" اللازم على المسرح السياسي  بما يكفي لوصول تجربة الانتقال إلى شواطئ مستقرة وهادئة. وهذا من شأنه أن يمنح التجربة التونسية علامة (صح) كبيرة. أما التخلف عن ذلك أو الفشل فيه فإن من شأنه أن يستفز القوى الأخرى، وأن يدفع تونس من جديد إلى مرحلة من الاختلالات والصراع الذي يستهدف خلق حالة جديدة من "التوازن" على المسرح السياسي، تعتمد آلية "الصراع والعنف" بدلا من "المنافسة السلمية".

 الاختبار الثاني: مواجهة الإرهاب

يعتبر الإرهاب وتنامي قواه واحدا من التهديدات الرئيسية التي تواجهها تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في تونس. وقد اتخذت الجماعات السلفية في تونس موقفا سلبيا من العملية الديمقراطية منذ بدايتها، على الرغم من أنها حصدت مكاسب سياسية غير متوقعة بسبب الثورة. وعلى غرار ما حدث في مصر، حيث حصلت الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية على تراخيص قانونية لمزاولة العمل السياسي، وأنشأ السلفيون التونسيون أحزابا مثل (العمل) و(الإصلاح) و(الكرامة والمساواة) وغيرها. وهناك أيضا (حزب التحرير الإسلامي) الذي يرفع صراحة شعار "دولة الخلافة" على أساس دستور إسلامي يتفق مع "القرآن والسنة". وربما لا يكون في ذلك ما يثير القلق طالما أن مثل هذه الأحزاب أو الجماعات تتبنى أسلوب العمل السياسي السلمي، وتقبل بقواعد اللعبة الديمقراطية. لكن ما يثير القلق هو أن تونس تعد الآن بمثابة "المخزن الرئيسي" لتوريد المقاتلين إلى منطقة الصراع المشتعلة في شرق البحر المتوسط، وربما أيضا في مناطق أخرى من العالم العربي.

وتشير تقارير الرصد في جبهات القتال في سوريا والعراق إلى أن هناك ما يقرب من 3 آلاف مقاتل تحت سن الثلاثين جاءوا من تونس وانضموا إلى عصابات داعش المسلحة. وهذا الرقم يفوق عدد المقاتلين من أي جنسية واحدة من الجنسيات التي تحارب في صفوف داعش التي يقدر عدد مقاتليها في الوقت الحاضر بنحو 15 ألف رجل. وهذا إن دل يدل على شيئين، الأول أن هناك ميلا للتطرف الديني بين الشباب في تونس ربما يفوق مما نتوقعه، ومن ثم يجب أن نأخذه في الاعتبار، حتى وإن كانت نتائج التصويت في الانتخابات لا تعلنه. والثاني يتمثل في أن تونس ربما تعج بتنظيمات وقوى ترتبط بالتطرف المسلح، ليست معروفة تماما للسلطات التونسية (على الرغم من أن هناك نحو 2000 من المسجونين أو المحتجزين في السجون التونسية بجرائم أو اتهامات لها علاقة بالإرهاب)، وأن هذه التنظيمات والقوى لها علاقة بشبكات الإرهاب في أوربا، نظرا لانتشار الجاليات التونسية في الخارج خصوصا في فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وهولندا، وبشبكات القتال في سوريا والعراق، وهي تقوم بعمليات التجنيد والتعبئة للقتال في صفوف (داعش). ونظرا لأن هؤلاء الذين تدربوا على فنون القتال ومارسوها في صفوف الجماعات الإرهابية يتحولون بعد ذلك إلى "مقاتلين محترفين" لا مهنة لهم غير القتال، فإن عودة هؤلاء أو بعضهم إلى تونس، يمثل خطرا كبيرا على تجربة الانتقال إلى الديمقراطية، خصوصا وأن أولئك الذين قاموا على إعدادهم وتجنيدهم، موجودون داخل تونس، وربما ينتظرون الفرصة المواتية للانقضاض على التجربة وهي لا تزال طرية في مراحلها الأولى. إن النجاح في "اختبار مواجهة الإرهاب" هو التحدي الثاني الذي يواجه التجربة التونسية.

من المتوقع أن تترك حالة الاستقطاب السياسي الحاد في مصر بين تيار "الإسلام السياسي" وبين "الدولة" أثرا كبيرا على تطور العملية السياسية

الاختبار الثالث: تنحية تأثير عدم الاستقرار الإقليمي

من الصعب عزل تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في تونس عن محيطها الإقليمي. وتزداد هذه الصعوبة بالنظر إلى أن تونس تجاور اثنين من الدول العربية التي تتعاظم فيهما (كل من زاوية مختلفة) مؤشرات عدم الاستقرار، فهذه ليبيا إلى الشرق، وقد انهارت فيها الدولة وتحولت عمليا إلى ولايات قبلية، غابت عنها الدولة بشكلها السابق، وتتصارع فيها جيوش العصابات المسلحة ذات المرجعية الدينية وما تبقى من قوات الدولة السابقة. وهذه هي الجزائر إلى الغرب وهي تشهد من آن إلى آخر مظاهر عدم الاستقرار المتمثلة في رئيس مريض، ونزاعات حدودية مع جارتها الشقيقة المغرب، وتورط في قضية مزمنة هي قضية الصحراء المغربية، التي تقف الجزائر فيها في صف قوات "البوليساريو" التي تعمل على الاستقلال عن المغرب وتأسيس "الجمهورية الصحراوية"، إضافة إلى احتمالات عودة النشاط القوي للجماعات السلفية ذات النفوذ التاريخي والمتمددة إقليميا تحت لواء (تنظيم القاعدة في بلدان المغرب العربي).

لقد استطاعت تونس في الانتخابات البرلمانية أن تتجاوز تأثير الأزمة في ليبيا، مع إنها تعاني من أعباء استضافة المهاجرين القادمين من الغرب الليبي. كما استطاعت أيضا أن تنأى بنفسها عن الصراعات الحدودية والسياسية بين جارتيها الجزائر والمغرب، مما جنبها مخاطر الوقوع في حالة استقطاب مغاربي، قد تنعكس سلبا على الحالة الداخلية. لكن ألسنة اللهب التي قد تتطاير لتصيب تونس من أي من ليبيا أو الجزائر، ستظل تمثل تحديا خطيرا يهدد تجربة الانتقال إلى الديمقراطية، خصوصا وأن تونس لا تمتلك الأدوات السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، التي تقدر بها أن تؤثر على مسار الأمور في الجزائر أو في ليبيا. لقد استطاعت خيارات التونسيين حتى الآن أن تتجنب التأثير السلبي للتطورات في كل من جارتيها، وهذه بلا شك علامة مبشرة، وسيكون من الضروري تعزيز القدرات التونسية في هذا الاتجاه في المستقبل، وإلا فإن التجربة بأكملها يمكن أن تصبح ضحية لتدهور حاد في الوضع الإقليمي في أي لحظة.

إن هذه الاختبارات الثلاثة، أو الحواجز الثلاثة التي سيتعين على التجربة السياسية التونسية أن تتخطاها وأن تعبر منها إلى شواطئ الأمان، هي اختبارات متكاملة ومتلازمة، فالفشل في اختبار الديمقراطية من شأنه أن يعزز قوة التنظيمات المتطرفة والإرهاب الداخلي، وأن يجعل تونس مطمعا لقوى الإرهاب العالمي ولعدم الاستقرار الإقليمي. وهذا يعني أن تونس تستطيع أن تتجنب السقوط في الاختبارين الثاني والثالث عن طريق عبور الاختبار الأول بقوة وبنجاح فائق، وهو ما يعزز قوة الصد وقدرات الصمود الداخلي ضد مخاطر الإرهاب وتهديدات عدم الاستقرار الإقليمي. إن نشوة النصر لا يجب أن تجعلنا نغيب عن الاستعداد للتحديات المقبلة، هكذا علمتنا التجربة في ميدان التحرير، عندما غلبت نشوة النصر بإسقاط مبارك على الاستعداد لمرحلة ما بعد مبارك، فكان "الارتباك" الذي تعرضت له التجربة المصرية.

 

ثانيا- مصر وتونس..أوجه الشبه والاختلاف

وهذا يقودني إلى النقطة الثالثة من هذا المقال، والتي تتعلق بالآثار والدروس المستفادة من التجربة التونسية في مصر، التي تستعد الآن للانتخابات البرلمانية، بوصفها المحطة الأخيرة من محطات طريق "الانتقال إلى الديمقراطية" طبقا لدستور 2014. ويلاحظ أنني هنا لا أشير من بعيد أو قريب إلى أهمية انتخابات "البلديات" أو ما يسمى في مصر بـ "المجالس الشعبية المحلية"، وذلك على اعتبار أن مثل هذه الانتخابات وطبيعة التركيبة السياسية للمجالس الناتجة عنها تترك أثرا كبيرا على طبيعة النظام السياسي الجديد في حال إعادة البناء من أسفل إلى أعلى (bottom-up) وليس من أعلى إلى أسفل (top- down) ومن الواضح أن الأمور في كل من مصر وتونس سارت في الاتجاه نفسه، وهو تفضيل أسلوب إعادة البناء من أعلى إلى أسفل.

ومن المفيد هنا التذكير بأن ثورة يناير كشفت عن ضعف وهزال القوى السياسية المدنية على الرغم من قدرتها الخارقة (أو بعضها) على التحريض والإثارة. وبعد أن دخلت القوى المدنية في معارك ومهاترات (ربما يكون الطرف الآخر قد فرضها ووقعت هي في مصيدتها)، فإنها فشلت في اختبار الدستور، حيث تم تمرير تعديلات دستور 1971 في استفتاء 19 مارس، ثم فشلت بعد ذلك في اختبار انتخابات البرلمان، حيث سيطرت الأحزاب الجديدة ذات المرجعية الإسلامية على أغلبية مريحة جدا في المجلس المنتخب. وبعد أن أساء الإخوان المسلمون استخدام السلطة وفشلوا فشلا ذريعا في إدارة مؤسسات الدولة، لأسباب كثيرة أهمها إنهم وضعوا سلطتهم بسرعة في صدام مباشر مع القوات المسلحة ومع الشرطة ومع القضاء ومع الإعلام! وهو ما سهل إمكانية الحشود المليونية ضدهم في 30 يونيو وفي 3 يوليو 2013 ومن ثم إزاحتهم من السلطة بعد سنة من تولي رئيسهم منصب رئيس الجمهورية، ولكن بدون دور رئيسي للقوى المدنية، باستثناء حركة (تمرد) التي نشأت ونمت بسرعة، ثم انطفأ وهجها بعد ذلك بوقت قصير. إن أحد وجوه الخلاف الرئيسية بين التجربة التونسية وبين نظيرتها المصرية، أن حركة النهضة في تونس التي حصلت على 41% في الانتخابات التونسية الأولى، سارعت إلى بناء تحالف أو ما سمي بـ "الترويكا" السياسية من أحزاب النهضة (الغنوشي) والتكتل (مصطفى بن جعفر) والتجمع (المنصف المرزوقي). وفي الانتخابات الأخيرة خسرت قوى الترويكا جميعا الأغلبية التي تمتعت بها في المجلس الوطني التأسيسي.

1- التجربتان بين التشارك و "التكويش": ويمكن القول إن تطورات عملية الانتقال السياسي بعد سقوط مبارك  في مصر، اتخذت مسارا يختلف عن ذلك الذي شهدناه في تونس. أن تجربة راشد الغنوشي في المنفى، خصوصا في بريطانيا، لعبت دورا مهما في الانفتاح على القوى الأخرى والتعامل معها، في حين أن انغلاق جماعة الإخوان في مصر، وشعور قيادات الجماعة بأن لهم فضل القيادة ليس في العالم العربي فقط بل في العالم الإسلامي، وتجربة الإخوان في العمل من وراء ستار الحزب الوطني المنحل، إضافة إلى الضعف السياسي والتنظيمي والمادي للقوى المدنية في مصر، كانت جميعا عوامل "أغرت" الإخوان بالاستئثار بالسلطة، بل والنظر إليها بأنها كانت بمثابة "غنيمة حرب" يوزعونها كما يشاؤون وفقا لمصالحهم بصرف النظر عن مصالح أو تطلعات القوى الأخرى، بما في ذلك القوى التي شاركتهم قائمتهم الانتخابية في انتخابات (2011/ 2012).

إن تحالفات الإخوان السياسية خلال فترة المخاض التي سبقت ثورة 25 يناير، التي ترافقت مع انتخابات مجلسي الشورى (تجديد) والشعب عام 2010 كانت تحالفات مبنية على أسس انتهازية سياسيا وأخلاقيا، وهو ما ظهر جليا قبل فجر 25 يناير عندما اصدر الإخوان بيانا يعلنون فيه بدون لبس إنهم ضد دعوات التظاهر يوم 25 يناير. وكان أساس انتهازية الإخوان في ذلك الوقت هو خوفهم الذي وصل إلى حد الفزع من فقدان شرعيتهم الفعلية التي حصلوا عليها من خلال صفقات تم عقدها مع الحزب الوطني المنحل ومع جهاز مباحث أمن الدولة.

وجه الاختلاف الأول إذن بين التجربتين، إنه كان هناك قدر من "توازن القوى" والخبرة التاريخية بالقدر الذي بينما دفع النهضة إلى بناء "ترويكا سياسية"، فإنه على العكس من ذلك قاد الإخوان إلى طريق "الاستحواذ الكامل" على السلطة وتهميش الآخرين، بمن فيهم حلفائهم الذين خاضوا معهم تجربة الانتخابات البرلمانية.

إن سيادة أسلوب العنف والتخريب والعمل المسلح على نشاط الإخوان والسلفيين الجهاديين في مصر، من شأنه أن يحول بينهم وبين المشاركة في العملية السياسية، وحتى إذا هم شاركوا فيها تحت مسميات

2- طبيعة الاستقطاب السياسي: أما وجه الاختلاف الثاني فتتمثل في طبيعة الاستقطاب السياسي الذي أسفرت عنه العملية السياسية في مصر عشية 30 يونيو 2014. إن صدور الإعلان الدستوري الرئاسي في 22 نوفمبر 2013 كان بمثابة الشرارة التي أشعلت العملية السياسية كلها في مصر، لأن ذلك الإعلان بما منحه من سلطات مطلقة لرئيس الجمهورية، كان يمثل انقلابا صريحا على الثورة ومحاولة شديدة الجرأة، ينقصها الحذر في حساب العواقب، لتقنين انفراد الإخوان بالسلطة السياسية في مصر، وإقامة دولة تقوم على أسس "الاستبداد الديني". وبسبب هذا الإعلان الدستوري وجدت القوى السياسية المدنية نفسها في خندق واحد مع الشعب ومع قيادة القوات المسلحة المصرية، التي كانت تحاول من ناحيتها وضع مقومات حالة سياسية جديدة، يتم من خلالها إبعاد الإخوان عن مغامرتهم المميتة. لقد فقدت العملية السياسية في مصر القدرة على الوصول إلى حالة "توازن القوى" التي من شأنها أن تخيف الإخوان من عواقب المغامرة، وتوفر لخصومهم السياسيين القدرة على إزاحتهم، بمعاونة الشعب إذا لزم الأمر. وبسبب غياب توازن القوى السياسي، تقدمت القوات المسلحة ومؤسسات الدولة المختلفة، ومنها القضاء، لكي تملأ الفراغ،  ولكي تسحق الإخوان بضربة واحدة، هي عزل الرئيس.

ذلك السيناريو لم يكن ليحدث في تونس لسببين: الأول هو اختلاف دور المؤسسة العسكرية في البلدين. وهذا يعود إلى أسباب تاريخية ترجع إلى فترة النضال من أجل الاستقلال، واختلاف ملامحها في تونس عنها في مصر، حيث لعبت المؤسسة العسكرية في مصر بعد ثورة "الضباط الأحرار" دورا محوريا في كل نواحي الحياة بما في ذلك الحياة السياسية، وذلك على عكس الحال في تونس. الثاني: هو أن انعدام توازن القوى السياسية في مصر أدى عمليا إلى عودة الاستقطاب الثنائي بين "الدولة" من ناحية وبين "الإخوان والتنظيمات السياسية ذات المرجعية الإسلامية" من ناحية مقابلة. كان هذا الاستقطاب على هذا النحو حتميا، بسبب هزال وضعف القوى السياسية المدنية، وانشغالها بمعارك وهمية جانبية، إما باختيارها أو بسبب انزلاقها السهل إلى المصيدة التي دخلت إليها مرات عديدة، لتتحول من كونها "أحزاب سياسية" إلى مجرد "حركات احتجاجية" متفرقة ومشتتة وعديمة القيادة، تجري فقط ناحية ما يمكن تسميته بـ "ضوضاء" سياسية أو "دوشة"، بعيدا عن أي إجراءات لمد جذورها وبناء قواعدها السياسية استعدادا لمعارك المنافسة على المستويات المختلفة (الرئاسة- البرلمان- المجالس المحلية).

في مصر إذن توجد حالة استقطاب ثنائي، تقف القوى المدنية إما بعيدة عنه، أو تحتل فيه موقع الطرف الضعيف، بينما في تونس، وبفضل توازن القوى وبُعد القوات المسلحة عن السياسة (هذا يستبعد دور الأجهزة الأمنية التي تضخمت في عهد بن علي)، فإن القوى المدنية تتمتع بوزن كبير يقل هامشيا عن 70% من القوة التصويتية في البرلمان الجديد. وتمثل هذه النسبة صورة مقلوبة لمعادلة القوى في مصر (30% للقوى المدنية و70% للقوى الإسلامية).

ومن المتوقع أن تترك حالة الاستقطاب السياسي الحاد في مصر بين تيار "الإسلام السياسي" وبين "الدولة" أثرا كبيرا على تطور العملية السياسية خلال الأشهر المقبلة، وذلك بعد أن تركت آثارها خلال الأشهر الماضية، متمثلة في إجراء الانتخابات الرئاسية قبل الانتخابات البرلمانية، على خلاف الترتيب الذي نص عليه الدستور، ثم تعمد السلطة التنفيذية الدفع بالانتخابات البرلمانية إلى الوراء شهر بعد شهر، لأسباب أو لمبررات قد تبدو منطقية للبعض، مثل عدم صدور قانون تقسيم الدوائر الانتخابية مبكرا. وفي هذا الاستقطاب فإن "الدولة" تظهر بجدارة وكأنها اللاعب الرئيسي، ولكن ليس اللاعب الوحيد، فهي التي تتحكم في إيقاع العملية السياسية، وهي التي تقوم بإصدار أو تعديل القوانين والتشريعات الحاكمة للعملية السياسية بمقتضى الدستور، وفي غياب برلمان أو سلطات شعبية محلية، وفي غياب أي تأثير حقيقي للقوى المدنية على العملية السياسية.

3- العنف والتخريب والإرهاب: من الواضح إن الإخوان المسلمين في مصر أظهروا خلال الفترة التالية للثورة حتى الآن قدرا كبيرا من الميل إلى التهديد بالعنف، أو ممارسته بالفعل. ومن الخطأ النظر إلى هذا الميل للعنف على إنه رد فعل لسقوطهم السياسي المروع من قمة السلطة. الحقيقة أن الإخوان وحلفاءهم، كانوا منذ اللحظة الأولى دعاة عنف وأنصار خلط الرصاص بالسياسة، جنبا إلى جنب مع خلط الدين بالسياسة!

وقد ثبت ذلك بالمشاهد المجردة من الآدمية ضد المتظاهرين خلال فترة حكم محمد مرسي، وقبل ذلك خلال فترات الاستفتاء والتصويت في الانتخابات المختلفة، حيث لم تتمكن جماعات من الناخبين، منهم قرى بأكملها في الصعيد، من التصويت في انتخابات البرلمان والرئاسة. إن توثيق مثل هذه الأحداث من جانب منظمات المجتمع المدني، كان يكفينا الآن مجهود محاولة التوثيق من جديد، فهذه المنظمات التي اهتمت كثيرا بإصدار بيانات وتقارير عن عملية فض اعتصام رابعة، لم تنطق كلمة واحدة في خصوص العنف الذي مارسه الإخوان من قبل. وعندما سقط الإخوان من الحكم، فإنهم برروا لأنفسهم أن يمدوا الحبل على الغارب فيما يتعلق بممارسة العنف والتخريب والإرهاب، مستعينين في ذلك بأشكال متنوعة ومختلفة من المنظمات، التي إما إنها نبتت من رحم الإخوان ولا تزال على علاقة بهم، أو من خلال تحويل منظمات الإخوان المحلية إلى خلايا إرهابية تقوم بأعمال قتل للأفراد، خصوصا المنتمين إلى أجهزة الشرطة، وتخريب المنشآت في كل ربوع مصر، في إطار إستراتيجية واضحة لشن حرب اقتصادية على الدولة تستهدف محطات وشبكات وأبراج توزيع الكهرباء وغيرها من المرافق الحيوية مثل السكك الحديد.

ويسوقني هذا إلى الحديث عن السلفيين المصريين، الذين كانوا قد أعلنوا بشكل صريح معارضتهم لثورة يناير تحت شعار "الخروج على الحاكم المسلم غير جائز شرعا" ثم شاركوا في العملية السياسية بعد أن أتاحت لهم الثورة الحصول على رخصة قانونية لممارسة السياسة، فأنشأوا أحزابا أهمها (النور) وغيره من الأحزاب السلفية مثل (البناء والتنمية) التي تزعمها قتلة سابقون ومحرومون من ممارسة العمل السياسي بسبب سجلاتهم الإجرامية. لقد شارك السلفيون بقوة في العملية السياسية، واستطاعوا أن يكونوا الكتلة التصويتية الثانية في مجلسي الشعب والشورى اللذين تشكلا بعد الثورة. وهؤلاء في مشاركتهم السياسية، اختلفوا عن السلفيين التونسيين الذين آثرت الكتلة الأكبر منهم الاستمرار في طريق "العمليات الجهادية" وعدم الانخراط في العملية السياسية. لكن هذه ليست المفارقة، وإنما المفارقة الحقيقية هي أن الإخوان تحولوا هم أيضا إلى العمل المسلح، مثلهم مثل الجبهة السلفية المقاتلة، التي تؤمن بدولة الخلافة وتكفر بالقوانين والتشريعات الوضعية. إن سيادة أسلوب العنف والتخريب والعمل المسلح على نشاط الإخوان والسلفيين الجهاديين في مصر، من شأنه أن يحول بينهم وبين المشاركة في العملية السياسية، وحتى إذا هم شاركوا فيها تحت مسميات مختلفة، فإن نصيبهم من أصوات الناخبين لن يصل إلى النسبة التي حصلت عليها حركة النهضة في تونس.

ونظرا لاعتبارات سياسية محلية ودولية، فمن المتوقع أن تشارك أحزاب ذات مرجعية إسلامية في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وسيكون على رأس هذه الأحزاب كلا من حزب (النور) ممثلا للسلفيين وحزب (مصر القوية) ممثلا للإخوان المسلمين في نسخة مطورة، ساعيا من خلالها إلى تقديم وجه مختلف ومعتدل للأحزاب ذات المرجعية الإسلامية. وسوف يتوقف نصيب كل من هذه الأحزاب في التحالفات فيما بينها، سواء في القوائم أو في المنافسة على المقاعد الفردية، على "المحاصصة" فيما بينها. بينما سيتوقف نصيبها من أصوات الناخبين على موقفها من العنف والتخريب والإرهاب. وفي اعتقادي إن تقسيم دوائر الانتخابات المخصصة للقوائم الحزبية على النحو الذي تم إعلانه، يهدف عمليا إلى تهميش تمثيل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، وكذلك الأحزاب المدنية التي لن تنضوي في تحالف أو اثنين تدعمهما قوى "الدولة"، التي تمثل الشريك الأكبر بقوة الأمر الواقع في العملية السياسية. أما بالنسبة للدوائر الفردية، فسوف يتكفل قانون تقسيم الدوائر الانتخابية، وعملية إدارة الانتخابات، بالحد من احتمال تمدد نفوذ مرشحي تيار الإسلام السياسي، والتقليل من احتمال فوز نسبة كبيرة منهم في الانتخابات البرلمانية.

باختصار، لن تحصل الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية في انتخابات البرلمان المقبل على النسبة التي حصل عليها إسلاميو تونس من أصوات الناخبين. ولن يكون ذلك أساسا بسبب "تدخل" الدولة، وإنما سيكون ذلك هو الاختيار الحر للناخبين الذين يدفعون حاليا ثمن عمليات العنف والتخريب والإرهاب التي تقوم بها جماعات مسلحة "إسلامية" المرجعية، بصرف النظر عن شدة التطرف الذي تمارسه هذه الجماعات في عملياتها. سيدفع الإسلاميون ثمنا فادحا في الانتخابات البرلمانية المقبلة في مصر. لكن حذار من تصور إن ذلك يعني نهاية الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، أو إن نسبة من مرشحيهم لن يحصلوا على أصوات كافية (في الدوائر الفردية) تؤهلهم للوصول إلى مقاعد البرلمان. وربما يكون نصيب الإسلاميين جميعا في البرلمان المقبل نسبة تدور حول 10% مع معامل خطأ يبلغ 3% صعودا أو هبوطا. إذا زاد نصيب الإسلاميين عن ذلك، فستكون هذه مفاجأة غير مريحة، وإذا حصلوا على أقل من ذلك فستكون هذه مفاجأة سارة.

وأنا أبني هذا التقدير على أربعة متغيرات رئيسية هي:

(أ‌)                 التعاطف الشعبي: استفادت الأحزاب ذات المرجعية الدينية من موجة عالية من التعاطف الشعبي بعد ثورة يناير. وكانت هناك أغلبية ساحقة من الناخبين الذين يعتقدون أن الإخوان والسلفيين كانوا هم "شهداء" عصر استبداد مبارك، لكن هؤلاء الشهداء تحولوا إلى "جبابرة" بمجرد وصولهم إلى السلطة. وقد أصبح هذا مصدر كراهية للإخوان والسلفيين في الشارع المصري، حتى قبل 30 يونيو 2013. زد على ذلك أن ما قام به الإخوان من عنف بالتحالف مع قطاعات واسعة من  السلفيين مثل حركة "حازمون" و"الجهاد الإسلامي" و"الجماعة الإسلامية"، جعل هؤلاء جميعا بمثابة "أعداء الأمة" أو "العدو من الداخل" الذي يجب التخلص من نفوذه والعمل على حرمانه من مقومات القوة. إن قناعات شعبية سيارة عن الإخوان والسلفيين على اعتبار إنهم "ناس بتوع ربنا" قد انهارت قبل أقل من 12 شهرا من وصولهم إلى السلطة. إن متغير "التعاطف الشعبي" إذن يعمل ضد الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، بصورة قوية جدا في القاهرة وفي عواصم المحافظات والمدن الكبرى، وهو ليس معهم بدرجات متفاوتة في الأرياف وفي الصعيد وفي العشوائيات، على عكس ما كان معهم في السابق.

(ب‌)              القوة التنظيمية والمادية: بعد الضربات التي  تعرض لها الإخوان المسلمون وحركة (حازمون) والجماعات "الجهادية" المختلفة، ووجود معظم قياداتهم في السجون حاليا، يواجهون عددا كبيرا من القضايا، تعرضت البنية التنظيمية والمادية للإخوان وحلفائهم لهزة شديدة، أدت بهم حاليا وبعد تبني أسلوب العنف السياسي إلى العمل بوصفهم "جماعات عنقودية" لا مركزية تدير أمورها بنفسها، مع أخذ التوجيهات العامة إما بواسطة الرسائل المشفرة أو بواسطة الوسائل الإليكترونية، وإلى حد ما وفي نطاق ضيق بواسطة أسلوب الاتصال الشخصي. إن أحد أهم مصادر القوة لتلك الجماعات كان يتمثل في قوتها التنظيمية والمادية، وقد تهشمت الآن هذه القوة إلى حد كبير بسبب تحول هذه التنظيمات إلى العنف والتخريب والعمل المسلح، الأمر الذي وضعها خارج نطاق الشرعية فأصبحت صيدا سهلا  بفضل الملاحقات الأمنية.

(ت‌)              دور الدولة: لعبت قيادة الدولة منذ سقوط حسني مبارك وحتى 30 يونيو 2013 دورا في العملية السياسية تراوح بين "التدخل الإيجابي" لمصلحة الإسلاميين (مثال تشكيل لجنة تعديل دستور 1971) وبين "الحياد السلبي" بين الإسلاميين وبين القوى المدنية، خصوصا في العمليات الانتخابية التي جرت فيما بعد. وقد تغير هذا الدور كثيرا بعد ثورة 30 يونيو حيث برز دور الدولة كـ "صاحب مبادرة" في العملية السياسية، وليس مجرد طرف يمارس دورا حياديا تجاهها. وكانت مؤسسة الرئاسة على وجه الخصوص الوجه الأبرز حضورا في تطورات العملية السياسية منذ 30 يونيو حتى الآن، وهو ما منح قيادتها ثقة الناخبين، ففاز القائد العام للقوات المسلحة بمنصب رئيس الجمهورية، وأصبحت بين يديه بعد انتخابه السلطتين التنفيذية والتشريعية حتى يتم انتخاب البرلمان المقبل وكذلك حتى يتم تشكيل الحكومة التي ستتولى إدارة البلاد بمقتضى الدستور الجديد والنتائج التي ستسفر عنها الانتخابات. لقد فقدت أحزاب الإسلام السياسي سندها السابق المتمثل في المجلس الأعلى للقوات المسلحة والدور النشط الذي لعبه هذا المجلس لمصلحة الإخوان والسلفيين منذ ثورة يناير وحتى إزاحة قيادته بواسطة الرئيس الذي جيء به ممثلا للإخوان.

(ث‌)              الدعم الخارجي: كان الدعم الخارجي السياسي والتنظيمي والمادي الذي حصل عليه الإخوان والسلفيون في المرحلة الأولى من العملية السياسية، واحدا من أهم مصادر القوة التي سهلت لهم الطريق للسيطرة على مجلسي الشعب والشورى في انتخابات 2011/ 2012. وليست هناك وثائق مؤكدة تبين لنا قيمة الأموال التي حصل عليها الإخوان والسلفيون من الخارج، فقد كان القسم الأعظم من هذه الأموال يأتي إلى مصر في صورة نقود سائلة بحوزة مسافرين قادمين إلى مصر، خصوصا من قطر والسعودية والكويت وتركيا، بينما تم تحويل نسبة قليلة من هذه الأموال عن طريق البنوك. وحصل الإخوان والسلفيون على دعم سياسي غير مسبوق من كل من الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، عبرت عنه بوضوح تصريحات مسئولين مثل آشتون مسئول السياسة الخارجية في الإتحاد الأوروبي وهيلاري كلينتون وزير الخارجية الأمريكي، إضافة إلى العشرات من المقالات وافتتاحيات الصحف الكبرى مثل نيويورك تايمز والواشنطن بوست والفايننشال تايمز. وعلى الرغم من أن الإخوان ما يزالون يحاربون معركة "استرداد الشرعية" متمثلة في "عودة مرسي إلى الحكم"، فإن الدوائر السياسية الحاكمة في أوربا والولايات المتحدة تدرك بقوة إن مثل هذه المعركة خاسرة في النهاية، وإنه يتعين على الإخوان الانخراط في العملية السياسية السلمية. ومن المستبعد أن تخضع الإدارة الأمريكية لابتزاز بعض جماعات الضغط الصهيونية المؤيدة للإخوان، وتذهب إلى آخر المدى بالصدام مع مصر، لمصلحة الإخوان. فما يهم الولايات المتحدة هنا هو المحافظة على الحد الأدنى اللازم من مصالحها مع مصر. وتتمثل هذه المصالح في استمرار التعاون الإستراتيجي، والتعاون في مكافحة الإرهاب، واستمرار معاهدة السلام مع إسرائيل، ثم المحافظة على قواعد "السوق الحر" في إدارة الاقتصاد. ولذلك فإنه توجد الآن حدود للدعم الخارجي الذي ستحصل عليه أحزاب الإسلام السياسي، تقل كثيرا عن ذي قبل.

إن هذه المتغيرات الأربعة، بمكوناتها المختلفة ستحكم نتائج العملية الانتخابية في مصر، فيما يتعلق بحجم التصويت بالثقة الذي سيمنحه الناخبون لمرشحي أحزاب الإسلام السياسي. وأعتقد أن هذه الأحزاب ربما تنقسم في شأن الانتخابات إلى ثلاثة معسكرات، واحد يقوده حزب (النور) والثاني يقوده حزب (مصر القوية) أما الثالث فسيكون التيار الرافض للانتخابات وعلى رأسه الجبهة السلفية أو ما يسمى بـ "السلفية الجهادية". لكن كلا من (النور) و(مصر القوية) سوف ينسقان فيما بينهما في الدوائر الفردية على أساس "المرجعية الإسلامية"، وهو ما حدث تقريبا بدرجات متفاوتة في انتخابات مجلسي الشعب والشورى الماضية. النتيجة هنا إذن مرة أخرى، إن أحزاب الإسلام السياسي ستخسر النسبة الأعظم مما حصلت عليه من مكاسب في الانتخابات النيابية الماضية. المهم ولضمان نجاح تجربة الانتقال إلى الديمقراطية في مصر، أن تتم المحافظة على نمط التفاعلات السياسية في إطار "التنافس السلمي" والحد من احتمالات انزلاقه بصورة خطيرة إلى دائرة "الصراعات العدائية"، التي قد يتسع فيها اللجوء إلى العنف.

ولغرض التلخيص، فيما يتعلق بالدروس المستفادة وانعكاسات الانتخابات التونسية على الانتخابات المقبلة في مصر، نخلص مما سبق إلى النتائج التالية:

1-     الاستقطاب السياسي في تونس هو أساسا بين القوى المدنية والقوى ذات المرجعية الإسلامية، بينما الاستقطاب في مصر هو بين قوى "الدولة" وبين القوى ذات المرجعية الإسلامية. ولا يوجد توازن للقوى يسمح بحالة من الانتقال "السلس" للسلطة بين القوى السياسية وبعضها البعض. ومن أجل ضمان "سلاسة" انتقال السلطة في مصر، يتم الآن تشكيل تحالفات مدنية بواسطة أو تحت إشراف "شخصيات مؤتمنة ومضمونة". وستكون هذه التحالفات مدعومة من قوى الدولة وأجهزتها المختلفة.

2-     دور الدولة النشط في العملية السياسية في مصر يصب في غير صالح الإسلاميين هذه المرة على عكس الحال في الجولة الأولى، وذلك منذ نهاية يونيو 2013. وستقوم الدولة بدور مهم في الأشهر المقبلة، خصوصا بعد أن أصدر الرئيس السيسي قرارا جمهوريا بتعديل قانون الأحزاب السياسية وطلب من الأحزاب القائمة توفيق أوضاعها طبقا للقانون الجديد. وسيبرز هذا الدور بشكل مهم في قانون تقسيم الدوائر الانتخابية والإجراءات الإدارية الخاصة بالانتخابات، خصوصا وأن الحالة في سيناء ربما لا تسمح بإجراء الانتخابات بسهولة هناك.

3-     حال القوى المدنية في مصر هو من الهزال بحيث لا يسمح لها بمحاولة التفاوض من مواقع قوية أو بفرض شروطها في الانتخابات المقبلة. بل إن الأمور تبدو على العكس من ذلك، في صالح قوة العائلات ورجال الأعمال، الذي شكلوا على مدار فترة طويلة من الزمن العمود الفقري لبنية السلطة التشريعية في مصر. وللتأكيد على ذلك فإن أبرز أحزاب التيار المدني التي تحاول أن تلعب دورا قويا هما (الوفد) و (المصريون الأحرار) بسبب القوة المالية لكل منهما، وبسبب العلاقات العائلية التاريخية (الوفد) أو العلاقات العائلية "المشتراه" (الأحرار). وربما يقود تشكل التحالفات الانتخابية في نهاية الأمر إلى وجود برلمان تتنافس فيه كتلتان كبيرتان، ليس الإسلاميون في أي منهما. ولذلك فإن طبيعة الاستقطاب السياسي تحت قبة البرلمان ستكون في مصر مغايرة لما هي في تونس.

4-     سوف يحصل الإسلاميون على تمثيل في البرلمان المصري المقبل. الدولة ستكون حريصة على ذلك للتدليل على إنها لا تمارس "الإقصاء" والإسلاميون، بمن فيهم الإخوان (في نهاية الأمر) للتدليل على حرصهم على وجودهم السياسي ولتأكيد "شرعيتهم السياسية". هناك إذن مصلحة مشتركة، سواء لأغراض الاستهلاك السياسي المحلي أو الخارجي، أو لأغراض حقيقية تتعلق بضرورة عدم تشويه العملية السياسية والنأي بها عن الاتهامات التي يمكن أن توجه إليها. لكن هذا التمثيل الذي سيحصل عليه الإسلاميون في البرلمان المقبل، لن يصل أبدا إلى ثلث مقاعد البرلمان، وحتى إذا بلغ نسبة 20% من المقاعد فسوف تكون هذه مفاجأة مدوية. التقييم السياسي العقلاني، وبافتراض بقاء كل المتغيرات على ما هي عليه، سيضع مقاعد ممثلي الإسلام السياسي في حدود نسبة الـ 10% كما ذكرت، مع افتراض هامش خطأ في حدود 3%، أي 13% كحد أقصى و7% كحد أدنى. وربما تميل تلك النسبة إلى الانخفاض إذا زادت أعمال العنف في الأشهر المقبلة.

يتبقى سؤال واحد ربما يتعلق بالمسائل المشتركة بين مصر وتونس، بعد انتقال السلطة من تحالف إسلامي إلى تحالف مدني في تونس، والعلاقات بين الدولتين فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والتعاون لإيجاد حل للأزمة الليبية الراهنة، باعتبار إنها تزيد من حال عدم الاستقرار على حدود مصر الغربية، كما تترك الأثر نفسه على الحدود الشرقية التونسية، وذلك إضافة إلى مشاكل الصيد البحري والتهريب وغيرها. وفي اعتقادي إن تونس حافظت تاريخيا على موضع لها في المغرب العربي وفي التعاون مع جيرانها يقترب كثيرا من الموضع الذي اختارته سلطنة عمان لنفسها في منطقة الخليج العربي، أي دور الطرف المحايد الذي لا يتورط أبدا في نزاع مع واحد من جيرانه، مع القدرة على الوساطة بين هؤلاء الجيران في بعض الأحيان.

تونس التي ترتبط بحدود مشتركة مع كل من ليبيا والجزائر، كانت على الدوام حريصة على الابتعاد عن مغامرات القذافي العربية والأفريقية، وكذلك نأت بنفسها عن أي شبهة يمكن أن تقوم دليلا على تورطها في النزاع الجزائري- المغربي بشأن الصحراء المغربية. ومع ذلك فإن مصر وتونس ترتبطان بتاريخ طويل من التعاون في المجالات الأمنية، وقد تعزز هذا التعاون كثيرا خلال سنوات حكم بن علي. لكن انتقال السلطة في تونس إلى جناح مدني، يسمح للعلاقات بين البلدين أن تمضي قدما خطوات قليلة على الأقل إلى الأمام، بعد أن خسرت حركة النهضة وحلفاؤها الأغلبية التي كانت تساعدها في التأثير على السياسة الخارجية التونسية، ومنها السياسة تجاه مصر التي كانت تميل لتأييد التنظيم الإسلامي الأم (الإخوان) في مصر.

ومما لا شك فيه أن القيادة المصرية الجديدة تحرص على أن تلعب دورا إيجابيا ونشطا في المحيط العربي، لكن بما لا يؤدي إلى تورطها في محاور أو تحالفات بينية، تترك شبهة في الانحياز إلى طرف عربي على حساب طرف عربي آخر. هناك قضايا سوف يتعين على الدبلوماسية المصرية أن تتحرك على أرضيتها، مدعومة بمبادرات مدروسة جيدا في التقارب مع تونس. هناك فرصة تلوح في الأفق لإعادة الدفء للعلاقات بين "دول الربيع العربي"، وعدم ترك هذه العلاقات تتحكم فيها الرياح كما تشاء، ومنها علاقات ساخنة مثل التعاون في مكافحة الإرهاب وضبط الحدود الليبية، ومنها موضوعات كانت دائما مثار قلق، مثل مخالفات الصيادين المصريين في المياه الإقليمية التونسية.

*رئيس الوحدة الاقتصادية بالمركز العربي للبحوث والدراسات

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟