المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

تأملات فى محنة التنمية العربية

الإثنين 17/نوفمبر/2014 - 11:04 ص

بحلول هذا العام، يكون قد انقضى نصف قرن على توقيع اتفاقية مهمة بين خمس دول عربية: مصر وسوريا والعراق والأردن والكويت، فى سنة 1964، وسميت باتفاقية »السوق العربية المشتركة.

أدى تطبيق الاتفاقية إلى أن زاد نصيب التجارة فيما بين الدول الأربع الأولى (حيث اعتذرت الكويت عن التصديق عليها بعد توقيعها) فى اجمالى صادرات هذه الدول بنحو الثلثين فى خمس سنوات (من 8،3% فى 1964 إلى 2،6% فى 1969). ولكن الظروف السياسية التى طرأت على البلاد العربية بعد عقد الاتفاقية وجهت ضربة قاصمة لأى محاولة لزيادة التقارب الاقتصادى بين الدول العربية، كما وجهت ضربة قاصمة لغير ذلك من أوجه الحياة الاقتصادية والسياسية فى العالم العربي.

كان تحقيق الوحدة الاقتصادية العربية، واحدا من أربعة أهداف اقتصادية تبناها الرأى العام العربى منذ خمسين عاما، وكانت الأهداف الثلاثة الأخري: رفع معدل نمو الناتج القومي، وتصحيح هيكل الإنتاج (وعلى الأخص بزيادة نصيب الصناعة التحويلية فى الناتج القومي) وإعادة توزيع الدخل بما يحقق درجة أعلى من العدالة الاجتماعية، ولا أظهر أن هناك اختلافا على أنه، فيما عدا إنجازات جزئية ومؤقتة فى بعض هذه الأهداف، كانت حصيلة الخمسين عاما مخيبة للآمال فيها جميعا، وان كان الفشل بدرجات مختلفة بين دولة عربية وأخري.

ثم حدث منذ أربع سنوات، وعلى الأخص فى سنة 2011 ما أحيا الآمال من جديد بحلول ما عرف »بثورات الربيع العربي«، التى رفعت خلالها شعارات تحمل معانى ثلاثة من هذه الأهداف الأربعة، كما داعب الأمل كثيرين ممن لم يفقدوا ثقتهم بعد فى ضرورة الوحدة العربية، فى أن تساعد هذه الثورات على تحقيق نوع أو آخر من الاندماج الاقتصادى العربي. ولكن ها نحن نري، بعد مرور ما يقرب من أربع سنوات على قيام هذه الثورات أن العرب لم يصبحوا أقرب كثيرا إلى تحقيق هذه الآمال الأربعة مما كانوا قبل ذلك. ما هى أسباب الفشل طوال العقود الخمسة الماضية، ثم تكرار الفشل من جديد فى السنوات الأربع الماضية؟ وإلى أى مدى يحمل المستقبل إمكانية السير من جديد نحو تحقيق هذه الأهداف؟ هذان هما السؤالان اللذان أبدأ الآن فى محاولة الإجابة عنهما.

(1)

منذ نحو عشر سنوات صدر عن هيئة الأمم المتحدة بعض التقارير عن حالة الاقتصاد والمجتمع العربى تحمل عنوان (التنمية الإنسانية العربية) وقد حازت شهرة واسعة، إذ حاولت شرح أوجه الفشل فى الأداء الاقتصادى والاجتماعى والسياسى العربى وتفسيره واستعانت الأمم المتحدة فى كتابها، ببعض الخبراء العرب المرموقين كل فى مجاله، ودعمت ما وصلت إليه من نتائج بالأرقام واستطلاعات الرأي، مما أضفى على هذه التقارير سمة الموضوعية وعدم التحيز، ولكنى لاحظت (كما لاحظ غيري) ان هذه التقارير أغفلت (اغفالا تاما تقريبا) ما يمكن أن يكون للعوامل الخارجية من دور فى حدوث هذا الفشل العربي، وأقصد بذلك تغيرات المناخ الدولي، أو ما طرأ من تغيرات على مصالح القوى الخارجية فى المنطقة العربية، منذ منتصف الستينيات. وقد أدى بى استعراض ما طرأ على العالم من تغيرات خلال الخمسين عاما الماضية، مما يمكن أن يكون له أثر فى تغير السياسات الاقتصادية العربية إلى استخلاص تغيرين مهمين فى المناخ الدولى والعلاقات الدولية، مما يمكن أن يكون له هذا الأثر على العالم العربي:

أولهما: الارتفاع الملحوظ فى درجة العولمة: أى درجة الارتباط بين مناطق العالم ودوله المختلفة، من حيث تبادل السلع والخدمات والأفكار، وانتقال رءوس الأموال والأشخاص والمعلومات.

والثاني: تراجع دور الدولة القومية: فى تشكيل حياة الناس الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، بالمقارنة بدور الشركات الدولية، وعلى الأخص ما يسمى بالشركات متعددة الجنسيات.

هذان التطوران يرتبط أحدهما بالآخر ارتباطا وثيقا فالتقدم التكنولوجى الذى دفع الشركات العملاقة إلى النمو، أضعف من دور الدولة وزاد فى الوقت نفسه من درجة العولمة. لم يكن فى أى من هذين التطورين ما من شأنه بالضرورة أن يقلل من أهمية الأهداف الاقتصادية الأربعة التى تبناها الرأى العام العربى منذ خمسين عاما، ولكن الملاحظ أن كلا منهما كان له آثار سلبية قوية على قدرة البلاد العربية على تحقيق هذه الأهداف.

ولنبدأ بالآثار السلبية التى ترتبت على تراجع دور الدولة.

(2)

مهما اختلفت آراؤنا حول أثر تدخل الدولة فى رفع أو خفض معدلات النمو فى الناتج القومى ككل، أو حول مدى كفاءة القطاع العام بالمقارنة بالقطاع الخاص، فمن الصعب أن ننكر ما يمكن أن تقوم به الدولة من دور فى تصحيح هيكل الإنتاج بتشجيع نمو بعض القطاعات دون غيرها، وأهمية تدخلها فى تقليل الفجوة بين الدخول، وفى تشجيع الاتجاه نحو الاندماج الاقتصادى بين عدة دول.

ان الجدل قد يحتدم حول تفسير تجارب الدول المتقدمة اقتصاديا حول ما إذا كانت هذه الدول مدينة فى رفع معدل نموها الاقتصادى لتطبيق سياسة الحرية الاقتصادية، أو لاتباعها فى البداية سياسة الحماية الاقتصادية قبل أن تأخذ بنظام حرية السوق (فلنتذكر مثلا دور سياسة التجاريين (Mercantilism) قبل مجيء آدم سميث)، وما إذا كان سقوط معظم التجارب الاشتراكية كان ناتجا عن اتباعها سياسة التدخل الشديد من جانب الدولة، أو عن أسباب أخرى أكثر أهمية سياسية أو عسكرية.

لقد اقترن تراجع دور الدولة فى النشاط الاقتصادى فى مختلف البلاد العربية فى الخمسين عاما الماضية، بانحسار اداة مهمة من أدوات التقدم الاقتصادي، وهو التخطيط المركزي. فبعد أن كان التخطيط يحاط فى الستينيات من القرن الماضى بدرجة عالية من الاحترام، أصبحت كلمة التخطيط الآن من الكلمات سيئة السمعة، على الرغم من أن التقدم التكنولوجى وامتداد آمال الاستثمارات من شأنهما أن يصبح التخطيط للمستقبل أكثر ضرورة منه فى أى وقت مضي.. ولكن الذى حدث فى الواقع هو أن التخطيط المركزى الذى كانت تقوم به الدولة حل محله تخطيط الشركات العملاقة، ليس فقط لنفسها ولكن أيضا للعالم الذى تتحرك فيه (أى أن من لم يخطط لنفسه فى العالم الذى نعيش فيه خطط له غيره).

ربما لم يظهر أثر ذلك دائما فى انخفاض معدل نمو الناتج القومى ولكنه ظهر بكل تأكيد فى التطور الذى اتسم به تصحيح الهيكل الإنتاجي. ومن ثم استمرت البلاد العربية التى يقوم اقتصادها على تصدير بعض المواد الأولية (كالبترول) فى الاعتماد على هذه المواد، بنفس الدرجة تقريبا التى كانت عليها قبل خمسين عاما.

لا يمكن أيضا أن نتغاضى عن أثر تعاظم دور الشركات متعددة الجنسيات فى تعطيل مسيرة الأندماج بين الاقتصادات العربية، ان من الممكن جدا أن تجد بعض هذه الشركات مصلحة لها فى تحرير التجارة بين عدد من الدول المتجاورة، أو فى إلغاء القيود المفروضة على انتقال العمالة، أو على حركة رأس المال فيما بينها ولكن هذه الصور من صور التقارب بين الدول، إذا تمت لخدمة أغراض بعض الشركات الخاصة لابد بالضرورة أن تظل انتقائية، ومحكومة بالأهداف الخاصة التى ترمى إليها هذه الشركات، والتى تصب فى النهاية فى تخفيض نفقاتها أو توسيع السوق لسلع بعينها تقوم هى بإنتاجها. لابد أن تخرج عن خطط هذه الشركات صور التقارب أو الاندماج التى ترمى إلى زيادة قدرة هذه الدول على المساومة مع الدول الأخري، أو مع الشركات العملاقة، أو حماية اقتصاداتها من آثار التقلب فى الأحوال الاقتصادية فى العالم الخارجي.

هذا هو ما أقصده بالقول بأن تراجع دور الدولة القومية بالمقارنة بدور الشركات الخاصة متعددة الجنسيات كان ذا آثار سلبية مهمة على قدرة البلاد العربية على تحقيق أهدافها الاقتصادية، ولكن العامل الآخر (ارتفاع درجة العولمة) كان له أيضا آثار سلبية مباشرة على مسيرة الاقتصاد العربي، وهو ما ارجو أن أتناوله فى مقال مقبل. نقلا عن الأهرام

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟