المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

مشروع القرن: قناة السويس أيقونة النضال والتقدم

الإثنين 17/نوفمبر/2014 - 12:02 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. نبيل حنفي محمود

ارتبطت قناة السويس طوال تاريخها بنضال الشعب المصري من أجل الحرية والتقدم، حتى ليعد تاريخ القناة فصولًا متصلة من النضال، ونظرًا لما للقناة من أهمية استراتيجية لمصر والعالم أجمع، فإن الدم والعرق كانا عمادًا لتلك الفصول، لذا فإن المشروع القومي الحالي لتنمية القناة، والذي بدأ بتفجير الرئيس عبد الفتاح السيسي ـ ومن حضر معه من المسئولين والشباب والأطفال ـ للساتر الرملي قبالة مدينة الإسماعيلية عند ظهر الأربعاء التاسع من شوال سنة 1435هـ (5/8/2014م)، لتبدأ بذلك عملية شق قناة جديدة موازية للقناة التي حفرها الأجداد من المصريين، إن هذا المشروع الطموح يمثل فصلًا جديدًا في تاريخ القناة، ولن يكون الأخير ما دامت لمصر مكانتها وللقناة أهميتها في هذه المنطقة الحساسة من العالم، والمقالة الحالية ترصد ما ألم بقناة السويس من تطورات منذ الشروع في تنفيذها وحتى الآن، ليستشرف القارئ من خلال سياق المقالة مستقبل القناة بعد البدء في المشروع العملاق للقناة الجديدة.

أولاً- لمحة تاريخية

تضرب فكرة ربط البحرين الأحمر والأبيض بعيدًا في التاريخ، حيث حفرت أول قناة ـ والتي عرفت باسم قناة سيزوستريس ـ في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، امتدت تلك القناة من النيل إلى بحيرة التمساح، كانت البحيرة آنذاك تمتد إلى خليج السويس، مما مكّن السفن القادمة من البحرين الأبيض أو الأحمر، من الإبحار ـ صعودًا أو انحدارًا ـ عبر النيل وبحيرة التمساح، ليتحقق بذلك أول اتصال بين البحرين، وعندما انحسر خليج السويس في القرن السادس قبل الميلاد، توقفت حركة السفن ومن ثم التجارة عبر القناة، وذلك لانقطاع الاتصال بين الخليج وبحيرة التمساح، حتى جاء دارا الأول الذي خلف قمبيز في ملك دولة فارس والتي كانت تحتل مصر منذ عام 344 قبل الميلاد، فمد دارا قناة سيزوستريس حتى التحمت بخليج السويس، وعندما فتح عمرو بن العاص مصر في سنة 19 هـ (640م)، كانت القناة التي أهملت في أواخر احتلال الرومان لمصر قد غطتها الرمال، فأعاد عمرو بن العاص شقها بعد تطهيرها من الرمال، لتستوعب القناة شطرًا من التجارة بين الشرق والغرب، تلك التجارة التي كانت تمر إما عبر ميناء القصير إلى قفط الواقعة على نهر النيل إلي الجنوب من مدينة قنا، ثم تنحدر بها السفن مع النيل إلى البحر الأبيض، أو عبر البصرة ـ على الخليج العربي ـ وصحراء شبه الجزيرة العربية إلى ميناء جدة، ثم تعبر بها السفن البحر الأحمر إلى القصير، لتتخذ الطريق الذي ذكر آنفًا.

عندما اكتشف الطريق إلى الشرق عبر رأس الرجاء الصالح في عام 1484م، تحولت تجارة أوربا مع الشرق لتسلك ذلك الطريق الجديد، وليت الأمر اقتصر على ذلك بالنسبة لقناة السويس، حيث جاء استيلاء الأوربيين على بعض مدن سواحل البحر الأحمر عند مضيق باب المندب في مطلع عام 1513م1، واحتلالهم لمدينة كمران بساحل الهند في العام التالي (1514م)، جاء ذلك كضربة قاصمة لمرور قوافل التجارة البحرية أو البرية عبر القناة أو المياه الإقليمية العربية، ومن ثم عبر الصحاري العربية، لتقفر صحاري مصر وشبه الجزيرة العربية والعراق من القوافل التجارية، ولتفقد القناة أهميتها وتندثر معالمها تحت ما ذرته الرياح عليها من رمال.

في السابع عشر من نوفمبر 1869 عبرت القناة أول قافلة من السفن، والتي تكونت من أربع سفن تجارية من السويس صوب بور سعيد

 

ثانياً- عوْد حميد

عادت فكرة القناة لتنبعث من جديد إبان الحملة الفرنسية علي مصر (1798 – 1801م)، ولكنها قبرت باعتقاد البعض في اختلاف مستويي البحرين الأحمر والأبيض، غير أن القياسات التي أجراها في عاميّ 1842 و 1843م مجموعة من المهندسين البريطانيين، أثبتت أن مستوى الماء في البحرين واحد2، ولكن ذلك لم يقنع محمد علي بفكرة القناة، حيث رفضها لنقص ما حوته من ضمانات أمان كافية3، غير أن التوفيق كان حليف الفرنسيّ فردينان دي ليسبس، الذي أقنع الخديو سعيد بفكرة القناة، مما ترتب عليه توقيعه عقدًا لشق القناة مع الحكومة المصرية في 30/11/1854م، تضمن العقد أن تكون القناة المزمع شقها على خط مستقيم بين مدينة السويس علي البحر الأحمر ومدينة الطينة (شرق الموقع الحالي لمدينة بور سعيد) الواقعة على البحر الأبيض المتوسط، وجاء في العقد أيضًا أن طول القناة يبلغ نحو مائة وخمسين كيلو مترًا، وأن مبلغ عرضها مائة متر، بينما يقدر عمقها بستة أمتار ونصف المتر تحت مستوى الجزر للبحر الأبيض، وبعد مراجعة بنود العقد بمعرفة لجنة من سبعة من مهندسي الدول العظمى آنذاك، تم الاتفاق في 30/10/1855م علي نقل مدخل القناة الشمالي إلى الغرب من موقع الطينة إلى موقعة الحالي عند مدينة بور سعيد، وتم أيضًا تعديل عرض القناة وعمقها ليصبحا على التوالي ثمانين مترًا وثمانية أمتار.

ارتبطت القناة في تاريخ مصر بعديد من النزاعات والصراعات، كان أول النزاعات حول المزايا الفادحة التي حازتها شركة قناة السويس في عقد الامتياز

بدأ حفر القناة في يوم الإثنين 25/4/1859م، عندما ضرب فردينان دي ليسبس أول ضربة معول بمنطقة الليدو قبالة الموقع الحالي لمدينة بور سعيد، كان سبعة وعشرون ألفا من العمال المصريين فضلًا عن بضعة آلاف من الأجانب قد توافدوا إلى موقع القناة خلال شهر إبريل 1859م، ليبدأ حفر القناة الذي استغرق أكثر من عشرة أعوام، حيث افتتح الخديو إسماعيل وضيوفه من ملوك وأمراء أوربا القناة في الخامس عشر من شهر نوفمبر عام 1869م، وفي السابع عشر  من نفس الشهر (نوفمبر 1869م) .... عبرت القناة أول قافلة من السفن، أبحرت القافلة التي تكونت من أربع سفن تجارية من السويس صوب بور سعيد4 ، ليبدأ منذ ذلك اليوم فصل جديد من تاريخ مصر والعالم، حيث تغيرت ـ فيما بعد ـ وجهة معظم تجارة أوربا مع الشرق، لتسلك طريق القناة الذي اختصر ما يقرب من ثلاثة آلاف فرسخ (نحو اثني عشر ألف كيلو متر) من مسافة الرحلة بين أوربا ودول الشرق الأقصى.

ثالثاً- في النضال والكفاح

مما لا شك فيه أن القناة أضافت لمصر الدولة والموقع مزيدًا من الأهمية، وألقت عليها ـ تبعًا لذلك ـ الكثير من التبعات والمهام، ولا يجد الباحث خيرًا مما أثبته الدكتور جمال حمدان عن ذلك في موسوعته الخالدة "وصف مصر" فبعد أن أكد علي أن القناة قد جددت (شباب موقع مصر) في العالم، فإنه أضاف إلى ذلك ما يلي: "لكنها (الضمير عائد إلي القناة) كان لا مفر من أن تجعل مصر بوابة دموية إستراتيجيًا، كما قد أصبحت بوابة ذهبية تجاريًا، فبالقناة لم يعد موقع مصر أخطر موقع إستراتيجي في العالم العربي وحده، وإنما في العالم القديم برمته على أرجح الظنون" (ص ص 145 -146)، لقد جاءت ثمار هذا الموقع على عكس المتوقع، وبدا ذلك في رأي الدكتور جمال حمدان مصداقًا للفكرة الشائعة والتي يتلخص فحواها فيما يلي: "إن الموقع ـ الذي كان ينبغي أن يكون رأسمال عسكريًّا لمصر كما صار لها رأسمال تجاري ـ جاء نقمة لا نعمة، وعوانًا عليها لا عونًا لها"5 .

ارتبطت القناة في تاريخ مصر بعديد من النزاعات والصراعات، كان أول النزاعات حول المزايا الفادحة التي حازتها شركة قناة السويس في عقد الامتياز، ومنها إثقال كاهل خزانة مصر المثخنة بالديون بتحمل نسبة 44% من رأسمال الشركة6 ، مما جعل الخديو إسماعيل يقول عن تلك المزايا عندما طالع نص الامتياز الذي وقعه سلفه محمد سعيد في 30/11/1854م: "إني أريد أن تكون القناة لمصر، لا أن تكون مصر للقناة"7 ، لقد أسفر ذلك النزاع وما تبعه من تصرفات خرقاء في حفر القناة والاحتفال بافتتاحها عن تكبيل مصر بديون هائلة، مما نتج عنه بيع أسهم مصر في القناة للحكومة الإنجليزية المتحفزة، لتنفتح بذلك شهية إنجلترا لاحتلال مصر، وهو ما عبر عنه رجل الدولة الانجليزي الشهير: هاري جونستون عند افتتاح القناة في نوفمبر 1869م بقوله: "إن أكثر رجال الإمبراطورية البريطانية استنارة كانوا متأكدين من أن مصر ليست قادرة علي حماية استقلالها ـ بصفتها دولة محايدة وضعيفة ـ ولذلك لا يجب تركها تسقط تحت سيطرة أية دولة تستطيع تحدي إنجلترا وتغلق قناة السويس"!8 ، ليكون ذلك مبررًا لاحتلال بريطاني لمصر والقناة دام لقرابة ثلاثة أرباع القرن، وليبدأ من هنا ثاني النزاعات، والذي تمخض عن قواعد المحتل البريطاني التي زرعها في منطقة القناة بموجب معاهدة 1936م، التي رخصت لقوات الاحتلال البقاء في منطقة القناة بحجة الدفاع عنها، وذلك بغية حماية شريان المواصلات إلى مستعمرات التاج البريطاني في الشرق وعلي الأخص الهند، حتى أن البعض من الساسة البريطانيين عدّ القناة: "عنق الهند"، لقد ترتب على وجود تلك القواعد اندلاع المقاومة المصرية لوجود المحتل، تلك المقاومة التي تطورت من المقاومة السلبية بالامتناع عن التعامل مع قوات الاحتلال بمنطقة القناة وانسحاب العمال المصريين من المعسكرات البريطانية، إلى مواجهات بين المتظاهرين العزل وقوات الاحتلال المدججة بالسلاح، لتشهد ضفتا القناة ومدنها سقوط العديد من الشهداء9 ، وعن نتائج مقاومة المصريين للاحتلال البريطاني .... تحدث د. جمال حمدان قائلًا : "وفي وجه المقاومة المصـرية، حـاول الاستعمـار المساومـة بالاستقـلال الجزئي، الذي يجلو عن الوادي ويحـتل القناة"10.

كانت أهمية القناة وارتباطها بالتجارة العالمية وخطوط المواصلات البحرية سببًا لدفعها إلى بؤرة أي صراع ينشب بالمنطقة، إن الحروب الثلاث الكبرى التي خاضتها مصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين ارتبطت بالقناة ودارت معاركها علي ضفتيها، ففي حرب العدوان الثلاثي التي بدأتها إسرائيل في 29/10/1956م وانضمت إليها كل من إنجلترا وفرنسا في 31/10/1956م، استهدفت الغارات الجوية المدن المصرية، بينما اختصت مدينتي بور سعيد وبور فؤاد بإسقاط قوات المظلات، وذلك بهدف إحكام السيطرة على مدخل القناة الشمالي، هذا وقد أثمر العدوان عن إغلاق القناة جراء انسداد مجراها الملاحي ببعض القطع البحرية الغارقة، ولم يبدأ تطهير القناة وإعدادها للملاحة إلا في 25/3/1957م وبعد انسحاب قوات العدوان، لتفتتح القناة للملاحة في 9/4/1957م وبعد إغلاق دام لقرابة خمسة أشهر11 ، وفي حرب الخامس من يونيو 1967م ... وعلى الرغم من استيلاء إسرائيل على الضفة الشرقية للقناة، فإن ما امتلأت به القناة من سفن غارقة ومئات الآلاف من الألغام والقنابل12 ، شكل مانعًا آخر لاستئناف الملاحة بعد توقف المعارك، لتظل القناة مغلقة أمام الملاحة، حتى طهرتها أيدي المصريين بعد نصر أكتوبر 1973م، ولتفتتح أمام الملاحة في الخامس من يونيو 1975م13، إن تلك الحروب تكشف أن ما طرأ على استراتيجيات العالم من تغير خلال القرن العشرين، لم ينتقص شيئًا من أهمية القناة ودورها الحاكم.

الخديو إسماعيل: "إني أريد أن تكون القناة لمصر، لا أن تكون مصر للقناة

رابعاً- في معية الحضارة

للصراع شقان، أحدهما أو الظاهر منهما مادي يتعلق بالقوة بصورها المختلفة، وأما الآخر فإنه خفيّ يعبر عن حصيلة أطرافه من الحضارة، وقد أفاضت الفقرات السابقة في بيان ما اتصل بالقناة ـ منذ كانت فكرة وحتى صارت واقعًا ـ من نزاعات وحروب، وهي في جوهرها محاولات تستند إلى قوة السلاح لفرض الإرادة على الممر المائي الذي تسلكه قوافل التجارة بين الشرق والغرب، وأما الشق الحضاري في قصة القناة أو ما يسمّى بعناصر القوة الناعمة، فإنه يتجلى في حفرها وإدارتها وما شاده المصريون على ضفّتيها من مدن وما شهدته أمواجها من تفاعل حضاري، ويتمثل أول عناصر الشق الحضاري أو القوة الناعمة في الأعمال الخاصة بحفرها، تلك الأعمال التي تستند إلى تاريخ طويل للمصريين في ترويض النيل بشق الترع والقنوات، هذا وقد قدر حجم ما تم حفره ونقله من رمال وأتربة أثناء شق القناة وخلال أكثر قليلًا من عشرة أعوام بنحو 72 مليون متر مكعب، وقدمت مصر قربانًا للقناة أرواح ما بين ستين ألفًا إلى مائة ألف من أبنائها، حيث كانت مصر تقدم بنظام السخرة عشرين ألف عامل كل شهر، وذلك خلال السنوات الأربع الأولى من فترة حفر القناة14، ولقد سطر المصريون في إدارة القناة أروع الأمثلة والدروس، ويكفي للتدليل على ذلك تذكر مشكلة انسحاب المرشدين الأجانب من العمل بالقناة إثر تأميم الزعيم جمال عبد الناصر لشركة القناة في 26/7/1956م، كانت شركة القناة تستخدم ـ آنذاك ـ 206 مرشدين لضبط الملاحة في القناة، تضمن ذلك العدد من المرشدين أربعين مصريًا، بينما ينتمي الباقون لجنسيات مختلفة (بينهم 31 بريطانيًا و53 فرنسيًا)، وبإيعاز من بريطانيا وفرنسا .... طلب المرشدون الأجانب العودة إلى بلادهم، وذلك بغية شل حركة الملاحة في القناة، ولكن الإدارة المصرية للقناة بادرت بتعين ستة وخمسين مرشدًا جديدًا في العاشر من سبتمبر 1956م، وتضمن ذلك العدد من المرشدين سبعة وأربعين مصريًا، وجاء الباقون من اليونان والنرويج وإيطاليا والسويد وألمانيا، وبقدوم خمسة عشر مرشدًا سوفيتيًا قبل ذلك، وفي السادس من سبتمبر، أصبح ممكنًا إدارة حركة الملاحة في القناة بيسر وكفاءة، وهو ما عبر عنه عبور 42 سفينة للقناة وبمساعدة المرشدين الجدد في مساء 16 سبتمبر م1956م ودونما أية مشاكل أو تأخير15، لتنجح مصر في ذلك التحدي الحضاري الذي راهنت كل من بريطانيا وفرنسا على فشل مصر في اجتيازه، ويتجلى الشق الحضاري في تاريخ القناة كأوضح ما يكون التجلي في مدينتي بور سعيد والإسماعيلية، وقد أنشئت الأولى مع بدء العمل بالقناة في عام 1859م، وسميت باسم حاكم مصر آنذاك: الخديو سعيد باشا، بينما أسست الثانية في عام 1863م  لتكون قاعدة لعمليات حفر القناة، واتخذ لها اسم الخديو إسماعيل الذي ارتقى عرش مصر في ذلك العام، والمدينتان تعدان خير مثال للمدينة الكوزموبوليتانية Cosmopolitan City، وهي المدينة التي تتعايش فيها عناصر اجتمعت من مختلف أرجاء العالم16 ، حيث شهدت المدينتان تعايش أجناس شتى دونما مشاكل عرقية كانت أو دينية، مما تمخض في النهاية عن نموذج مثالي لمدن تحتضن أناسًا من دول مختلفة في إطار علاقات تتسم بالود والتسامح، وهو ما يتفق مع ما عرف عن مصر من احتضانها للنازلين بها، ليذوبوا بعد ذلك في لُحمة شعبها التي لم تعرف يومًا إلا التجانس والتماسك، ولقد انعكست التركيبة السكانية للمدينتين (بورسعيد والإسماعيلية) ولمنطقة القناة بأسرها على الإبداعات في مختلف الفنون، مما يؤكده الطابع الخاص للفرق الغنائية والموسيقية (كفرقة السمسمية) وفرق الرقص الشعبي، التي تعبر إبداعاتها بصدق عن السمات الحضارية المميزة لمنطقة القناة ومدنها.

خامسًا- عن التحديات

واجهت القناة العديد من التحديات منذ افتتاحها، لم تكن تلك التحديات من قبيل المنافسة الشريفة أو لملاحقة ما يطرأ على منظومة النقل البحري من تطورات فقط، وإنما جاءت تلك التحديات ـ وفي ظروف تاريخية مختلفة ـ لتكبل هذا المشروع الحضاري الفريد في تاريخ الإنسانية بالمتاعب والمشاكل، وذلك بغية التضييق عليه أولًا، ثم سلبه في النهاية شريان الحياة، والمتمثل في قوافل السفن العابرة بين الشرق والغرب، إن المتأمل لما واجهته القناة من تحديات طوال تاريخها، يجد أنها تنقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسية، يشتمل أولها على ما واجهته القناة من تحديات سياسية، ويتضمن ثاني تلك الأقسام ما تعرضت له القناة من تحديات تقنية، بينما ينطوي ثالث تلك الأقسام على تحديات تقنسياسية (أي تتضمن جانبًا تقنيًا وآخر سياسيًا)، وسوف تفرد الفقرات التالية لعرض الملامح العامة لتلك الأقسام الرئيسية من التحديات التي أحاطت بالقناة.

جاء أول التحديات السياسية للقناة ـ ومنذ افتتاحها في عام 1869م ـ على يد إنجلترا، التي كانت تكتفي بإرسال سفينتين في كل شهر عبر القناة إلى كلكتا ومدراس في الهند، بينما كانت تتخذ للشطر الأعظم من تجارتها مع الشرق طريقًا من اثنين، أولهما ـ وهو الأهم عندها ـ طريق رأس الرجاء الصالح، الذي كانت تُسيّر عليه كثيرا من سفنها وتجارتها الهامة، بينما كان ثانيهما يمر بالأراضي المصرية!، حيث كانت البضائع تفرغ في ميناء الإسكندرية، ثم تنقل عبر السكك الحديدية إلى السويس، لتشحن من هناك في السفن ـ التي لا تقرب القناة ـ إلى الهند! كان الهدف من تلك السياسة الملتوية هو صرف السفن عن القناة وإظهار مشروعها في صورة المشروع الخاسر، مما جعل الدكتور مصطفى الحفناوي يقول في الجزء الأول من كتابه "قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة" عن النتائج الكارثية لتلك السياسة الخبيثة ما يلي: "ومنذ افتتاح القناة وحتى نهاية سنة 1870م، لم يتجاوز عدد السفن التي مرت بالقناة 486 سفينة، وبلغ مجموع حمولاتها 436.609 أطنان، وكان مجموع ما حصّلته الشركة من الرسوم 4.345.758 من الفرنكات، وأما الركاب الذين اجتازوا القناة في تلك المدة فبلغ عددهم 26.758 راكبًا، وبذلك تبين للمساهمين خطأ التقدير الذي وقع فيه دي ليسبس والمبالغة التي جنح إليها، إذ وعدهم في اجتماع الجمعية العمومية لسنة 1868م بإيراد لا يقل عن ستين مليونًا من الفرنكات الذهب في العام" ! (ص386)، ولتعجز الشركة في عام 1870م عن صرف أرباح المساهمين، مما جعل قيمة أسهمها تهبط في البورصة إلي النصف!، حتى إن دي ليسبس عرض على حكومة إنجلترا في شهر يونيو 1871م أن تشتري ومعها الدول الكبرى القناة بمبلغ اثني عشر مليونًا من الجنيهات!17 ، وعلى الرغم من أن القناة تجاوزت تلك المحنة خلال سنوات قلائل من افتتاحها، حتى إنها وزعت أرباحًا لمساهميها حتى عام 1874م قدرت بأربعة وثلاثين مليونًا من الفرنكات18 ، فإن ما تكبدته مصر من ديون جراء شق القناة وافتتاحها وما تبع ذلك من سياسات تفتقر إلى الحكمة، تمخض عن تكبيل مصر بالديون التي قدرها البعض بنحو أربعمائة وخمسين مليونًا من الفرنكات!1-2 ، مما ترتب عليه مفاوضات جرت بين مصر وفرنسا لتسوية تلك الديون، وذلك في مقابل تنازل مصر عن أسهمها بالقناة (176.602 سهمًا)، وعندما نما أمر تلك المفاوضات إلى علم إنجلترا في شهر نوفمبر 1875م، سارع رئيس وزرائها اليهودي: بنيامين دزرائيلي بشرائها في 25/11/1875م بمبلغ مائة مليون فرنك، لتبدأ إنجلترا الخطوة الأولى في احتلالها لمصر، وهو ما عبر عنه الكاتب الصحفي الفرنسي: المسيو مازاد في مقالة بعدد أول ديسمبر 1875م من مجلة "ريفيو دي ديموند" بقوله : "إن هذا العمل (يعني شراء إنجلترا لأسهم مصر في القناة) سياسيّ محض، وهنا وجه الخطر فيه، فإذا لم يكن في ذاته احتلالًا لمصر، فإنه الخطوة الأولى لهذا الاحتلال"19.

كثيرة هي التحديات التقنية التي تواجه المشروعات الهندسية كمشروع قناة السويس، وتعد التطورات التي لحقت بوسائل النقل البحري أهم ما واجه القناة من تحديات تقنية، وتأتي حمولة السفن ـ معبرًا عنها بغواطسها بوحدات المتر أو القدم ـ في مقدمة ما لحق بوسائل النقل البحري من تطورات، والغاطس هو عمق أو طول الجزء المختفي من السفينة تحت سطح الماء، إن مراجعة ما طرأ على عمق القناة من تغير ـ خلال عمرها ـ يكشف للقارئ الكيفية التي توسعت بها القناة لاستيعاب الأجيال الجديدة من السفن، في البداية وعند افتتاح القناة في عام 1869م ... بلغ عرض القناة وعمقها ثمانين مترًا وثمانية أمتار على التوالي20 ، كان ذلك العمق مناسبًا لما كان يمخر البحار آنذاك من سفن شراعية أو بخارية، وعندما تطورت فيما بعد ـ وفي النصف الأول من القرن العشرين ـ قدرات السفن وبالتالي أحجامها(ومن ثم غاطسها)، جرى تعميق القناة وتوسيعها لتستوعب الزيادات المطردة في أحجام السفن، ففي عام 1956م... بلغ عمق القناة أربعة عشر مترًا، مما يحقق غاطسًا للسفن لا يتجاوز خمسة وثلاثين قدمًا (عشرة أمتار ونصف المتر)، وفي عام 1980م ... زاد عمق القناة ليصل إلى تسعة عشر مترًا ونصف المتر، ليبلغ أقصى غاطس للسفن العابرة للقناة في ذلك العام ثلاثة وخمسين قدمًا (15.9 متر)، وفي مطلع الألفية الثالثة في عام 2001م ... قدر عمق القناة باثنين وعشرين مترًا ونصف المتر، مما زاد من أقصى غاطس للسفن ليصل إلى اثنين وستين قدمًا (18.6متر)، وأخيرًا وفي عام 2010م .... سجل عمق القناة أربعة وعشرين مترًا، مما حقق غاطسًا أقصى للسفن قدر بستة وستين قدمًا (19.8 متر)، وبالإضافة إلى ذلك ولزيادة أعداد السفن المارة بالقناة، تم تزويد القناة بعدد من التفريعات هي : تفريعة بور سعيد (بطول 36.5 كيلو متر) – تفريعة البلاّح (بطول 9 كيلو مترات) – تفريعة التمساح (بطول 5 كيلو مترات) وتفريعة الدفرسوار (بطول 27.5 كيلو متر)، وقد استخدمت هذه التفريعات ـ التي انتهى حفرها في عام 1980م ـ لتيسير مرور قوافل السفن القادمة من الشمال والجنوب، وذلك لضيق القناة الذي لا يسمح بازدواج سير القوافل عبر القناة21 ، لقد أتاحت مراحل التطوير الذي شمل القناة خلال الأربعين عامًا الماضية، ومنذ إعادة افتتاحها للملاحة في الخامس من يونيو 1975م، للقناة أن تستوعب مختلف أنواع السفن، والتي تضمنت سفن حاويات وسفن غاز وناقلات بترول وناقلات سيارات وسفن ركاب وحتى حاملات طائرات! لتصبح القناة صالحة لمرور جميع أنواع السفن ذوات غاطس حتى 66 قدمًا، وأخيرًا، عبرت القناة في يوم الجمعة 29/8/2014م أكبر سفينة حاويات في العالم، وهي السفينة الدانماركية العملاقة Madison Maersk، والتي يبلغ طولها 400 متر وعرضها 59 مترًا وحمولتها 200 ألف طن، لذا أثمرت ملاحقة القناة لجميع التطورات التي ألمت بمنظومة النقل البحري استئثارها بما يقرب من عُشر(من 8% إلى 10%) التجارة العالمية المنقولة بحرًا، مما تعبر عنه الارتفاعات القياسية التي تحققت خلال السنوات الأخيرة في الحمولات العابرة للقناة، ومن ذلك أن جملة أحمال 51 سفينة عبرت القناة خلال أحد أيام شهر مارس 2014م قد بلغت ثلاثة ملايين ومائتي ألف طن، تحقق القناة خلال العام الماضي (2013م) إيرادًا قدر بخمسة مليارات وثلاثمائة وعشرة آلاف دولار، وهو أعلى إيراد حققته القناة في تاريخها22.

شهد العالم في السنوات الأخيرة أكثر من مشروع، تعد في جوهرها "تحديات تقنسياسية" لقناة السويس

يأتي ثالثًا ـ ولعله ليس آخرًا ـ في التحديات التي واجهت قناة السويس طوال تاريخها ما صُكّ له قبلًا اسم "تحديات تقنسياسية"، وهي التحديات التي تجمع بين شق تقنيّ وآخر سياسيّ، ويمثل زمن الرحلة الشق التقني في هذه التحديات، بينما ينحصر الشق السياسي لتلك التحديات فيما تنطوي عليه سياسات بعض الدول من رغبة في اقتناص دور قناة السويس في النقل البحري، لقد شهد العالم في السنوات الأخيرة أكثر من مشروع، تعد في جوهرها "تحديات تقنسياسية" لقناة السويس، ومن هذه المشروعات ... مشروع تقيمه شركة جبل علي بدبي في دولة جيبوتي، وتتلخص فكرة المشروع في نقل تجارة الشرق إلي جيبوتي بالسفن، ليجري نقلها بعد ذلك إلى غرب أفريقيا إما بالسيارات أو بالقطارات، ومن ثم لتنقل بالسفن من موانئ غرب إفريقيا إلى الأمريكتين23، في هذا المشروع لن تطرق السفن القادمة من الشرق مضيق باب المندب ـ ومن ثم قناة السويس ـ بالمرة، وذلك لأن موانئ جيبوتي تطل على خليج عدن الممتد إلى جنوب الغرب من المضيق، وجاء المشروع الثاني من الصين في أقصى الشرق، حيث أرسلت شركة صينية في 12/8/2013م سفينة أبحرت من إحدى موانئها الشمالية، توجهت السفينة عبر مناطق ذوبان الجليد في القطب الشمالي، وذلك بهدف الالتفاف جهة الغرب في أقصى الشمال لولوج بحر الشمال عبر مضيق برينك، وتمثل هدف رحلة السفينة في إثبات أن الإبحار من شمال الصين إلى ميناء روتردام الهولندي، سوف يستغرق عبر هذا الطريق زمنًا يقدر بخمسة وثلاثين يومًا، وذلك في مقابل ثمانية وأربعين يومًا تنقضي في اتخاذ السفينة طريق قناة السويس24، ويأتي أهم هذه المشاريع وأخطرها من بعض دول الجوار، ويتضمن هذا المشروع إنشاء خط للسكك الحديدية بين ميناءي أشدود وإيلات في إسرئيل، وذلك جنبًا إلى جنب مع شق قناة بين البحرين الأبيض والميت، وتشير بعض المصادر إلى أن خط السكك الحديدية بين ميناءي أشدود وإيلات : "يعمل في الوقت الراهن في صمت وبمستويات محدودة"25.

في مواجهة ما سبق عرضه من تحديات، كانت القناة في حاجة إلى أفكار خلاقة تتمخض عن حل شامل، حل قادر على استيعاب جميع التحديات وفتح آفاق رحبة لتنمية مصر وازدهار سيناء وإنهاء عزلتها عن الوادي.

سادساً- مشروع القرن

كما كانت قناة السويس مشروع مصر العظيم في القرن التاسع عشر، وكما كان السد العالي مشروعها الأكبر للقرن العشرين، لذا ... فإن المشروع الحالي لتنمية القناة ـ والذي أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي شرارته الأولى في 5/8/2014م ـ يعد بلا شك مشروعها العملاق للقرن الحادي والعشرين، لأنه ـ إن صحت التوقعات بشأنه ـ ليس حلًا فقط لما قد يجابه القناة من تحديات مستقبلية، ولكنه أيضًا بمثابة ترياق سحري لأمراض الاقتصاد المصري التي طال العهد بها. إن قراءة ما صدر من بيانات وأخبار عن المشروع خلال الأيام التي تلت يوم إعلان الرئيس السيسي عنه، تكفي للحكم على صحة ما يتعلق به من آمال وأمنيات.

تبدأ القراءة هنا فيما صدر من بيانات وأخبار عن المشروع الجديد لتنمية قناة السويس بنص وثيقة بدء المشروع، ذلك النص الذي تلاه الرئيس السيسي بعد توقيعه في الاحتفال الذي جرى صباح الثلاثاء 5/8/2014م شرق القناة وقبالة مدينة الإسماعيلية، كان نص الوثيقة كما يلي : "بسم اللـه الرحمن الرحيم وباسم شعب مصر، واستكمالًا لمسيرة أجدادنا، ومتوكلًا على اللـه، نأذن نحن عبد الفتاح السيسي رئيس الجمهورية ببدء حفر قناة السويس الجديدة، لتكون شريانا للخير لمصر وللعالم أجمع، وحفظ اللـه مصر وشعبها العظيم، وتحيا مصر وتحيا مصر"، وفي كلمته التي أعقبت بيان الرئيس السيسي وأذاعتها القنوات التليفزيونية مباشرة ونشرتها صحف اليوم التالي، ومنها صحيفة "الأهرام" بعددها الصادر يوم الأربعاء 6/8/2014م، أجمل الفريق مهاب مميش: رئيس مجلس إدارة قناة السويس ورئيس الجهاز التنفيذي للمشروع الجديد الملامح العامة للمشروع في العناصر التالية:

1   - أن القناة الجديدة ستمتد من الدفرسوار وحتى البلاح بطول 35 كيلو مترا، بالإضافة إلى تعميق أجزاء من القناة القديمة بطول 37 كيلو مترًا ، مما سيجعل أعمال الحفر تمتد بطول 72 كيلو مترا.

2   – أن المشروع الجديد سيقلل ساعات انتظار السفن من 11 ساعة إلى 3 ساعات فقط، كما سيعمل على تقليل زمن رحلة مرور السفن بالقناة من 20 ساعة إلى 11 ساعة .

3   – أن المشروع الجديد سيضاعف عدد السفن المارة بالقناة لتصبح 97 سفينة في اليوم الواحد، بدلًا من 49 سفينة تعبر القناة في اليوم خلال العام الحالي، مما يعمل على زيادة إيرادات القناة بنسبة 259%.

4   – أن المشروع سيتضمن أيضًا إقامة ستة (6) أنفاق جديدة بمحافظتي الإسماعيلية وبورسعيد، وبواقع نفقان للسيارات ونفق للقطارات في كل محافظة، بما ينهي عزلة سيناء ويربطها بعموم مصر.

5   – أن المشروع ينطوي كذلك على تنمية منطقة قناة السويس، لكي تتحقق لها الريادة العالمية في صناعة النقل البحري واللوجستيات (الإمداد والتموين)، ولتصبح مركزًا صناعيًا وتجاريًا وسياحيًا عالميًا، وذلك من خلال إنشاء مناطق حضارية جديدة، تمثل نقطة انطلاق للاقتصاد المصري نحو آفاق التقدم والرخاء.

إن عرضًا مبسطًا للعناصر الخمسة السابقة، سوف يبسط أمام القارئ التفصيلات المهمة لملامح المشروع العامة، وهو ما سوف تتضمنه الفقرات التالية:

أولًا: أعمال حفر القناة الجديدة، بدأ المشروع الجديد لتنمية منطقة قناة السويس بحفر قناة موازية للمجري المائي الحالي لقناة السويس، والذي يبلغ طوله بعد آخر تطوير أُجريَ للقناة في عام 2009م نحو 192 كيلو مترًا، ويبلغ طول القناة الموازية 72 كيلو مترًا، سوف يتم شق 35 كيلو مترًا منها بتقنية الحفر الجاف، بينما سيتم استكمال ما تبقَّى من الطول المقترح للقناة (وهو 37 كيلو مترًا) بتعميق مجرى القناة الحالية ووصله بالجزء المنفذ بالحفر الجاف، هذا وتبدأ القناة الجديدة أو مشروع ازدواج القناة القديمة من منطقة الدفرسوار عند علامة الكيلو 61 من ترقيم القناة القديمة، وحتى منطقة البلاح قرابة علامة الكيلو رقم 96 من ترقيم القناة، بينما يمتد الجزء البالغ طوله 37 كيلو مترًا من القناة الجديدة إلى الجنوب من الدفرسوار ومخترقًا البحيرات المرة، وسوف يساعد إنجاز هذا الازدواج للقناة على تسهيل مرور السفن في القناة في اتجاهي الشمال والجنوب، ودون توقف في تفريعات القناة، مما كان يتسبب في زيادة زمن عبور السفن للقناة، وذلك جراء فترات الانتظار عند مدخليّ القناة الجنوبي والشمالي، وفي تفريعات القناة التي بلغ طولها في عام 2009 م نحو 78 كيلو مترًا، ومما لا شك فيه أن تقاطر السفن في قافلتي الشمال والجنوب دون توقف أو انتظار بعد انتهاء المشروع الحالي لتطوير القناة وازدواجها، لمما يساعد على زيادة أعداد السفن العابرة للقناة واختصار زمن عبورها للقناة، وهو ما سوف ينعكس ـ بالطبع ـ في زيادة دخلها ورفع آفاق قدرتها التنافسية إلى الحد الذي تعجز عنه أية مشاريع منافسة.

ثانيًا : زمن عبور القناة، بالرغم من العمليات الطموحة التي جرت قبلًا لتطوير القناة منذ افتتاحها وحتى عام 2009م، تلك العمليات التي أسفرت عن الآتي : زيادة الطول الكلي للقناة من 164 كيلو مترا إلى 192 كيلو مترا ـ زيادة أطوال الأجزاء المزدوجة والتفريعات من صفر إلى 78 كيلو مترًا ـ زيادة مساحة القطاع المائي للقناة من 304 أمتار مربعة إلى خمسة آلاف متر مربع ـ زيادة عمق القناة من ثمانية أمتار إلى أربعة وعشرين مترًا، ورفع الحمولة القصوى للسفن العابرة من خمسة أطنان إلى 240 ألف طن26 ، إن  تلك التطورات التي لحقت بالقناة لم تفلح كثيرًا في خفض زمن الرحلة عبرها والبالغ الآن ما يقرب من عشرين ساعة، تقضي السفينة فيها قرابة إحدى عشرة ساعة في انتظار دورها للإبحار عبر القناة، إن المشروع الجديد لتنمية قناة السويس سوف يحولها إلى أسرع ممر ملاحي في العالم، وذلك بنص تعبير الفريق مهاب مميش في تصريحاته لصحيفة "الأهرام"، والتي نشرت بالصفحة السادسة من عدد يوم الجمعة 19/9/2014م، حيث أضاف الفريق مميش إلى ذلك قوله: إن المشروع الجديد سيخفض زمن انتظار السفن عند عبورها القناة إلى ثلاث ساعات فقط!

ثالثًا : مضاعفة سعة القناة من السفن، تتلخص الأهمية الاقتصادية للمشروع الجديد لتطوير القناة في زيادة أعداد السفن العابرة للقناة، وهو ما يتضح للقارئ من النظرة السريعة إلى أعداد السفن التي استخدمت القناة (وحمولاتها) خلال سنوات عدة، وسوف يتضمن البيان التالي كلًا من السنة وعدد السفن وحمولاتها مقدرة بالألف طن : 1975م: 5579 سفينة (50.441 ألف طن) – 1980م : 20795 سفينة (281.305 ألف طن) – 1985م: 19791 سفينة (352.579 ألف طن) -1990م: 17661 سفينة (410.322 ألف طن) – 1995م: 15051 سفينة (360.372 ألف طن) – 2000م: 14142 سفينة (439.041 ألف طن) و 2009م: 17228 سفينة (734.450 ألف طن)27 ، إن نظرة سريعة إلى البيان السابق تكشف أن هناك ثمة متوسطًا لأعداد السفن العابرة للقناة، وقد قدر ذلك المتوسط بنحو سبعة عشر ألف سفينة في العام، وذلك خلال الفترة من عام 1980م وحتى 2009م، وعلى الرغم من أن إجمالي الحمولات العابرة للقناة قد زاد، كما يتضح من البيان السابق، وذلك جراء ظهور الجيل الثالث من السفن، التي تجاوز حمولاتها المائتي ألف طن، فإن الزيادة المتوقعة في أعداد السفن بعد إتمام المشروع الجديد، سوف ينتج عنها تضاعف الحمولات العابرة للقناة، بالإضافة إلى تضاعف أعداد أطقم السفن، مما سيضاعف من قيمة إيرادات القناة المباشرة (ممثلة في رسوم العبور) وغير المباشرة (كمقابل لخدمات الصيانة والإصلاح والتموين والزيارات السياحية لأطقم السفن).

رابعًا: إقامة ستة أنفاق جديدة لربط سيناء بوادي النيل، شكلت القناة حاجزًا مائيًا، حال دون تيسير اتصال سيناء بعموم الوطن الأم، وعاى الرغم مما أقيم خلال الأعوام الماضية من وسائط شملت نفقًا واحدًا وعدة جسور تمر أعلى القناة، منها جسران (السلام والفردان) لعبور السيارات، وجسران آخران أحدهما يحمل أنابيب للمياه والآخر ينقل خط للطاقة، فإن الأنفاق الستة المزمع إنشاؤها سوف تسمح بامتداد محافظتي الإسماعيلية وبور سعيد شرق القناة، وذلك بتيسير الاتصال بين هاتين المحافظتين وسيناء، مما يمثل بداية لإنهاء عزلة سيناء عن الوادي، إن تيسير الانتقال بين شرق القناة وغربها عبر مجموعة الأنفاق المشار إليها قبلًا، سوف يعمل علي زيادة توطين السكان في سيناء، ليمكن بعد ذلك إنشاء مشروعات جديدة تتضمن مناطق صناعية وأخرى زراعية وحتى سياحية، بالإضافة إلي مشروعات الاستزراع السمكي، والتي يمكن أن تقام في أحواض الترسيب بشرق القناة، إذ إنه من المقترح إنشاء نحو 23 حوض ترسيب بطول 120 كيلو مترًا وعرض من 3 إلى 5 كيلو مترات في شرق القناة28 .
تتبلور تنمية محور قناة السويس في إنشاء مناطق أو تجمعات حضارية جديدة، وذلك من خلال تحول محور قناة السويس إلى مركز صناعي وتجاري وسياحي عالمي

خامسًا : مناطق تنمية محور قناة السويس، تتبلور تنمية محور قناة السويس في إنشاء مناطق أو تجمعات حضارية جديدة، وتتمثل أهداف هذه المناطق في تحقيق الريادة لمصر في صناعة النقل البحري والإمداد والتموين (اللوجستيات)، وذلك من خلال تحول محور قناة السويس إلى مركز صناعي وتجاري وسياحي عالمي، وفيما يلي نقدم رؤية مستقبلية لما يمكن إنشاؤه على جانبي القناة من مناطق تنموية29 .

1  - منطقة شرق بور سعيد: يقترح لهذه المنطقة أن تتضمن محطتين للحاويات ومحطتين للصب السائل ومحطة تموين (لوجستية) ومحطة للحبوب، وتدخل في هذه المنطقة ميناء شرق بور سعيد، التي سوف تتضمن عددًا من المشروعات منها محطة حاويات ومحطة صب جاف، بالإضافة إلى مناطق تنموية عند المدخل الشمالي.

2 – منطقة الإسماعيلية الجديدة ووادي التكنولوجيا: تشمل مراكز التنمية لهذه المنطقة صناعات الإلكترونيات والميكروإلكترونيات والهندسة الطبية والآلات الدقيقة ومعدات الاتصال، وتضم هذه المنطقة أيضًا المنطقة الصناعية لمدينة القنطرة شرق.

3 – منطقة شمال غرب خليج السويس: تضم هذه المنطقة كلًا من المنطقة الصناعية في شمال غرب خليج السويس ومنطقة الصناعات الثقيلة التي تقع غرب المنطقة الجنوبية للخليج، وسوف تشمل المنطقة أيضًا مركز معلومات ومجمع خدمات تموينية ومجمعًا طبيًّا ومراكز أبحاث وجامعة ومعاهد تعليمية.

سابعًا- من يوميات الملحمة

لا يجد المرء خيرًا من كلمة "الملحمة" ليصف بها ما يحدث عند القناة منذ الخامس من أغسطس الماضي، والملحمة في معاجم اللغة هي الحرب أو الموقعة الشديدة، إن الحديث هنا عن الملحمة الدائرة الآن على ضفتي القناة قد يلتهم مساحة أكبر مما هم متاح للمقالة الحالية، لذا فإن اختيار مجموعة من عناوين الأخبار أو التحقيقات التي وردت في أعداد صحيفة "الأهرام" منذ الخامس من أغسطس الماضي وحتى منتصف شهر أكتوبر الفائت، والتي سيذكر قرين كل منها تاريخ صدور عدد الصحيفة ورقم الصفحة التي ورد بها الخبر أو التحقيق، سوف يكون كافيًا للتذكير بما دار من وقائع في ملحمة القناة الجديدة:

1 – " دقت ساعة العمل: الرئيس يطلب الانتهاء من المشروع خلال عام، تنمية قناة السويس تحول مصر إلي مركز صناعي وتجاري عالمي" (6/8/2014م، ص3).

2- "مميش: التكلفة المتوقعة 67 مليار جنيه ـ 29 مليارًا منها لأعمال الحفر ـ المشروع يوفر مليون فرصة عمل"(6/8/2014م، ص4).

3 – "3770 معدة تشارك في شق قناة السويس الثانية" (7/8/2014م، ص4).

4 – "رويترز : القناة الجديدة تضع مصر في مقدمة مراكز التجارة العالمية" (7/8/2014م، ص5).

5 – "في زيارة استغرقت 5 ساعات تخللها إفطار مع العاملين، الرئيس يتفقد أعمال حفر قناة السويس الجديدة" (9/8/2014م، ص7).

6 –"قناة السويس الجديدة ... من الخيال إلى الحقيقة" (21/8/2014م، ص4).

7 – "طارق بن زياد ومشهور ومكة والأيوبي تبدأ الحفر العميق بالقناة الجديدة" (10/9/2014م، ص5).

8 –"كامل الوزير : بدء أعمال التدبيش بعد غد، وانضمام 30 معدة جديدة للمشروع" (11/9/2014م، ص5).

9- "استمرار الإقبال على شراء الشهادات وطلبات للمصريين بالخارج" (11/9/2014م، ص5).

10 – "وزير الآثار خلال تفقده المشروع : مشروع سياحي ضخم بمنطقة القناة يحكي تاريخ العسكرية المصرية" (16/9/2014م،ص5).

11- "محافظ البنك المركزي للأهرام: الإقبال الجارف على (شهادات القناة) رسالة للعالم، 64 مليار جنية في 75 ساعة عمل. 88% للأفراد، و750 مليونًا بالبريد" (17/9/2014م، ص5) .

12 – "100 مليار دولار عائدات أكبر منطقة لوجستية عالميًا، حلمي ومميش: إطلاق وادي التكنولوجيا ومركز دولي للإنترنت وصناعات روسية" (17/9/2014م، ص5).

13 – "66 شركة تعمل بقناة السويس الجديدة، مميش : 19 كراكة عملاقة من الخارج" (18/9/2014م، ص5).

14 – "وزير الإنتاج الحربي: ما تم إنجازه على أرض الواقع إعجاز يصنعه المصريون. زويل: المؤسسات العلمية تساند المشروع القومي الكبير" (19/9/2014م، ص6).

15 – "مميش: المجري الملاحي يحقق رقمًا قياسيًا في أعداد وحمولات السفن. مرور كراكات الهيئة من مدخلين جديدين إلى القناة (الخميس)" (21/9/2014 م، ص3).

16 – "المشروعات الإسرائيلية لا تستطيع منافسة قناة السويس" (29/9/2014م، العنوان الرئيسيّ لذلك العدد من الصحيفة).

17 – "قناة السويس الجديدة: العبور إلى شاطئ المستقبل" (2/10/2014م، ص6).

18 – "الفريق مميش للأهرام: إقبال عالمي غير مسبوق للاستثمار في مشروع تنمية قناة السويس" (6/10/2014م، ص3).

19 – "كامل الوزير: 4 ماكينات من الخارج لحفر أنفاق قناة السويس" (13/10/2014م، ص14).

20 – "الوزير: رفع 61 مليون متر مكعب من الرمال بالقناة الجديدة. ارتفاع عدد الشركات العاملة إلى 72" (15/10/2014 م، ص3).

إن قراءة هذه المجموعة من عناوين الأخبار أو التحقيقات، ترسم لوحة بانورامية للملحمة الدائرة على ضفتي القناة الآن، فكيف بالقراءة الكاملة لما تضمنته تلك الأخبار أو التحقيقات؟ وأيا ما كان الأمر، فإن القارئ للأخبار والتحقيقات أو عناوينها في الصحف بمختلف مشاربها، والمشاهد لما تنقله القنوات التليفزيونية ومختلف وسائل الإعلام، سوف يخرج من القراءة أو المشاهدة بانطباع واحد، فحواه أن غدًا جديداً مشرقًا مبشرًا بالأمل يولد الآن على ضفتيّ القناة.

المراجع

1.       محمد بن أحمد بن إياس : بدائع الزهور في وقائع الدهور ، جزء 4 ، ص 307.

2.       علي باشا مبارك : الخطط التوفيقية الجديدة ، الجزء 18 ، ص ص 208 – 216.

3.       محمد صبري السربوني : الإمبراطورية المصرية في عهد إسماعيل ، الجزء الأول ، ص94 .

4.       أمين سامي باشا : تقويم النيل ، الجزء الرابع ، ص834 .

5.       د. جمال حمدان : شخصية مصر ، ص147.

6.       محمد صبري السربوني : مرجع سابق ، ص119.

7.       عبد الرحمن الرافعي : عصر إسماعيل ، الجزء الأول ، ص93.

8.       محمد صبري السربوني : مرجع سابق ، ص133.

9.       عبد الرحمن الرافعي : مقدمات ثورة 23 يوليو ، ص ص 51-80.

10.    د. جمال حمدان : مرجع سابق ،ص149.

11.    وزارة الدفاع المصرية – هيئة البحوث العسكرية : حرب العدوان الثلاثي على مصر ، ص ص 292 – 293.

12.    آخر ساعة : العدد 2098 ، 8/1/1975م ، ص ص 18-21.

13.    آخر ساعة : العدد 2120 ، 11/6/1975م.

14.    د. مصطفى الحفناوي : قناة السويس ومشكلاتها المعاصرة ، الجزء الأول ، ص ص 359 – 362.

15.    وزارة الدفاع المصرية – هيئة البحوث العسكرية: مرجع سابق، ص56.

16.    منير البعلبكي : قاموس المورد، ص221.

17.    د. مصطفى الحفناوي: المرجع السابق : ص394.

18.    المرجع السابق: ص402.

19.    محمد صبري السربوني : مرجع سابق ، ص487.

20.    د. مصطفى الحفناوي : مرجع سابق ، ص399.

21.    د. مصطفى الحفناوي : مرجع سابق ، ص407.

22.    علي باشا مبارك : الخطط التوفيقية الجديدة ، الجزء 18 ، ص ص 219 – 220.

23.    موسوعة المعرفة : مراحل تطور القناة .

24.    الأهرام : 12/7/2014م، ص14.

25.    نادية منصور : النقل البحري .... الممر الذهبي للتنمية، الأهرام ، 19/7/2014م ، ص23.

26.    موسوعة المعرفة : طريق بحر الشمال .

27.    أحمد السيد النجار : تنمية قناة السويس، الأهرام ، 7/8/2014م، ص1 و ص7.

28.    الأهرام : حكاية قناة ، 6/8/2014م، ص6.

29.    موسوعة المعرفة : حركة الملاحة والعائد الاقتصادي للقناة.

30.    الأهرام : الخميس 2/10/2014م، ص6.

31.    أكتوبر : العدد 1972 ، 10/8/2014م، ص ص 22-23.

 

* دراسة منشورة في العدد 12 من مجلة "أفاق سياسية"


إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟