حركات الشباب الربيعية على ضفتي المتوسط... قواسم مشتركة وتباينات
بينما كان شبان متعلمون ومن غير أمل في المستقبل يتظاهرون ربيع 2011 في تونس ومصر وسورية واليمن، وبلدان أخرى من الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ويقوّضون أسس أنظمة متسلطة، تظاهر على ضفة المتوسط الشمالية، في إسبانيا واليونان والبرتغال، شباب هذه البلدان. فما دلالة هذه الحوادث على أحوال شباب الضفتين؟ وما هو الضوء الذي تلقيه على سيرورات اندماجهم، الاقتصادي خصوصاً، في مجتمعاتهم؟ وتزامن التظاهرات الضخمة والمسالمة ينبغي ألا يصرف النظر عن حصولها في أطر ثقافية متباينة. فغالبيتها بادر إليها شبان متعلمون من الجنسين، وحضت عليها غالباً حادثةٌ استثنائية في بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ودعت إليها نداءات على الانترنت ومرافِقه (فايسبوك وتويتر والمدوّنات) ومناشدات توسلت برامج التلفزة (المقابلات والصور المتحركة). ونجحت التظاهرات التي بادر إليها الشباب، إذا استُثنيت ليبيا وسورية اللتان عصفت بهما حرب أهلية عنيفة، في تأليب المواقف والآراء لتأييدها ومناصرتها.
برزت الاحتجاجات وتوسعت خارج الاحزاب السياسية والحركات الدينية (وفي مصر وتونس انضم الاخوان المسلمون إليها بعد قيامها). وطالب شباب بلدان الجنوب (المتوسطي) بالحرية والاصلاحات والعدالة الاجتماعية، من غير تضمين برنامجهم مراجع دينية، على خلاف احتجاجات سابقة. والصبغة الزمنية مصدرها ارتكاز الاحتجاجات إلى قومية متقوقعة، و «اشتراكية» الدولة، وفي سبيل الحريات العامة. ويلاحظ أن الهوة الرقمية بين ضفتي المتوسط، محتسبة بعدد الهواتف الخليوية وعدد مستعملي الانترنت، ليست واسعة. ويفوق عدد مستعملي الهواتف الخليوية في الشرق الاوسط، خصوصاً في بلدان الخليج، نظيره في أوروبا. لكن هذا العامل لا يستوفي تعليل «مواسم الربيع الغربية»، ولا جغرافيتها. وأحوال البلدان الربيعية، قياساً إلى تجهيزها التكنولوجي، ليست واحدة: فتونس ومصر هما في طليعة البلدن تجهيزاً، بينما اليمن وليبيا في المؤخرة.
ولاحظت ليزا اندرسون، رئيسة الجامعة الاميركية في القاهرة، أن متظاهري تونس قصدوا العاصمة انطلاقاً من المناطق الريفية المهملة وتحالفوا مع حركة نقابية كانت قوية وقمعت قمعاً شديداً. أما في مصر فبادر شبان مدينيون وكوسموبوليتيون في المدن الكبيرة الى تنظيم الانتفاضات. وتولت في ليبيا جماعات متمردين في الأسمال، جاؤوا من ولايات الشرق، جمع المتظاهرين وقيادتهم، وأظهروا الى العلن عمق الفروق القبلية والمحلية التي تقسم ليبيا منذ عقود. وجرى تسلسل الحوادث على صور عبّرت عن اختلافات وطنية، وعن قرابة ووجوه شبه ليست أقل دلالة من وجوه الاختلاف. فتظاهرات 2011 الجماهيرية أعقبت أعواماً طويلة من الاضطرابات. وكان المدافعون عن حقوق الانسان في العقد الاخير من القرن العشرين، في معظم بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا، يعانون بعض العزلة. وبدا ان النخب الحاكمة التي أثرت من عوائد النفط والسياحة، خنقت الاحتجاجات بواسطة مزيج من القمع ومن تحريك العنفوان العربي واستثارته ضد الغرب. وما لبث أثر هذا المزيج أن خبا وضعف مطلع العقد الأول من القرن الجديد.
ففي الجزائر، أسكتت التظاهرات العريضة التي خرجت، بين عامي 1988 و2002، في مناطق البربر دفاعاً عن اللغة والثقافة الامازيغيتين. وتصدرت النقابات، بين 2003 و2008، التظاهرات المنددة بسياسة الخصخصة وتردي الأحوال المعيشية. ونكران انتصار جبهة الانقاذ الإسلامية، عام 1992، أفضى الى حرب أهلية دامت 10 سنين، وفاقمت تفكك المجتمع، وضخّمت صعوبات الحفاظ على نظام علماني من غير ديموقراطية. وكان الغرب، طوال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، مسرح مئات من حركات احتجاج اشتركت فيها النقابات وجماعات شبابية ناشطة وجمعيات مهنية، وطعنت في تعاظم البطالة وزيادة الاسعار. وشهدت تونس، في الاعوام ذاتها، اضطرابات متفرقة وتظاهرات كبيرة، واحتجت إحداها في 2008 على شروط العمل التي فرضتها شركة تعدينية معروفة. وبرزت في مصر حركة «كفاية» في 2004، ودعت الى إصلاح نظام حسني مبارك اصلاحاً عميقاً. وهزت مصر بين عامي 2004 و2007، مئات التظاهرات. وفي بعض بلدان الخليج، مثل الكويت والبحرين، غلبت على التظاهرات صبغة سياسية تغذت من انقسامات، ولم يضطلع الطلاب بدور فاعل إلا في 2011.
وافتقرت الحركات في مصر والجزائر والمغرب الى مخرج سياسي، واقتصرت على صفة اجتماعية واقتصادية. لكنها أدت دوراً قوياً في صوغ مطاعن الطبقات الفقيرة والمتوسطة والمهنية على النظم الاجتماعية في جنوب المتوسط. وآذن منتصف العقد الاول من القرن بانعطاف خلخل التماسك السياسي في هذه البلدان، وفي نهاية حقبة تاريخية جاء الاحتلال الأميركي للعراق علامة فارقة عليها. فبلورت حوادث مثل موت محمد البوعزيزي بتونس، وخالد سعيد بمصر، وسقوط قتلى درعا في سورية، ثورة غضب ومشاعر عارمة في صفوف الأهالي.
وعلى خلاف التظاهرات الربيعية العربية، لم تسبق تظاهرات الاحتجاج في اسبانيا، عام 2011، نذر أو مقدمات. وكانت انفجرت اضطرابات عنيفة في بعض بلدان شمال أوروبا، مثل بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا، أوائل عقد العام 2000 شارك فيها شبان متحدرون من المهاجرين. وما عدا آب (اغسطس) 2011 في بريطانيا، حيث تظاهر شبان من جزر الأنتيل وليس من آسيا، لم يتظاهر شباب شمال أوروبا وشرقها على نحو مشهود. وعلى رغم روابط الهوية بين الشبان المولودين لأسر مسلمة ومقيمة في بلدان أوروبية وبين متظاهري المغرب والشرق الاوسط، أقام الأولون على صمت استوقف المراقبين ولم يجدوا له تعليلاً.
ويسوّغ المضي في المقارنة بين حركات الشباب على ضفتي المتوسط، بينما الفروق ظاهرة، انتماء الشبان في كلتا الحالين الى الطبقات المتوسطة. والملاحظة لا يختصرها القول السائر ان الشباب هم طليعة السيرورة الحاسمة. فطوال عقدين أو ثلاثة، أحجم الشباب المتعلم في شمال أوروبا عن المبادرة الى تظاهرات كبيرة مدار مطالبها مسائل وقضايا تتجاوز مشاغل الشباب الخاصة والفئوية. والمقارنة بين حركات وتظاهرات الضفتين لا تنكر التفاوت الكبير، الاجتماعي والسياسي، بين المجموعتين، وبين بلدانهما. ولا ينبغي، من وجه آخر، إنكار قواسم مشتركة بين نتائج تفاعلات متسارعة ناجمة عن علاقات هذه البلدان المتداخلة. فالاضطرابات والتظاهرات تكثف آثار تغيرات متفاوتة العمق ترتبت على تطور البلدان و»نمط وجودها». وأفترض أن الدور الذي اضطلع به الشباب المتعلم في بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا، وهي بلدان تفتقر غالباً الى الاجراءات الديموقراطية، قد يلقي الضوء على انخراط شبان جنوب اوروبا الذين يعيشون في مجتمعات تضمن الحريات العامة والإجراءات الديموقراطية. وهذه الحركات هي مرآة تحديات متشابهة أدت اليها العولمة الاقتصادية ووقتتها الأزمة المالية ومشكلة الديون السيادية. ونجاح التعبئة في بلدان جنوب أوروبا قرينة على التفاف الشباب على اختلاف فئات أعمارهم ورغم القمع العنيف، حول برنامج مشترك.
يعود توقيت الانتفاضات في البلدان التي حصلت فيها الى مكانة فئة الشباب في الكتلة السكانية العامة، وبلوغها سن الدخول في الحياة العملية. فالعقود الأخيرة من القرن العشرين شهدت، في بلدان ضفة المتوسط الجنوبية، نسبة خصوبة عالية، الى منتصف الستينات. وبلغت هذه النسبة متوسط 7 أولاد للمرأة (لبنان استثناء فريد، متوسط أولاد المرأة فيه كان 5,5). وفي أعقاب 40 عاماً، أي في 2005 هبط متوسط الخصوبة الى 3 – 3.5 في المئة في مصر والاردن والإمارات والمملكة العربية السعودية، والى ما دون 2.5 في ليبيا وبلدان المغرب ولبنان. فتساوت نسبة الخصوبة على ضفتي المتوسط في الأعوام الأولى من العقد الأول من القرن الجديد. لكن مفعول الديموغرافيا رجعي، وليس مباشراً. لذلك، فنسبة الشباب من عموم سكان ضفتي المتوسط لا تزال متفاوتة، ذلك أن جمهرات المولودين في الاعوام 1960-1970 بلغت حدها الاعلى في فئات الراشدين عام 2005. ويؤدي الفرق في سرعة الانتقال السكاني من بلد الى آخر، الى تمييز بلدان «فتية» من بلدان «شائخة». وهذا التمييز عامل راجح في حركات الاحتجاج.
والحركات الربيعية بلغت بلداناً فتية أنجز معظمها انتقاله السكاني منذ 1985-1990. وبعض البلدان، شأن الأردن والمغرب، حيث تبلغ فئة من تتراوح سنّهم بين 15 و24 سنة، فوق 25 في المئة من السكان، لم يشهد تظاهرات عريضة كتلك التي شهدتها تونس ومصر. وبقيت بلدان أخرى، شأن الجزائر وبعض بلدان الخليج، بمنأى من التظاهر على رغم اتساع فئة الشباب بين سكانها. واقتصر التظاهر في الخليج على البحرين، وفي ضوء هذه المقارنات، يبدو عامل الفتوة السكانية مشتركاً ومميزاً، لكنه لا يستوفي التعليل ولا الإحاطة في بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وهو من غير أثر في بلدان أوروبا. حيث شهدت بلوغ فئة الشباب ذروتها أواخر ستينات القرن الماضي وأوائل سبعيناته. وبعض أضعف متوسطات الخصوبة السكانية (الأوروبية) عرفته بلدان جنوب أوروبا، اليونان وإسبانيا والبرتغال، حيث نسبة الشبان في اليد العاملة متدنية. وفي هذه البلدان انتشرت التظاهرات الجماهيرية.
ويُخلص من المقارنات السكانية الى ان تقلص الفرق بين نسب الخصوبة في مجموعتي بلدان الضفتين أدى الى ارتفاع سريع جداً في مستويات التعليم والتربية في بلدان الضفة الجنوبية. والشهادات المدرسية والجامعية تحفّز الانتظار في نفوس المتعلمين الفتيان، وهم أصبحوا كثرة. وبلغت نسبة البطالة في صفوف الشباب في جنوب المتوسط، بين عامي 2000 و2011، نحو 25 في المئة. وتفوق هذه النسبة نظيرتها في أوروبا، وتؤهل فئة 15-24 سنة للاحتجاج، على رغم ثباتها عامي 2009 و2010، في بلدان الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وقد تكون البطالة سبباً لحركات الاحتجاج في أوروبا: فهي قفزت من 12 في المئة الى 18 في المئة غداة الازمة المالية في 2008. لكن البطالة العالية في إرلندا وفرنسا والدنمارك وبعض بلدان شرق أوروبا لم تُلحق شبانها بحركات الاحتجاج.
وسمات البطالة ليست واحدة في بلدان المجموعتين. فهي تصيب المتعلمين في المرتبة الأولى، في بلدان جنوب المتوسط، وتبلغ وسط المتعلمين المغاربة من سكان المدن 3 أضعاف مثيلتها في وسط الريفيين الفتيان، على سبيل المثل، بينما تستوي نسبة البطالة وسط المتعلمين ومن يقتصر تعليمهم على المرحلة الابتدائية في بلدان جنوب أوروبا، على مستوى واحد تقريباً. وفي بعض بلدان شمال أوروبا وشرقها يبلغ مستوى بطالة المتعلمين (من حصّلوا تعليماً ثانوياً على الاقل) خُمس مستوى بطالة من اقتصروا على تعليم ابتدائي. والأرجح ان تدنّي البطالة في بلدان شمال أوروبا، مثل النمسا وألمانيا وهولندا، كبح النازع الى الاحتجاج. نقلا عن الحياة
* مدير بحوث في المركز الوطني للبحث العلمي، عن «إسبري» الفرنسية، 10/2014،
إعداد منال نحاس