القصة بإيجاز كما يلي. دبلوماسي شاب جمعه نقاش مع أستاذ مخضرم للعلوم السياسية. رأي الدبلوماسي أن30 يونيو كانت ثورة شعبية. أما الأستاذ فاعتبر ما جري انقلابا عسكريا.. تطور النقاش بينهما.
دافع الأول عن رأيه بأن الشعب لم يتحرك إلا للحفاظ علي الدولة قبل أن يكتمل سطو الإخوان عليها. ورد الثاني بأن الشعب غرر به وحمل علي المشاركة في انقلاب ضد أول رئيس منتخب جاء إلي الحكم بالصناديق. وكان لا بد للنقاش أن ينتهي. فتحدث الدبلوماسي اليافع لأستاذه القديم عن أن اختلاف وجهات النظر لا يحول دون تأكيد احترامه لرجل تتلمذ علي يديه. لكن الأستاذ لم يشأ أن تكون هذه هي النهاية. قال لطالبه السابق أنه لا يشرف بأن كان من بين طلابه واحدا من أولاد الدولة.
لا شك أن مثل هذا التعبير سيئ بل ومستفز. فهو يعمق الانقسام ولا يعالجه, فضلا عن أنه يوحي بأن الاصطفاف مع الدولة يبدو وكأنه وصمة عار يمكن لواحد من المصريين أن يعاير بها غيره. يكفي أن يسمع الفرد منا عبارة يا ابن الدولة بصيغة المفرد أو يا ولاد الدولة بصيغة الجمع لكي تتداعي إلي ذهنه ألفاظ غير كريمة ربما صكت تلك العبارة الجديدة علي وزنها لكي تحمل أكبر شحنة ممكنة من التعبير عن الإزدراء للآخرين. لكن خطرها لا يقف عند ازدراء الآخرين بل يمتد إلي ازدراء الدولة نفسها. ومثلها عبارات أخري باتت تستعمل في التهكم علي المساندين للدولة سمعناها ضد من خرجوا في الثلاثين من يونيو ونسمعها الآن ضد من يدعمون الدستور الجديد ويقفون مع الجيش من قبيل عبيد البيادة و دولاتيون و عشاق الميري. وإحقاقا للحق فإن تعبيرات مضادة, بعضها جارح, انطلقت في الآونة الأخيرة في كل اتجاه ضمن مشهد يكشف عن حالة انقسام يؤمل أن يوجد لها مخرج في.2014 انقسام لم تعد أخطر صوره تدور حول وصف الثلاثين من يونيو وهل كان ثورة أم انقلابا وإنما بات يتعلق بالإحساس بالدولة ذاتها وسخرية البعض منها والتعدي عليها وعلي كل من يدافع عنها بل ومحاولة سرقتها من جديد لتسخيرها لمصلحة طبقة أو حزب أو جماعة. فليس من خسارة أفدح من فقدان الإحساس بالدولة, ذلك الإحساس الذي يحتاج أن يعمق في مصر من جديد وبشكل سليم.
والإحساس بالدولة ليس من الموضوعات المطروقة كثيرا. فإلي الآن تذهب التعريفات المدرسية إلي أن الدولة تتكون من أربعة عناصر هي الأرض, والشعب, والحكومة, وسيادة تنعقد لها علي إقليمها أمام غيرها من الدول. لكن بعد أن زاد عدد الدول الفاشلة بوضوح ربما يرتقي الإحساس بالدولة ليصبح مكونا خامسا وأساسيا في أي تعريف لها. والإحساس بشكل عام نعمة بدونه يغيب المعني, ويعتبر في حالة الدولة بشكل خاص واجبا لا تجوز السخرية منه أو الاستهانة به. دون أن يعني ذلك الموافقة علي تكميم الأفواه أو قمع الرأي المخالف. فكل حق تتمتع به الدولة يقابله واجب عليها أن تؤديه. وهذا ما تحتاج الدولة في مصر إلي إرسائه وهي ذاهبة إلي تأسيس الجمهورية الثانية. فلكي تزيد إحساس المصريين بها وتمنع من يعايرهم الآن باسمها عليها أن تثبت لهم أنها تزيد من إحساسها بهم.
بدون أي خجل علينا أن نعترف بأن إحساس, ولا أقول ولاء, كثير من المصريين بالدولة لا يزال ضعيفا. البعض, كما نري يتجاهل أو يراوغ أو يستغفل أو يستخف بالدولة, بل وبات يتهكم علي من يتمتع بإحساس عال بها بأنه دلوع سياسي أو كما قيل ابن الدولة. وهؤلاء جميعا علي خطأ بين. لكن لديهم حجة يجب التوقف عندها. فهم لا يفعلون مع الدولة إلا نفس ما تفعله معهم. فإلي الآن وهي تتجاهل مطالبهم وتستعلي عليهم أو تراوغ أو تستغفل أو تستخف. وبقدر ما تعطيهم يعطونها وبمثل ما تفكر فيهم يفكرون فيها. بمعني آخر ضعف إحساس الفرد بالدولة ليس إلا الوجه الآخر لضعف إحساس الدولة بالمواطن.
لكن هناك فارق كبير بين الفرد والدولة. فبينما الفرد خلق إلهي, فإن الدولة إنتاج بشري. الله تعالي خلق البشر في أحسن تكوين. أما البشر فاخترعوا الدولة وعليهم أن يتعهدوها بالرعاية حتي يحصلوا منها علي ما يحتاجونه من رعاية. فبقدر اجتهادهم وارتقائهم بإحساسهم تجاهها ترتقي الدولة بنفسها وبإحساسها تجاههم. فالفرد يولد ويعتبر الدولة بشكل تلقائي مسئولة عن معاشه وأمنه. وهذا صحيح لأنها بالفعل مسئولة. لكن يبقي أن ما تقدمه لهم يتوقف علي ما يقدمونه لها. فمن جودهم عليها تجود عليهم ومن عطفهم عليها تعطف عليهم ومن طينتهم تتكون طينتها. وهذا هو ما يعطي لصقل إحساس الفرد بالدولة أهميته. فالإحساس بالدولة هو الذي يخلق الدولة ويشغلها ويحميها ويحدد قدرها ومكانتها. هو الذي صنع الفارق مثلا بين الألمان المعروف تفانيهم والأفغان المعروف انقسامهم. هو الذي يجعل للدولة معني. أما ضعف الإحساس بها فيجعلها بالمثل ضعيفة ويعرض كل من يدافع عنها للاتهام بأنه ابن مدلل للسلطة أو أن ينادي يا ابن الدولة. أولاد الدولة ليسوا أولاد حرام. أولاد الدولة أولاد حلال إذا ما أظهروا وطنية وجدية وابتعدوا في حبهم لها عن الشكل والمظهرية التي نراها تتكرر للأسف علي صورة مزايدات إعلامية رخيصة باتت تمثل خطرا علي مصر والمصريين. وهم أيضا أولاد حلال إذا ما طوروا إحساسا سليما بالدولة. احساس الواثق الذي لا يجفل عن توجيه النقد لو وجد خطأ دون أن يجمح أو يشط بسببه فيعمل ضدها أو يتفاخر بالانتماء لكيان غيرها أو يتنابذ بالألقاب من بعض أبنائها.
H كلية الاقتصاد والعلوم السياسية
نقلا عن الأهرام