على مدى قرون، ظل المفهوم العام للديموقراطية يرتكز فى جوهره على تدبير الشعب لشئونه بنفسه، اعتباراً من تعريفها القديم بأنها حكم الشعب بالشعب ولمصلحة الشعب. غير أن تحليل هذه المقولة، وترجمتها إلى الواقع، كثيراً ما اصطدم بالصعوبات الناجمة عن تحديد المقصود بالشعب الذى يفترض أن يتولى الحكم، أو يكون هذا الحكم فى مصلحته. وفى هذا الصدد، اختلفت المذاهب والتيارات السياسية، واجتهد كل منها فى إعطاء الديموقراطية مفاهيم ومضامين، تتسق مع توجهاته الأيديولوجية وأهدافه السياسية، فيما أضحى المفهوم الليبرالى، القائم على فكرة التمثيل أو النيابة، هو السائد.
ويشار هنا، أنه لا يمكن الحديث عن ديموقراطية أى نظام سياسى، دون أن يتضمن فى ممارساته العملية مجموعة إجراءات وعمليات وحقوق وحريات سياسية، والتزاماً بمبادئ وقيم يتوجب احترام نتائجها، وحيث تطبيق مبدأ منها دون الآخر يسقط عن النظام هويته الديموقراطية، اعتباراً من أنها كل لا يقبل التجزئة.
وفى هذا الصدد، يمكن مقاربة هذه الإجراءات والعمليات والمبادئ، عبر مؤشرات أساسية، يقف على رأسها احترام الحقوق المدنية للجميع، بغض النظر عن النوع أو العرق أو الدين، وأولها: حرية الرأى والتعبير والتنظيم والنشر، أى جملة ما يجعل الأفراد مواطنين، يمارسون حقهم فى مواطنتهم، دون قيد على حرياتهم، إلا ما يفرضه احترام حريات الآخرين، ودون رقابة على أفكارهم إلا ما يدعو منها إلى تهديد الحريات أو يحرض على العنف، ودون انتقاص من حقهم فى التنظيم وتشكيل الجمعيات، إلا ما يقوم منها على أساس عرقى أو طائفى أو مذهبى أو عشائرى.
وتبدو المنافسة المكفولة لكل القوى السياسية بمثابة المؤشر الثانى، عبر إقرار التعددية السياسية والحق فى المشاركة، فيما لا يكفى إقرار هذه التعددية، إن لم تكفل حق الأحزاب والمنظمات كافة فى المشاركة السياسية، والتنافس المشروع فى التمثيل السياسى، وكسب الرأى العام بالوسائل الديموقراطية.
وتكتمل هذه المؤشرات بتواجد نظام تمثيلى، محلى ونيابى، مشمول بضمانات قانونية ودستورية، فكفل حق الاقتراع وحق الرقابة: حرية الاقتراع لكل المواطنين البالغين حق التصويت والمسجلين فى القوائم الانتخابية، وإحاطة العملية الانتخابية بحيثيات الشفافية والنزاهة، وضع أى شكل من أشكال مصادرة الإرادة الشعبية وتزوير التمثيل، سواء من خلال التدخل غير المشروع فى نتائج الانتخابات، أو من خلال استخدام المال السياسى ؛ لشراء الأحداث والتحكم فى اتجاهات اختيار الناخبين. ويشفع حرية الاقتراع هذه، حق الرقابة على السلطة وممارستها، من خلال وسائط الرقابة كافة، من مساءلة نيابية للسلطة التنفيذية، ورقابة على صرف المال العام، ورقابة شعبية على إدارة السلطة.
ذلك أن النظام التمثيلى فى الديموقراطيات الحديثة، هو بمثابة الشكل المؤسسى للتعبير عن مبدأ السيادة الشعبية، أو عن المبدأ القائل بأن الشعب هو مصدر السلطة، يمثلها عبر ممثلين ينتخبهم بحرية.
ومن الطبيعى القول بضرورة توافر ضمانات محددة، توفر للنظام السياسى تحقيق المبادئ المذكورة، أولها: قيام النظام السياسى على قاعدة الفصل بين السلطات، واحترام استقلالية القضاء.
ثانيها: نظام دستورى يمثل الأساس للدولة، وينظم سلطاتها كافة، والعلاقات بين أجهزتها، ويؤكد الحقوق المدنية والسياسية لمواطنيها، وهو نظام توكل صياغته إلى هيئة تأسيسية منتخبة، ويجرى إقراره بواسطة الاستفتاء الشعبى عليه.
ثالثها: نظام اجتماعى اقتصادى عادل، يتمتع فيه المواطنون بحقوق متساوية وفرص متكافئة، على نحو يوفر لهم الحماية ضد انتهاك إرادتهم السياسية، وحريتهم فى التعبير عن هذه الإرادة، واختيار من يرونه الأصلح لتمثيلهم.
وتتمثل رابع: هذه الضمانات فى توافر أحزاب وتنظيمات سياسية، تتحلى بمبادئ الممارسة الديموقراطية، مع التخلى عن عملية الإقصاء والاستحواذ وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة.