في ظل العهد الملكي وإبان ثورة1919, كانت الجامعة المصرية( فؤاد الأول) لا تزال حديثة عهد(1908), ولكنها سرعان ما راكمت تقاليد علمية رصينة اكتسبتها من أجانب علموا فيها, ومن مصريين رواد التحقوا بها.
وعلي منوال هذه التقاليد العلمية الرصينة التي أرسي جذورها قادة فكر ورأي من طراز أحمد لطفي السيد, وطه حسين, ارتسمت تقاليدها السياسية التي وسمت الحراك الطلابي البازغ آنذاك, بميزات ثلاث أساسية:
الأولي وهي السلمية الشديدة التي لابد منها وإلا استحال هذا الحراك إلي أي شئ آخر, سمه ما شئت ولكنه لن يبقي طلابيا. وقد امتدت هذه السلمية من جامعة القاهرة إلي كل جامعات مصر التي نشأت بعد ذلك في شتي أرجائها, علي الرغم من النهج العنيف للسطة أحيانا, خصوصا في العصر الملكي حينما قمعت مظاهرات الطلاب بشراسة من جانب قوات الإحتلال ومن الأمن السياسي المصري.
والثانية هي الوطنية الكاملة, بمعني أن ما كان يستحق الحراك فعلا هو فقط تلك القضايا الوطنية( الكبري), التي أجمع عليها الضمير العام في مصر وبين المصريين, من قبيل الإستقلال إبان الاحتلال البريطاني: الصريح كما كان في ثورة1919, والمضمر بعد معاهدة1936 م. أو من قبيل الصراع مع إسرائيل عندما كان هاجس القتال لتحرير الأرض مسيطرا فيما بين ستينيات, وسبعينيات القرن العشرين, إما مطالبة للرئيس عبد الناصر بمحاكمة العسكريين الفاشلين وإعادة بناء الجيش وهو ما كان بالفعل, وإما مطالبة للرئيس السادات باتخاذ قرار الحرب وهو ما تحقق بمعركة العبور العظيم.
لا نقول هنا بأن الحراك الطلابي وحده كان محفزا لأي من التوجهات المصرية في هاتين القضيتين الكبريين, ولكن ما ندعيه فقط هو أن ذلك الحراك, بما اتسم به من طهرانية شديدة ضد العنف, ومن وطنية عميقة ضد( الحزبية الضيقة), وما جسده من تعبير واعي عن ضمير المصريين وأشواقهم قد مثل قوة أخلاقية مضافة لجموع الشعب أحيانا, كما جسد بديلا عنها في أحيان أخري, عزت فيها حركة الجماهير الواسعة. وأما السمة الثالثة فهي التقدمية التي طالما ميزت الحراك الطلابي في العالم كله, وضمنه الشباب المصري, الذي كان مواكبا لما يموج في العالم من أفكار وتطلعات, خصوصا تلك الثورات التي شغلت النصف الثاني من الستينات في عديد من البلدان, خصوصا في فرنسا1968 م, حينما سادت حالة من الشك والتململ لدي الطلاب في العالم أجمع إزاء الأفكار والإيديولوجيات الكبري التي طالما تحكمت بعالمهم, والتي تبدت لهم آنذاك مرهقة وعاجزة عن مواكبة عصرهم الزاخر بالمتغيرات الجديدة.
وأما الحراك الطلابي( الإخواني) الذي يفتقر إلي السلمية بدرجات مختلفة وينطوي علي عنف واضح لا ينسجم مع النقاء المفترض لمثل هذه الحراك. والمفارقة الأكبر هنا أن عنفه قد نال بالأساس من جامعة الأزهر, وبالتالي من صورة الأزهر كمؤسسة ليس فقط علمية وتثقيفية طالما أعتبرت راعية للإسلام المعتدل, بل وأيضا كمؤسسة حاضنة لـ( الوطنية المصرية) طالما عبرت عن أشواق المصريين, وتبنت أحلامهم الكبري في الإستقلال والحرية, بعيدا عن أي تحزبات سياسية أو انقسامات ايديولوجية, وخصوصا في مواجهة الحكم المملوكي, والحملة الفرنسية, والإحتلال البريطاني, حيث قاد الأزهر النضال الوطني, فكان قبلة المصريين, الذين تحركوا خلف علمائه وشيوخه بل وطلابه كممثلين عن الأمة, فكان بمثابة الجذر المؤسس للحراك الطلابي المصري المتمدين, رغم كونه مؤسسة دينية.
كما يفتقر الحراك الإخواني إلي الوطنية عندما يدافع بوضوح عن موقف حزبي, وعن أهداف ضيقة الأفق, مثيرة للإنقسام, تفتقد للإجماع الوطني, ويحركها تحالف سياسي ذي صبغة إيديولوجية بعيدا عن إلهام الضمير العام, وعن الأشواق العميقة للمصريين, بل ويسعي إلي النيل من رمزية الأزهر( الوطنية) تكريسا لحضوره الطائفي. وهو يفتقر أخيرا إلي الروح التقدمية إذ يبدي استعدادا للتساهل إزاء مقومات الدولة المدنية العصرية, أي دولة المستقبل الرشيد, ويستميت في الدفاع عن قيم ثقافية وسياسية سلفية, تعكس نزوعا نحو إمارة من إمارات الماضي البعيد, حيث الكهانة السياسية ملتفة حول الكهانة الدينية.
وفي مقابل افتقاده لهذه السمات الثلاث الإيجابية, ارتبط الحراك الطلابي( الإخواني) بسمة سلبية, وهي النزعة( الريفية). والريفية هنا ليست وصفا جغرافيا لانتماء مناطقي في دلتا وصعيد مصر, بل وسما قيميا لمجموعة من السلوكيات النقيضة للروح المدينية المتحضرة التي كانت قد استقرت لدينا بطول القرن العشرين. إنها الوصف المهذب, ربما, للسوقية التي تسم مثلا سلوك فتيات الجماعة في التعامل غير اللائق مع زميلاتهم المعارضات لمواقفهن, ناهيك عن تعاملهم الفظ مع أساتذتهن والذي لا يتفق ليس فقط مع طبيعتهن الأنثوية التي يفترض فيها الرقة والتهذيب, بل وأيضا مع طبيعة تكوينهم( الأخلاقي) المتصور, نتاجا للدراسة بجامعة دينية كالأزهر الشريف, يفترض نظريا أن تضم بين جنباتها من الطلاب والطالبات الأكثر رغبة إما في معرفة دينية خالصة( دعوية) أو معرفة علمية مدنية( تستهدي بأخلاقية دينية), ما يفترض معه أن تكن أو يكونوا أكثر التزاما بالنهج الأخلاقي في التعامل مع الغير خصوصا الكبار من المعلمين والمعلمات, الأمر الذي يكشف عن مفارقة كبيرة لا يمكن فهمها إلا في سياق مفارقة أكبر وهي النزعة الريفية التي ترعرعت في جسد نموذج التمدين المصري في العقود الثلاث الماضية, وإن ظلت مختبأة تحت سطحه حتي25 يناير, قبل أن تنفجر في وجوهنا جميعا بمجرد زوال قوة الضبط القسري للدولة, قبل أن تقوم الجماعة بتوظيفها وهي في الحكم, عندما دخلت بعشوائيتها إلي القصر الرئاسي نفسه فيما جسدته مظاهر وممارسات عديدة, فلما انتهت تجربة الحكم القصيرة, كان انفجارها المدوي في كل مكان.
لقد ولدت حركة الإخوان كحركة سلفية ضد روح العصر, ونمت علي أجساد أجيال انتمت إلي ثقافة تقليدية, تتأسس علي جوهر ريفي لا مديني, لم تكن قابلة للحياة من دونها, وها هي تذهب إلي النهاية في محاولة توظيفها لصالح معركتها الأخيرة ليس فقط مع الدولة ولكن أيضا مع المجتمع المصري وثقافته المتمدينة, التي كانت قد استقرت زمنا طويلا وانتجت نساء رائدات في كل مجال, قبل أن تنتكس لتنتج بنات( عضاضات) لكل جسد, معتديات علي كل مخالف, خروجا علي القانون, واحتماء بمفهوم الأنوثة اللاتي يقمن, أنفسهن, بإهداره.
نقلا عن الأهرام