افهم أن هناك بعض القوي الشبابية التي تعتقد أنها صاحبة الحق الحصري في ثورة25 يناير, وأن الثورة سرقت منهم قد قعدوا في بيوتهم ولم ينزلوا الي مراكز التصويت كنوع من الاحتجاج أو التعبير عن الرفض والاستياء من بعض تطورات وممارسات لا يرضون عنها.
أما ما لا افهمه هو أن يقول أحدهم استنادا إلي مشاهداته الجزئية في ساعات بعينها لبعض لجان التصويت بأن الشباب ــ بالمطلق ــ قد عزفوا عن المشاركة في الاستفتاء, ويصف ذلك بأنه يعبر عن كارثة كبري. ويقول آخر ان الحكومة عليها معالجة الامر وأن تفتح ذراعيها للشباب حتي لا يحدث الانفصال بين هذه الشريحة المهمة وبين الواقع السياسي الذي فرضه الدستور الجديد. ووفقا للتفكير العلمي المفقود في مصر فإن مثل هذه الأقوال هي من نوع التعميم الذي لا سند له في الواقع أو في البيانات الاحصائية التي نشرها موقع اللجنة العليا للانتخابات التي اشرفت علي الاستفتاء. كذلك لا أفهم من أين جاء المصدر القضائي وفقا للشروق والمنسوب إليه أن16% فقط من الشباب هم من شاركوا في الاستفتاء تبعا لبيانات محافظتي القاهرة والجيزة فقط, ثم يحول الامر إلي ظاهرة تخص مصر كلها. وهو تعميم آخر يقوم علي المغالطة وعدم الانضباط العلمي. وحتي إذا كان الامر كذلك في القاهرة والجيزة, فهل يمكن تعميم هذه النتيجة حول عزوف الشباب في المشاركة علي باقي المحافظات المصرية؟ بالقطع لا.
إن آفة البلدان المتخلفة هي في مثل هذا النوع من التفكير الضبابي القائم علي التجزئة في الفكر والتشتت في المعلومات والاستنتاج دون دليل. باختصار إذا استمر هذا النوع من التفكير والتنميط والتعميم سنكون أمام كارثة حقيقية بالفعل, خاصة وأن من يقولون بمثل هذه التعميمات هم من رجال الاعلام والسياسة والذين ينظر إليهم غالبية المصريين باعتبارهم القدوة في القول وفي الفعل, ويتأثرون بما يقول هؤلاء.
واقع الحال ان البيانات المعلنة من اللجنة العليا للانتخابات تكشف عن اتجاهات التصويت في المحافظات بشكل إجمالي, ولا تحمل أي معني آخر سوي أن هناك محافظتين من وسط الدلتا كانتا في مقدمة من شاركوا في الاستفتاء وهما محافظتا المنوفية بنسبة تصويت534% تليها محافظة الغربية بنسبة52%, وهما نسبتان عاليتان للغاية, وتعوضان انخفاض نسبة المشاركة في كل من القاهرة والاسكندرية, وهما اكبر مدينتين حضريتين, واللتين شاركتا بنسبة40% ونسبة35% علي التوالي. وتدل باقي الاحصاءات علي ان نسبة التصويت في مدن الدلتا كانت الاكبر مقارنة بالتصويت في المحافظات الحضرية, وان محافظات الصعيد حافظت علي نسبة تصويت معتادة ما بين27% إلي30%.
كما تكشف البيانات الاحصائية ان نسبة المقيدين في الجداول الانتخابية من الفئة العمرية21 إلي30 عاما شكلت15.5 مليون مصري ومصرية, بنسبة30% من إجمالي الذين لديهم الحق في التصويت, وتليهم فئة الشباب المتقدم عمريا ما بين31 إلي40 عاما, باجمالي11.6 مليون مصري ومصرية, وبنسبة22%. وإذا تصورنا ان هاتين الفئتين العمريتين قد عزفتا عن المشاركة في التصويت علي الدستور الجديد, فكيف شارك21 مليون مصري ومصرية قال منهم98% نعم, ومعها نسبة ضئيلة جدا قالت لا. بعبارة أخري أن مقولة عزوف الشباب بالمطلق أو امتناع الجزء الاكبر منهم عن المشاركة في الاستفتاء هي مقولة فاسدة جملة وتفصيلا. وإذا كانت بعض القوي المنتسبة لثورة25 يناير قد وجدت نفسها خارج السياق العام خاصة مع ظهور حركة تمرد الشبابية أيضا, فعليها أن تسأل نفسها عن السبب أو الاسباب التي أدت بهم إلي هذا المقام, وعليها ان تعالج إشكالية الانفصال عن الواقع او الاستعلاء علي البسطاء وقلة العمل بين الجماهير, وعليها أيضا ان تنظر للامور نظرة اوسع من تلك التي تحكم تفكيرهم. فالمصريون صاروا اكثر نضجا سياسيا وثقافيا واقتصاديا, وبالتالي لن تستطيع أن تؤثر عليهم قوي بعينها عبر الاعلام والشعارات البراقة وحسب.
صحيح أن هناك من سرب بعض محادثات هاتفية لبعض رموز ثورة يناير, لكن الصحيح أيضا أن هؤلاء الرموز لا يمثلون كل الشباب الذين شاركوا في الثورة. وحين يختصر البعض فئة الشباب ما بين21 إلي40 عاما في بضعة رموز, فهو مخطئ تماما. والمسألة ليست أن يكون المرء رمزا, بل يجب أن يكون رمزا وقدوة حسنة في الآن نفسه, وألا يورط نفسه في مدارك الشبهات حتي لا يسبب لنفسه ولزملائه المشكلات السياسية والمعنوية.
وربما يتعاطف المرء مع مقولة أن عودة رموز سياسية منتسبة لعهد مبارك تثير الاستياء العام. بيد أن هذه الرموز العائدة للعهد المباركي تعمل بجد ونشاط وتوجه الاحداث وتقود الواقع وتنادي بالفريق السيسي رئيسا وتقدم نفسها باعتبارها القوي الحقيقية التي قادت الجموع في30 يونيو2013, ومن ثم تستحق أن تكون القوة الشعبية المساندة للفريق السيسي, والتي يعتمد عليها في الحكم والبناء. وهو تحرك نابع من حالة الفراغ القيادي والسياسي في البلاد, وبالتالي فإن المسئولية هنا لا تقع عليها, بل تقع علي الذين اكتفوا بالبيانات التليفزيونية والحشد الفيسبوكي والانغلاق علي الذات الافتراضية والبعد عن العمل وسط الجماهير.
وربما تنفع هنا مقولة ان الفعل يشكل لنفسه رد فعل يساويه في الكتلة ويضاد له في الاتجاه. فالرغبة في الحصول علي ثمن للثورة أو المشاركة فيها, ليست مجرد رغبة أو بيان شديد العزوبة أو تغريدة يتداولها بضع مئات أو آلاف من المؤيدين, بل هي فعل ومشاكسة والتزام بالعمل السلمي وارتباط متصاعد بالجماهير في كل ركن وفي كل مكان. ولما كانت بعض القوي الشبابية قد انغلقت علي نفسها وتناست أنها في حال صراع ومنافسة شديدة الوطأة مع الغير بكل اطيافهم السياسية والفكرية, فيصبح من الطبيعي ان تخسر الكثير, ويظهر لها اكثر من منافس من بين الناس انفسهم.
نقلا عن الأهرام