المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

"فلسطين المصرية": الحلم الصهيوني القديم ( 3-4 )

الثلاثاء 21/يناير/2014 - 03:01 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د / محمد عفيفى*

لم تغب سيناء أبدًا عن الفكر الصهيوني، هذا الفكر الذي بدأ يأخذ أشكالاً مؤسسية منذ القرن التاسع عشر، في محاولةٍ لإحياء أرض الميعاد المزعومة. لقد احتلت مصر بشكلٍ عام ـ وسيناء بشكلٍ خاص، موضعًا متميزًا في الفكر التوراتي؛ فمصر هي الأرض التي أتى إليها إبراهيم ويوسف وموسى، أما سيناء على وجه الخصوص فهي أرض التيه ـ دلالة على تشتت اليهود وتيههم في أرض سيناء بعد خروجهم من مصرـ هذا الحدث التاريخي الذي يعبر عنه الفكر التوراتي الصهيوني بأنه تغرُّب بني إسرائيل في سيناء لمدة أربعين سنة وضياعهم في بلاد "التيه"، أي سيناء، حتى وصولهم إلى أرض فلسطين. لذلك يحرص الفكر الصهيوني دائمًا على ادعاء التواجد اليهودي واستمراريته في سيناء منذ العهد القديم.

وتحرص الدراسات الصهيونية، في هذا الشأن، على ذكر المعالم الجغرافية الواردة في "قصة الخروج" ـ خروج بي إسرائيل من مصرـ فهناك دائمًا ذكر لـــ"حمام فرعون"؛ "عيون موسى"؛ "جبل موسى"؛ و"طور سيناء" حيث نزلت الوصايا العشر، وبالتالي تعتبر سيناء جزءًا من الأراضي المقدسة.

سيناء.. فلسطين المصرية:

من هنا اكتسبت سيناء هذا الاسم الغريب، في المعنى والدلالة، في الأدبيات الإسرائيلية: سيناء "فلسطين المصرية". وربما ينظر البعض إلى هذا المصطلح بحسن نية نظرًا للعلاقات الجغرافية والديموغرافية والتاريخية بين سيناء وفلسطين عبر العصور، لكن هذا المصطلح الغريب الذي نجده في الأدبيات الصهيونية، والذي انتقل للأسف في بعض الأحيان وفي أوقاتٍ مبكرة إلى الأدبيات العربية، يتضمن معانٍ ودلالات غايةً في الخطورة.

إن تعبير "سيناء: فلسطين مصرية" هو تعبير صهيوني يهدف في الحقيقة إلى إدماج سيناء فيما يُعرف بفلسطين الكبرى؛ كما ينزع عن سيناء انتماءها المصري الأصيل. وهو أيضًا مصطلح عنصري، إذ يجعل سيناء أرضاً بلا هوية، كما يتجاهل الاسم التاريخي للمنطقة (سيناء) الذي يرد في الكتب المقدسة والكتابات التاريخية على حدٍ سواء.

ويذكرنا هذا المصطلح العنصري بمصطلحاتٍ جغرافية أخرى ذات طابع استعماري مثل مصطلح "الهند الصينية"، هذا المصطلح الذي أطلقه الاستعمار على منطقة جنوب شرق آسيا، في فترةٍ تاريخيةٍ ما، في محاولةٍ لتمييع الهوية المحلية لهذه المنطقة، على أساس أنها تأخذ بُعدًا من الهند وتأخذ طابعاً من الصين، دون أن يكون لها هويتها الخاصة بها، وفي هذا الأمر تجاهل واضح وعدم اعتبار للهوية المحلية لمثل هذه المناطق. والأمر الخطير في هذا الشأن أنه بهذا المنطق تصبح "فلسطين المصرية" و"الهند الصينية" هي مناطق بلا هوية، وبلا شعب مُحدَّد المعالم، وبالتالي هي مناطق من المشروع استعمارها واستيطانها، متجاهلين بذلك تاريخ هذه المناطق والطبيعة الخاصة لسكانها.

من هنا يأتي خطر هذا المصطلح الغريب "فلسطين المصرية" لأنه، كما قلنا سابقًا، يُدخل سيناء ضمن مشروع فلسطين الكبرى، كما يكرس وضع سيناء داخل أسطورة أرض الميعاد وإنشاء إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات.

وما أشبه الليلة بالبارحة، إذ ترددت مؤخرًا مشاريع صهيونية إسرائيلية نحو إعادة توطين أهل غزة في سيناء، على أن سيناء هي امتداد طبيعي لسوريا الجنوبية أي "فلسطين الحالية" في الفكر الصهيوني. وفي نفس الوقت فإن مصطلح "فلسطين المصرية" ينفي عن سكان سيناء هويتهم الخاصة، ويطرحهم أمام العالم في شكل مسخ من البشر ليس له هوية معينة أو شخصيته الخاصة به، كما أنه يمكن تفسيره على أنه رسالة للعالم بإمكانية معالجة الكثافة السكانية العالية الآن في غزة بفتح سيناء، "فلسطين المصرية"، كمجال حيوي لأهل غزة.

من هنا لم تغب سيناء عن الفكر الصهيوني منذ القرن التاسع عشر وحتى الآن. وستعاني سيناء، مثلها مثل فلسطين، مبكرًا من العديد من مشاريع الاستيطان الصهيوني في أراضيها، وستظل سيناء، كما سنرى، في بؤرة الأطماع الصهيونية.

مشاريع الاستيطان في سيناء:

بدأ الالتفات الصهيوني إلى أهمية موقع سيناء مبكرًا، نظرًا لطبيعة الموقع الجغرافي والاستراتيجي لها، فضلاً عن البُعد التاريخي لسيناء في الفكر التوراتي الصهيوني. إذ تحدثنا بعض الروايات التاريخية عن بدايات الاهتمام اليهودي بسيناء في أعقاب الفتح العثماني لمصر في عام 1517، حيث ترى هذه المصادر أن سيناء قد أصبحت مطمعًا لمشاريع استيطانية مبكرة منذ عهد السلطان سليم الأول والسلطان سليمان القانوني في القرن السادس عشر. وترصد هذه المصادر رفض الدولة العثمانية لهذه المشاريع الاستيطانية لخطورتها على أوضاع سيناء، نظرًا لأهمية سيناء آنذاك كمحطة في ربط الولايات العثمانية في شمال أفريقيا بقلب الدولة العثمانية؛ فضلاً عن مرور طريق قوافل الحج من بلاد المغرب العربي إلى مصر ومروره عبر سيناء إلى الحجاز. يضاف إلى ذلك ما ذكرته بعض المراجع التاريخية عن خلافاتٍ حادة نشأت بين المستوطنين اليهود الأوائل في سيناء ورهبان دير سانت كاترين، مما دفع الدولة العثمانية إلى التدخل بمنع توطين هؤلاء اليهود في بقاع سيناء.

لكن الأطماع الصهيونية في سيناء ستزداد تبلورًا مع انتشار الفكر الصهيوني في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حيث تبدأ محاولات جدية لإقامة مستوطنات يهودية في سيناء أو بالقرب منها. وربما من أهم وأخطر هذه المحاولات "مشروع بول فريدمان" للاستيطان في المنطقة بين عامي 1891 و1892. وتحيط ببول فريدمان هذا العديد من أوجه الغموض والريبة، فهو بروتستانتي ألماني ينحدر من أسرة يهودية ألمانية، ويمثل بول فريدمان تطورًا هامًا وخطيرًا في تاريخ الفكر الصهيوني من حيث ارتباط المذهب البروتستانتي المسيحي بالفكر الصهيوني وتأييده لفكرة إحياء أرض الميعاد. هذا التحالف "البروتستانتي ـــــــ الصهيوني" الذي سنجد له انعكاسات خطيرة وهامة بعد ذلك على مجريات السياسة الأمريكية وتعاطفها مع إسرائيل.

على أية حال ما يهمنا هنا في مشروع بول فريدمان هو هذا المصطلح الغريب الذي أطلقه على مشروع إقامة مستوطنة يهودية تحت اسم "أرض مدين"، وهو هنا يعيد إحياء هذا المصطلح التاريخي الذي ورد في العهد القديم عن أرض مدين التي فر إليها النبي موسى.

وما يهمنا هنا في هذا المشروع "أرض مدين" هو بدايات هذا الأمر الخطير وهو فكرة إنشاء قناة جديدة تربط البحرين الأبيض بالأحمر، وتكون بديلة عن قناة السويس. بل، وكما يقول فريدمان نفسه،  ستضرب هذه القناة البديلة قناة السويس، التي كان قد تم إنشاؤها سابقًا، في مقتل.

وتطرح هذه الفكرة تصورًا بإنشاء قناة بين حيفا على البحر المتوسط والعقبة على خليج العقبة وصولاً إلى البحر الأحمر، ووفقًا لرؤية بول فريدمان فإن هذه القناة البديلة ستحرم مصر من هذا الممر الاستراتيجي "قناة السويس"، وستُضعِّف من الاقتصاد المصري، كما ستقلل بشكلٍ كبير من أهمية وضع مصر في الاستراتيجية الدولية. وسيكون كل ذلك في صالح إحياء مشروع أرض الميعاد، فقد كان بول فريدمان يعتقد أن مصر القوية ربما تكون هي العائق الحقيقي أمام قيام إسرائيل الكبرى.

يذكرنا هذا المشروع (مشروع قناة حيفا ـــ العقبة) وضرب قناة السويس، بالمشروع الحالي الذي طرحته إسرائيل تحت اسم "قناة البحر الميت" لربط البحر الميت بالبحر الأحمر. حيث أُثيرت أخيرًا العديد من المخاوف حول طبيعة هذا المشروع وهل هو في الحقيقة مشروع لتنمية البحر الميت أم أنه مشروع إسرائيلي لضرب قناة السويس وخلق قناة بديلة؟

أهى محض صدفة أن يطرح بول فريدمان، في نهاية القرن التاسع عشر، مشروع قناة حيفا ــ العقبة، وتطرح إسرائيل في نهاية القرن العشرين مشروع قناة البحر الميت ــ البحر الأحمر؟ أم أن الفكر الصهيوني ينظر دائمًا بأهمية إلى موقع مصر وقناة السويس وإلى سيناء كمنطقةٍ حارسة لقناة السويس؟ أيًا ما كان الأمر فإن هذه النقطة بالذات "مشروع القناتين" يحتاج إلى دراسة ورؤية خبراء الاستراتيجية المصرية الآن، لا سيما مع تزايد الأطماع الإسرائيلية في المنطقة.

هرتزل والمشروع الاستيطاني لسيناء:

منذ انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بازل عام 1897، بدأ الزعيم الصهيوني الشهير "هرتزل"، الذي يعتبر بحق الأب الروحي للفكر الصهيوني، في وضع بنود هذا المؤتمر محل التنفيذ، حيث بدأ في طرح مشاريعه الاستيطانية من أجل إحياء أرض الميعاد.. "إسرائيل".

وربما لا يعلم الكثيرون أن سيناء كانت محط أهم مشاريع هرتزل الاستيطانية، حيث بدأ في إجراء مشاورات مع بريطانيا من أجل أن تتنازل الأخيرة عن إحدى الأماكن التابعة لها لإنشاء مستعمرة يهودية تكون نواة حقيقية لقيام دولة إسرائيل بعد ذلك. وطرح هرتزل عدة بدائل كان أهمها شبه جزيرة سيناء أو جزيرة قبرص. وبطبيعة الحال رفضت بريطانيا تمامًا فكرة إنشاء مستوطنات يهودية في قبرص، نظرًا للأهمية الاستراتيجية للجزيرة بالنسبة لبريطانيا لكونها قاعدة بحرية هامة في شرق المتوسط، يضاف إلى ذلك طبيعة التعقيدات الديموغرافية الحادة في جزيرة قبرص، وانقسام السكان بين قبارصة يونانيين وقبارصة أتراك، وبالتالي لم تُعِّر بريطانيا هذا المشروع أي التفات.

من هنا تركزت الجهود الصهيونية بعد ذلك حول سيناء، وبدأت اتصالات هامة بين دعاة الصهيونية وبين "جوزيف تشمبرلين"، وزير المستعمرات البريطاني، بهذا الشأن. ثم انتقلت المفاوضات الصهيونية بشأن مشروع استيطان سيناء إلى عهدة اللورد "كرومر"، المعتمد البريطاني في مصر، وبدأت مفاوضات جدية في هذا الشأن.

وزيَّن الزعماء الصهاينة لبريطانيا فكرة إقامة مستوطنات يهودية في سيناء، بأن سيناء، من وجهة نظرهم، شديدة القرب من فلسطين وبالتالي سيسهل ذلك من انتقال المد الاستعماري إليها، لا سيما مع ضعف الدولة العثمانية التابعة لها فلسطين، وتنبُأ الجميع بقرب سقوط الدولة العثمانية، وهو ما حدث بالفعل مع الحرب العالمية الأولى.

الأمر الثاني الهام والخطير الذي زيَّن به القادة الصهاينة لبريطانيا مشروع استيطان سيناء، هو حماية قناة السويس، إذ طرح هؤلاء الصهاينة فكرة أن استيطان اليهود وتعميرهم لسيناء سيكون أكبر خط دفاعي عن القناة، الأمر الذي سيزيل الكثير من القلق البريطاني تجاه أحوال الدفاع عن قناة السويس، إذا حدثت حرب عالمية، كما كان متوقعًا آنذاك. وهكذا تتوافق الأهداف الصهيونية والبريطانية حول حماية قناة السويس ووضعها للأبد تحت السيطرة الاستعمارية الأوربية.

الأمر الأخر، الذي سيوفره نجاح مشروع الاستيطان الصهيوني في سيناء، هو عزل مصر عن المشرق العربي، وبالتالي سيُسَّهِل ذلك من مشاريع التقسيم الاستعمارية للمشرق العربي، هذه المشاريع التي ستتضح بعد عقد اتفاقية سايكس ــ بيكو في عام 1916. كما أن استيطان الصهاينة في سيناء من الممكن أن يكون نقطة انطلاق بعد ذلك إلى فلسطين، وإقامة حلم دولة إسرائيل الكبرى؛ وفضلاً عن هذا وذاك ستفقد مصر سياستها ونفوذها وعلاقتها السياسية والثقافية بالمشرق العربي، مما سيُحجِّم من قوة مصر ودورها التاريخي، ويُسقِط إلى الأبد النظرية التاريخية التي تبنتها مصر منذ فجر التاريخ: أن حدود مصر لا تنتهي عند رفح.

وتعاطفت بريطانيا مع مشروع هرتزل لاستيطان سيناء، بل وسمحت له بإرسال بعثة فنية استكشافية لإجراء ما يمكن أن نسميه "دراسة جدوى" حول هذا المشروع. وطلبت الحكومة البريطانية من اللورد كرومر تقديم كافة المساعدات والتسهيلات لهذه البعثة، والتقريب بينها وبين الحكومة المصرية، وهكذا أصبحت سيناء من جديد في قلب أطماع الصهيونية.

البعثة الصهيونية.. سيناء أرض الأحلام:

وصلت البعثة الصهيونية بالفعل إلى مصر في مطلع عام 1903، وكانت مكوَّنة من خبراء في مختلف المجالات من متخصصين في المناجم، ومتخصصين في الزراعة، بجانب الخبرات الطبية والمعمارية التي ضمتها البعثة، وقامت هذه البعثة بزيارة طويلة لسيناء استمرت عدة أسابيع.

ويقدم لنا "إبراهيم أمين غالي"، في دراسته عن سيناء، مُجمل التقرير النهائي لهذه البعثة، عن مدى ملائمة سيناء لكي تكون وطنًا لليهود.

ويعتبر هذا التقرير غاية في الأهمية والخطورة حيث يرصد الإمكانيات الطبيعية لسيناء، وقدرتها على أن تكون وطناً قومياً لليهود، فضلاً عن وضع تصورات لمشاريع استثمارية مستقبلية لسيناء، بالإضافة إلى أن هذا التقرير سيصبح بعد ذلك هو نقطة البدء والأساس في النظرة الصهيونية والإسرائيلية تجاه سيناء حتى الآن. وسنجد تشابهاً كبيراً بين سياسات هذا التقرير والسياسات التي اتبعتها إسرائيل أثناء احتلالها لسيناء بعد عام 1967، أو حتى تصورات إسرائيل بعد ذلك عن مدى إمكانية استفادتها من سيناء.

تم إعداد وكتابة هذا التقرير بشكلٍ خبيث، إذ بدأ بمحاولة إثبات حقيقة أن سيناء هي أرض بلا شعب؛ أرض تكاد تخلو من السكان، وبالتالي فإن المشروع الاستيطاني الصهيوني هو محاولة لتعميرها. وهي تقريبًا نفس الأفكار التي سوف ترددها المزاعم الصهيونية عن فلسطين بعد ذلك بأنها أرض بلا شعب لشعبٍ بلا أرض.

يهتم هذا التقرير ببيان الفراغ الديموغرافي في شبه جزيرة سيناء، وبالتالي الإمكانيات المستقبلية لاستيطان أعداد كبيرة من اليهود فيها. فيرصد التقرير أن منطقة وادي الفرما خالية من السكان، أما المنطقة الواقعة جنوب بحيرة البردويل، بين وادي الفرما ووادي العريش، فيُقيم فيها عدد قليل جدًا من البدو وأغلبيتهم من النساء والشيوخ والأطفال، أي أنه لا توجد أياد عاملة شابة، وبالتالي فالمجال مفتوح أمام هجرة الشباب اليهودي من أوربا إليها، أما عن بحيرة البردويل نفسها فيرصد التقرير وجود عدد قليل جدًا من السكان يعمل فقط بصيد الأسماك. ويرى التقرير أن منطقة وادي العريش يوجد بها المدينة الوحيدة في سيناء، مدينة العريش، وهي مقر الإدارة المحلية المصرية، ويُقدر التقرير عدد سكان العريش بحوالي أربعة آلاف نسمة، أما بقية مناطق سيناء جنوبًا فهي تتميز بالندرة الشديدة للسكان بها.

وعلى وجه الإجمال يرى التقرير أن شبه جزيرة سيناء شبه خالية من العنصر البشري، نظرًا لقلة الأمطار وندرة المياه، يضاف إلى ذلك طبيعة البدو الرُحل من سكانها في عدم الاستقرار أو الارتباط بأرضٍ معينة، فهم دائمي التنقل بين فلسطين ومصر. وهكذا تصبح سيناء، أو "فلسطين المصرية"، أرضاً بلا شعب وهي منطقة جذب للهجرات اليهودية.

ويهتم التقرير كثيرًا بأحوال الزراعة في سيناء، أو في الحقيقة مدى جدوى إقامة مستوطنات زراعية في سيناء. فيرصد ضعف الزراعة بشكلٍ عام في سيناء لندرة المياه بالمنطقة، لذا فالزراعات المحلية هناك تكاد لا تكفي حاجة السكان. كما يولي التقرير اهتمامًا خاصًا لطبيعة التربة في سيناء ومدى إمكانية الاستثمار هناك؛ فبالنسبة لمنطقة وادي الفرما يرى التقرير أن العيب الرئيسي في هذه المنطقة هو أنها مغطاة بطبقة سميكة من الأملاح، وبالتالي فإن أي مشاريع استثمارية زراعية في هذه المنطقة تحتاج إلى بذل جهود كبيرة وأموال طائلة لغسل الأرض من هذه الأملاح، حتى يمكن استصلاحها. أما المنطقة الرملية الواقعة جنوب بحيرة البردويل فيما بين وادي الفرما ووادي العريش، فهي مناطق لا تصلح للزراعة إلا في بعض المناطق المحددة جنوب البحيرة أو جنوب وادي العريش. أما المنطقة الأخيرة وتقع في وادي العريش وما أطلق عليه التقرير "صحراء التيه"، فهي منطقة من ناحية التربة فقيرة، لا تُقارن بالأراضي الزراعية الخصبة، ولكن يرصد التقرير إمكانية زراعتها بمواصفات معينة ومع ضرورة توافر المياه اللازمة.

الغريب أن هذا التقرير الصهيوني المبكر يُشير إلى افتقار سيناء إلى المعادن والبترول والفحم، ويرى أنها تكاد تخلو من الثروات المعدنية. ومن هنا يثور جدل كبير بين المؤرخين الذين تعرضوا لدراسة هذا التقرير.. هل لجأت البعثة الصهيونية في تقريرها إلى التقية وإخفاء الإمكانيات الحقيقية لأرض سيناء، حتى لا تثير اهتمام بريطانيا بها، أو حتى لا تثير حفيظة الحكومة المصرية؟ وبالتالي تظهر سيناء على أنها أرض بلا شعب ولا ثروات ثم يحولها المستوطنون اليهود بعد ذلك إلى جنةٍ زاهرة. في حين يرى البعض الأخر من المؤرخين أن البعثة الصهيونية لم تُدرك بالفعل، في هذا الوقت المبكر، إمكانيات سيناء الطبيعية، وبالتالي جاء التقرير على هذا النحو الذي يوضح الفقر الشديد في الإمكانيات الطبيعية والمعدنية بها.

على أية حال ينتقل التقرير بعد ذلك إلى نقطةٍ أخرى مهمة وخطيرة تربط بين المشاريع الصهيونية المبكرة وبين المشاريع الإسرائيلية الحالية تجاه سيناء ومصر بشكلٍ عام، ألا وهي مشكلة المياه. إذ يعود التقرير في النهاية ليرى أنه رغم ضعف الأرض الزراعية في سيناء، إلا أنه من الممكن استصلاحها وإنتاج محاصيل على درجة عالية من الجودة، لكن ذلك يستلزم جهوداً كبيراً وأموالاً طائلة واستثمارات من جانب يهود أوربا. ويشير التقرير إلى ندرة المياه في سيناء، وبالتالي تطرح البعثة الفنية مشروعاً غاية في الأهمية والخطورة لتوصيل مياه النيل إلى سيناء. هذا المشروع الذي يمكننا الربط بينه وبين أحلام وأفكار إسرائيلية ظهرت بعد معاهدة السلام من خلال ما سُميَّ "ترعة السلام" من أجل توصيل مياه نهر النيل إلى سيناء، ومنها إلى إسرائيل، وإقامة مشاريع استثمارية زراعية في سيناء.

إن هذا التقرير الصهيوني، في هذا الوقت المبكر 1903، يطرح إمكانية تحويل مجرى من نهر النيل إلى وادي الفرما في سيناء، ويرى التقرير ضرورة موافقة الحكومة المصرية على ذلك، وتنسيق العمل بينهما. ويزعم التقرير أن هذا المشروع لن ينتقص من حاجات مصر المائية من نهر النيل، إذ يُقدر التقرير أن المشروع الصهيوني لاستيطان سيناء يحتاج إلى حوالي ستين ألف متر مكعب من المياه يوميًا، أي حوالي أربعة مليار وثلاثة مائة وأربعين ألف متر مكعب سنويًا. وأن هذه الكمية لا تتعارض مع حاجات مصر المائية، إذ يمكن توفيرها من المياه التي تتدفق عادةً سدى من نهر النيل إلى البحر المتوسط ولا يُستفاد منها. كما تساءل التقرير حول إمكانية توصيل المياه إلى سيناء من خلال أنفاق عبر قناة السويس، ويرى ضرورة دراسة ذلك بجدية، وهل تؤدي هذه الأنفاق إلى عرقلة الملاحة في القناة أم لا؟

ويقدر هرتزل أن تكلفة نقل مياه النيل عبر أنفاق تحت قناة السويس سوف تصل إلى حوال مليوني جنيه، أما بالنسبة لمشكلة خصوبة الأراضي في سيناء، يقترح هرتزل جلب كميات كبيرة من الطمي من الدلتا ونقلها إلى العريش لتخصيب الأراضي هناك، وكلف بعض المهندسين الزراعيين بالإشراف على هذا الأمر. لكن هرتزل يعترف بمخاوفه من وصول أخبار هذا المشروع إلى الدولة العثمانية، إذ ربما تعترض استانبول على ذلك الأمر بشدة نتيجة أهمية سيناء وفلسطين بالنسبة لها.

ولم ينس التقرير مسألة وضع تصور لحدود هذه الدولة الجديدة أو "فلسطين المصرية". إذ يرى التقرير أن تمتد حدودها ما بين البحر المتوسط شمالاً، والحدود مع الدولة العثمانية شرقًا، ومساقط وادي العريش ومرتفعات التيه جنوبًا، وقناة السويس وخليجه غربًا، وهي تقريبًا نفس حدود سيناء الحالية.

وحاول هرتزل، من خلال علاقاته الوثيقة بكرومر في مصر، تمرير الموافقة البريطانية المصرية على هذا المشروع، وبالفعل لم يُبد كرومر اعتراضًا كبيرًا على هذا المشروع. لكن الحكومة المصرية آنذاك كانت تتخوف بشدة من أمثال هذا المشروع، فاعترضت عليه متعللة بتبعية مصر للدولة العثمانية، وبالتالي فإن القوانين والأوامر العثمانية لا تسمح، تحت أي سبب أو مبرر، بالتنازل عن أي منطقة تتعلق بالسيادة المصرية العثمانية.

وعلى الرغم من رفض الحكومة المصرية لهذا المشروع، احترامًا منها للقوانين العثمانية التي كانت مصر تنطوي تحت لوائها آنذاك، إلا أنها رأت أنه من الممكن أن تسمح بإقامة مشاريع صغيرة لليهود في سيناء، بشرط أن يكونوا من رعايا الدولة العثمانية. وكانت وجهة نظر الحكومة المصرية في ذلك أن جميع رعايا الدولة العثمانية ـ وبصرف النظر عن الديانة، لهم نفس الحقوق والواجبات، إلا أن هذا التحفظ من جانب الحكومة المصرية كان في الحقيقة بمثابة رفض تام لمشروع هرتزل، لأنه من غير الممكن ليهود الدولة العثمانية إقامة مثل هذه المشاريع الاستيطانية الكبيرة كمشروع هرتزل، الذي كان يعتمد على دعم يهود أوربا وليس يهود الدولة العثمانية.

ورغم الاعتراض المصري لم يفقد "هرتزل" الأمل في تحقيق مشروعه الاستيطاني في سيناء، ولجأ من جديد للحكومة البريطانية لتضغط بشدة على مصر لتمرير هذا المشروع، لكن الموقف المصري لم يتغير كثيرًا. ولهذا قرر هرتزل العودة من جديد إلى القاهرة في محاولةٍ للضغط مجددًا على الحكومة المصرية للموافقة على مشروع (مستعمرة يهودية في شبه جزيرة سيناء) كما كان يُطرح آنذاك، لكن الحكومة المصرية تعلن بكل وضوح رفضها لهذا المشروع.

ويبدأ كرومر نفسه في التراجع عن المشروع الصهيوني في سيناء، ويرسل تقريراً سرياً إلى لندن يُحدد فيه موقفه من هذا المشروع:"إنه منذ بداية الموضوع حاولت، بالرغم من المعارضة الشديدة، بكل ما في وسعي حمل المختصين على الاستماع لوجهة نظر د.هرتزل ومن معه، إلا أنني بصفةٍ قاطعةٍ ونهائية أرى أنه يجب صرف النظر عن الموضوع. وأريد أن أضيف إلى ذلك أن معارضة الحكومة المصرية لا ترجع إلى شعورٍ معادٍ لليهود، بل تستند إلى أنها لا تعتقد أن في الامكان نجاح مشروع كهذا، ويشاركها الرأي كل الجهات المختصة سواء كانت أهلية أم بريطانية... ومن الأكثر تعقلاً الامتناع عن تشجيع د.هرتزل على الاستمرار في السير وراء أحلام لا يمكن تحقيقها".

ورغم ذلك لم تنقطع محاولات هرتزل في الضغط على بريطانيا لتمرير المشروع، لكن مشروعه لم يلق النجاح وانتهى بالفشل لدرجة أحبطت هرتزل نفسه، فكتب عن ذلك في مذكراته: "ظننت أن خطة سيناء مؤكدة النجاح إلى درجة أنني ما عدت أفكر بشراء مدفن للعائلة في مقبرة "دوبلينغ" حيث والدي مدفون مؤقتًا، والآن اعتبر المشروع،  سيناء، فاشلاً إلى درجة أن اتصلت بالمسئولين وساشتري المدفن".

سيناء: الحلم الصهيوني يتجدد

على الرغم من فشل مشروع هرتزل لإقامة مستوطنات يهودية في سيناء في مطلع القرن العشرين، بغرض أن تكون هذه المستوطنات بداية حقيقية لإقامة الوطن القومي لليهود والدولة الصهيونية الجديدة، إلا أن الحلم الصهيوني في سيناء لم ينقطع أبدًا. ففي تلك الأثناء حدثت مشكلة الحدود ما بين مصر والدولة العثمانية، هذه المشكلة التي عُرفت بعد ذلك باسم "مشكلة طابا الأولى" تمييزًا لها عن مشكلة طابا الأخيرة التي حدثت بين مصر وإسرائيل من أجل ترسيم الحدود، إذ تأزمت العلاقات المصرية العثمانية في عام 1906 بسبب رغبة الدولة العثمانية في مد نفوذها إلى خليج العقبة لتأكيد سيطرتها على المشرق العربي، ومناؤة الوجود البريطاني في مصر، استعدادًا للحرب العالمية الأولى التي حدثت عام 1914. وكانت بريطانيا، التي تحتل مصر آنذاك، ترى ضرورة تحجيم الدور العثماني في مصر، والانتصار لوجهة النظر المصرية بتبعية طابا إلى السيادة المصرية لا إلى السيادة العثمانية. وانتهت هذه المشكلة بنجاح الضغوط البريطانية ـــ المصرية على استانبول وترسيم الحدود المصرية العثمانية.

من هنا تجددت أحلام المشروع الصهيوني في الاستيطان في سيناء، إذ ظن الصهاينة أن استقرار واطمئنان السياسة البريطانية في مصر سيكون عاملاً هامًا في الضغط على الحكومة المصرية، وأن بدايات الصراع البريطاني العثماني سوف تكون محفزًا يُشجع بريطانيا على إقامة مستوطنات يهودية حاجزة في سيناء من الممكن أن تكون مخلب قط في مواجهة الدولة العثمانية في فلسطين.

وعلى هذا عادت المشاريع الصهيونية من جديد لتشجيع الاستيطان في سيناء، وكان من أهم هذه المشاريع مشروع كنزفيتش (1908- 1912)، والكسندر كنزفيتش هو إنجليزي يهودي كان بمثابة وكيل القنصل البريطاني في غزة. من هنا بدأ مشروعه الاستيطاني بمحاولة شراء الأراضي في مدينة رفح المصرية، ثم تقدم بمشروعٍ متكامل إلى المعتمد البريطاني في مصر آنذاك "جورست"، في محاولةٍ للحصول على دعم بريطانيا في شراء اليهود للأراضي على الحدود المصرية العثمانية. لكن جورست عاد ليؤكد مجددًا نفس الرد الذي انتهى إليه المعتمد البريطاني السابق كرومر بالنسبة لمشروع هرتزل؛ بأن هذا المشروع الجديد لا يمكن تحقيقه في الظروف الحالية. ولم تصب خيبة الأمل كنزفيتش فاستمر في عمليات شراء الأراضي في المناطق الحدودية بين مصر وفلسطين، على أمل أن تكون هذه الأراضي هي نقطة الانطلاق للدولة الصهيونية الوليدة. ويرجح البعض بأن كنزفيتش قد نجح في نهاية عام 1911 في شراء حوالي عشرة آلاف فدان بهدف جذب المستوطنين اليهود إليها.

وقد أثارت هذه العمليات المريبة في شراء الأراضي من جانب اليهود الريبة والشك في الأوساط المصرية والبريطانية وحتى العثمانية في استانبول. ففي عام 1912 يرسل "كتشنر"، المعتمد البريطاني، رسالة إلى وزارة الخارجية البريطانية يشير فيها إلى رفض الحكومة المصرية المستمر لعمليات الاستيطان في سيناء، وإلى أنه نفسه قد أبلغ كنزفيتش أن شراء اليهود للأراضي قرب الحدود المصرية الفلسطينية هو أمر غير شرعي، وأن اجراءات الشراء لا يمكن تسجيلها قانونيًا. وفي استانبول يرسل القائم بالأعمال في السفارة البريطانية هناك رسالة إلى لندن مفادها عدم قانونية شراء كنزفيتش للأراضي على الحدود، وأن هذا الأمر يحرج الحكومة البريطانية. وفي رسالةٍ تالية تطالب السفارة البريطانية في استانبول السلطات المختصة بايقاف شراء الأراضي لصالح اليهود على الحدود الفلسطينية المصرية، نظرًا لحساسية هذا الأمر على المستوى الدولي، ومنع إنشاء مستوطنات قرب الحدود المصرية العثمانية.

من هنا تجمعت كل العوامل الدولية والمحلية لإفشال مشاريع الاستيطان اليهودي في سيناء؛ فبالنسبة لمصر انتبهت الحكومة المصرية مبكرًا لخطورة بيع الأراضي في المناطق الحدودية وأصدرت قرارات بتحريم تملُّك الأراضي في هذه المناطق بالنسبة للأجانب، وعدم جواز انتقال حق الانتفاع إلا بموافقة وزارة الحربية لحساسية هذه المناطق وتبعيتها لشئون الحدود، بل إنها اشترطت حتى لتملك المصريين أنفسهم العقارات والأراضي في تلك الجهات الحدودية، ضرورة الحصول على إذن من وزير الحربية. وبالنسبة لبريطانيا لم ترحب كثيرًا بفكرة إنشاء مستوطنات في سيناء، لأنها أدركت أن ذلك سيزيد من تعقيدات الأجواء الدولية، لا سيما وأن العالم آنذاك كان يعيش على دقات طبول الحرب العالمية الأولى. فضلاً عن محاولة بريطانيا إبعاد أي توتر عن منطقة قناة السويس التي أصبحت منطقة استراتيجية بريطانية، خاصةً مع هبوب رياح الحرب العالمية الأولى. وبالنسبة لاستانبول كانت مواجهة مشاريع الاستيطان اليهودي قد أصبحت الورقة الأخيرة في يدها لتأكيد سيادتها ونفوذها في المشرق العربي، وخاصةً في فلسطين، وتجميل وجهها أمام العرب والعالم الإسلامي.

وهكذا مُنيت جميع مشاريع الاستيطان اليهودي المبكرة في سيناء بالفشل نتيجة يقظة الحكومة المصرية، وتعقيدات السياسة الدولية. لكن الحلم الصهيوني في سيناء لن ينتهي بل سيأخذ أبعادًا جديدة بعد صدور وعد بلفور (1917) بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين. وعلى الرغم من تركز الجهود الصهيونية منذ ذلك الحين على فلسطين لإقامة الوطن القومي والدولة اليهودية، إلا أن سيناء ستظل جزءًا من الحلم الصهيوني بدولة إسرائيل الكبرى، إذ لن تنسى إسرائيل أبدًا أن سيناء، وفقًا للعقيدة الصهيونية، هي "فلسطين المصرية".

 

 

·        أستاذ ورئيس قسم التاريخ بكلية الآداب، جامعة القاهرة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟