لقد حقق الشعب المصري باستفتاء14-15 يناير واحدا من أعظم الاستفتاءات في تاريخه الحديث كميا وكيفيا;
فلم يسبق لهذه الملايين العديدة الممتلئة بالحماسة والإصرار علي صياغة مستقبل أفضل لها. لقد أدركت أن الدستور الأخير يحقق لها من أحلام العدل الاجتماعي والتقدم الاقتصادي والمساواة في الحقوق والواجبات, فضلا عن لوازم الدولة المدنية الحديثة, ما يعينها علي الانتقال من مصاف الدول المتخلفة إلي مصاف الدول المتقدمة. وقد كان أول ما تلحظه العين المتابعة لوقائع هذا الاستفتاء بواسطة شاشات التليفزيون- علي امتداد مصر- هو أن نسبة كثافة الحضور النسائي تزيد علي نسبة كثافة الحضور الرجالي. لقد كان آخر إحصاء سمعته من متابعة النتائج بعد منتصف ليل اليوم الأخير- هو أن نسبة حضور النساء تجاوز55%. وهي ظاهرة لافتة, خاصة في تنوعها الذي جمع بين فتيات شابات, وربات بيوت, وأمهات حملن أطفالهن معهن, ونساء صحبن أزواجهن, ومسنات بعضهن دخل علي كراسي طبية تشي بعجزهن عن الحركة الطبيعية, ولكنهن أصررن علي الحضور والإدلاء بأصواتهن, تعبيرا عن أملهن في مستقبل واعد لبلادهن, وإيمانهن بضرورة أداء كل مواطن لواجبه في التعبير عن صوته. أما نسبة كثافة الحضور الذكوري فإنها دالة علي كل المستويات, سواء في التنوع العمري, أو التباين الطبقي, أو الاختلاف الوظيفي, أو التباين الجغرافي. وكانت البسمة التي تعلو الوجوه, ومظاهر الفرح والاحتفال الشعبي التي أعقبت الاستفتاء وأحاطت اللجان تعبيرا عن تحد شعبي لفلول الإخوان الإرهابية التي حاولت قمع الجماهير والحيلولة بينهم والإدلاء بأصواتهم, تخويفا وترويعا, فكانت النتيجة المزيد من الإصرار علي أداء الواجب الوطني, والخروج الشعبي الباهر لمواجهة التحدي.
مؤكد أن نسبة الذين أدلوا بأصواتهم هي الأعلي في تاريخ مصر الحديثة, فيما يقرب من نصف عدد الذين لهم حق التصويت في الوطن قد ذهب إلي الاستفتاء, وظني أن نسبة الذين قالوا: نعم, سوف تكون بمثابة صدمة مفرحة, فأنا أكتب المقال قبل إعلان النتيجة, لكن كلي ثقة مما سمعته وشاهدته علي شاشات التليفزيون أن نتائج الذين قالوا: نعم, سوف تكون باهرة, وباعثة علي المزيد من الثقة في هذا الشعب القادر علي التحدي ومواجهة كل الصعاب, ما ظل علي ثقة بالهدف الذي يتوجه إليه.
ويقيني أن ملايين كثيرة من الذين خرجوا إلي الاستفتاء, خرجوا من أجل الفريق عبد الفتاح السيسي وحبهم له, وهو أمر مقرون بحبهم لجيشهم الوطني وتقديرهم له, وإيمانا منهم بأن هذا الجيش هو درع الوطن وسيفه, وأنه عماد الدولة الوطنية وجوهرها منذ تأسيس هذه الدولة في عصر محمد علي الذي جعل من جيش مصر الذي هو من أبناء مصر عماد الوطن ووتد خيمته. ولم تشعر هذه الملايين العديدة التي حملت صورة السيسي وأعلام مصر أنها تدعم ما أطلق عليه البعض-جهلا- حكم العسكر, وإنما تبدي اعترافها بجميل الذين أنقذوا الوطن وأنقذوا الشعب من براثن جماعة الإخوان المسلمين التي كان من أول أهدافها إلغاء معني الوطن والمواطنة. والفرحة التي علت وجوه المسيحيين دالة في هذا السياق, فهي علامة اطمئنانهم علي وطن ينتسبون إليه, وإشارة إلي مبدأ المواطنة الذي لا يمايز بينهم وغيرهم. ومن المصادفات الدالة أن اليوم الثاني للاستفتاء, كان ذكري ميلاد جمال عبد الناصر المولود في15 يناير1918, هذا الزعيم العظيم الذي عمل علي ترسيخ معني الوطن موصولا بالوطنية المصرية ومبدأ المواطنة علي السواء. ولقد كان جمال عبد الناصر الزعيم الوطني الذي حقق مبدأ مصر للمصريين فعلا لا قولا. وكان إيمانه بالمواطنة هو دافع صدامه الجذري مع جماعة الإخوان المسلمين التي استبدلت الخلافة بالوطن, والولاء لوهم أستاذية العالم بالولاء لمصر, وافتدائها بالعزيز الأكرم. وقد ترك لنا عبد الناصر أنجح علاج في القضاء علي جماعة الإخوان المسلمين الإرهابية, وهو بناء مشروع وطني يسهم فيه الجميع لتنمية مصر اقتصاديا وفكريا في آن; فكان يبني المدرسة وقصر الثقافة في موازاة المصنع, ويؤمن أن إعادة صياغة العقل والوجدان الجمعي هي الوجه الآخر من بناء قاعدة صلبة للعلم والصناعة, وذلك علي نحو يلازم بين تحديث التعليم وتحديث المؤسسات, والاهتمام بالشعب المعلم والانحياز للفقراء. وكلي ثقة أن الدرس الذي علمنا إياه عبد الناصر في مواجهة الإرهاب الديني بمشروع وطني شامل للتنمية والتقدم, يقوم علي العدل الاجتماعي, هو الدرس الذي ينبغي أن نفيد منه, ونبدأ منه بقدر ما نضيف إليه في مواجهة إرهاب الإخوان المسلمين. ولذلك لم يكن من المصادفة أن حس الجماهير القومي هو الذي جعلها تستعيد أغنيات الزمن الناصري الوطنية والقومية, وترفع صور السيسي إلي جانب صور عبد الناصر, كأنها تري في عبد الفتاح السيسي المولود سنة1954 صورة جديدة لعبد الناصر المولود سنة1918, ومغايرة التاريخ تعني مغايرة الزمن والشروط التاريخية والوعي باختلاف العصر في آن. لكن ما يصل بين الأصل والصورة هي الملامح الأساسية التي ترتبط بمعاني الوطن والوطنية والمواطنة, وهي المعاني التي لا تفارق نفس المبادئ الأساسية التي ينطوي عليها الوعي الجمعي للجيش المصري الذي يقوده الفريق عبد الفتاح السيسي الذي صار- مجددا- حبيبا للملايين التي حملت صورته, والتي علقت عليه آمالا عظيمة, وتلك مسؤولية ثقيلة, وعبء بالغ الصعوبة, أعان الله السيسي علي حمله, فقد أصبح موئل الذين أظلهم عبد الناصر بظله, وظلوا- بعد موته- كالأيتام في مآدب اللئام الذين زوجوا السلطة بالثروة زواجا غير شرعي.
والحق أنني لم أملك, وأنا في وسط المئات التي احتشدت طوابيرها الانتخابية في ساحة مدرسة الدقي الإعدادية, إلا أن أسأل نفسي قائلا: هل يصح وجود الحكومة القائمة بعد أن قلنا نعم لهذا الدستور؟. وقلت لنفسي مجيبا: إن إعلان نتائج الدستور الذي صوتنا عليه بنعم, هي شهادة وفاة لهذه الحكومة العاجزة بطيئة الإيقاع عديمة الخبرة. مؤكد أن فيها بعض الوزراء الأكفاء. لكن للأسف, البقية لا تقل عجزا عن رئيس الوزراء الذي لا أزال أري في تعيينه خطأ فادحا لابد من تصحيحه. ومن المؤكد أن الأعباء التي يلقيها الدستور الجديد علي الحكومة هي أعباء صعبة لا ينهض بها سوي ذي العزم من الأشداء الأقوياء. وأن يعرف أولو الأمر أننا في حاجة إلي حكومة حرب وبناء في آن; فقد ترك الحزب الوطني برئاسة مبارك, وجماعة الإخوان المسلمين من بعده آثار الدمار والتدمير في كل جزء من بناء الدولة ومرافقها ومصالحها ومؤسساتها, ولذلك نحن في حاجة إلي حكومة حرب; حرب مع الفساد, وحرب مع العجز والبيروقراطية والجهالة, وحرب لا هوادة فيها مع الإرهاب الذي لا ينفع معه التردد أو الضعف أو الخمول الذي تتمتع به الحكومة الحالية. وإذا كانت مرحلة البناء القادمة هي مرحلة القضاء علي كل ما يعوق أحلام الفقراء الذين كانوا الأغلبية التي قالت: نعم للدستور الجديد, فإن قوة هؤلاء سوف تتحول في المرحلة القادمة إلي صوت لا يعرف الصمت أو المهادنة أو الخنوع علي أي مماطلة في تحقيق آمالهم وأحلامهم. وصدقوني, سيصبح تولي المناصب في الدولة, بعد إعلان نتيجة الاستفتاء, عبئا ومسؤولية لابد أن يبتعد عنها كل من يريد الوجاهة أو أبهة المنصب. وإن غدا لناظره قريب.
نقلا عن الأهرام