طالب بعض القراء في تعليقهم علي مقالاتي السياسية بالتسامي علي الانقسام السياسي الحاد الراهن والتطلع إلي بناء النهضة في مصر, وتقديم مقترحات تمهد له, وهو طلب اجده محببا إلي نفسي وقلمي.
في هذا المقال الطويل ألبي هذا الطلب بالدعوة إلي ما اعتبره الباب الأوسع لإقامة النهضة في مصر بتأسيس مجتمع المعرفة الذي يقوم علي الثروة الأهم في مصر, أي البشر الأحرار العارفين والمبدعين كما كان دأب مصر عبر التاريخ من خلال ما يعرف بالقوة الناعمة القائمة علي الابتكار والإبداع. وهو نهج يتعارض جذريا مع ما دأبت عليه الحكومات المصرية منذ قبل قيام الثورة الشعبية العظيمة من سياسات اقتصادية عقيمة قوامها التركيز المفرط علي المال, وجمعه لإنفاقه في الأساس علي حاجات آنية ولو من خلال الاقتراض والاستجداء, الذي لا يقيم تنمية حقة ولكن يرهن مستقبل الأجيال القادمة بسداد القروض وفوائدها, ما قد يسفر عن كوارث تاريخية, ليس فقط في استمرار ضعف الاقتصاد ولكن بتهديد الاستقلال الوطني ذاته, كما عانت مصر فعلا في حقب سابقة.
الغاية من هذا المقال إذن هي الحث علي وضع خطة تفصيلية قابلة للتنفيذ لنقل مصر من الاعتماد علي المال, المقترض والمستجدي من الخارج, إلي تأسيس الاقتصاد القائم علي المعرفة ومن ثم مجتمع المعرفة في مدي زمني محدد, ليكن بحلول العام2025 مثلا. علي سبيل التمهيد النظري, نبدأ بالنظر في تطور مفهوم الثروة وعلم الاقتصاد.
في الإطوار البدائية للبشرية كانت القيمة أو الثروة تقاس بامتلاك المعادن النادرة والأحجار الكريمة( ذهنية مغارة علي بابا). ثم تطورت هذه الذهنية البدائية إلي تراكم المال بعد اكتشاف النقود واعتبارها مخزنا للقيمة. عندما تبينت مثالب هذا المنطق المادي السقيم توصلت الإنسانية مؤخرا إلي اعتبار الحرية( بمفهوم شامل يمتد من حرية الوطن إلي حرية المواطن) والمعرفة( قيمة المرء والمجتمع فيما ينتج من معرفة, شاملة المعرفة المضمرة في الإبداع الأدبي والفني) مضمون التنمية الإنسانية الأساس. وتبعا لذلك تطور مضمون علم الاقتصاد من دراسة القنص والحفر(الاستخراج) والمقايضة بعد عصر النقود, إلي التراكم المالي للإنتاج والإنفاق- ولكنه انتهي الآن إلي التركيز علي اكتساب المعرفة وإنتاجها. لذلك فإن أضيق تعريفات الاقتصاد في الوضع الراهن لتطور العلم هو الاقتصاد النقدي والمالي ويركز علي التبادل التجاري للسلع مقابل النقود. وأوسع منه مفهوم الاقتصاد الحقيقي الذي يعني بمسائل الإنتاج وتأثير النشاط الاقتصادي علي البشر, تعليما وصحة وتشغيلا ومستوي الرفاه الإنساني( وفيه تكتسب قضايا الخدمات و البطالة والفقر أهمية خاصة). إلا أن المبدأ الغالب في علم الاقتصاد الآن هو أن كل اقتصاد يتطور وصولا إلي الحالة الأرقي: اقتصاد المعرفة.
في اقتصاد المعرفة يتسع نطاق علم الاقتصاد ليشمل ما يسمي الاقتصاد الحقيقي الذي يعني بكل ما يتعلق بعلاقة الكائن البشري بالاقتصاد وتزداد فيه أهمية مسائل التعليم والعمل ومستوي المعيشة والرفاه الإنساني عامة بما في ذلك الحرية. وفي التعريفات المحدثة لعلم الاقتصاد يكتسي اكتساب المعرفة أهمية خاصة فيما يسمي علم اقتصاد المعرفة, حيث يعتبر اقتصاد المعرفة مآل تطور أي اقتصاد يتقدم, بما في ذلك الاقتصاد العالمي, ومنتهي تقدمه. ولقد زاد الاهتمام بعلم اقتصاد المعرفة وتتكاثر الأدبيات العلمية حول الموضوع بسرعة فائقة حتي أصبحت له دورية علمية متخصصة.
علي التحديد يهتم اقتصاد المعرفة بتوظيف المعرفة لإنتاج مقومات الرفاه الإنساني. ويعود صك المصطلح إلي بيتر دراكر كعنوان الفصل الثاني عشر في كتابه عصر الانكسارات(1969) وهو يرجعه إلي الاقتصادي فريتز ماخلوب, ويرجع بداياته إلي فكرة الإدارة العلمية التي طورها فردريك تايلور. ويعد اقتصاد المعرفة تطويرا لأفكار سابقة مثل مجتمع المعلوماتية, وتتطلب النقلة إليه التكيف مع اقتصاد عالمي تشكل فيه المعرفة والإبداع موردا لإنتاج مقومات الرفاه الإنساني لايقلان أهمية عن الموارد الاقتصادية الأخري وقد يبزانها.
أما مجتمع المعرفة فهو المجتمع الذي الذي تقوم جميع النشاطات فيه علي توظيف المعرفة وتطبيقاتها, ويستهدف المساهمة في تطور البشرية من خلال إنتاج المعرفة المستحدثة. ماهي مبررات التحول إلي مجتمع المعرفة كسبيل للنهوض؟
لقد مضي, إلي غير رجعة, العهد الذي كانت تقاس فيه ثروات الأمم بكنوز المعادن النفيسة والأحجار الكريمة أو ركاز الأرض من المعادن غيرها. وبالمثل, يتراجع بسرعة تحديد مستوي التقدم البشري بدلالة التراكم المالي, ويوشك عصره علي أن ينقضي. بالمقابل, يستقر بإطراد أن اكتساب المعرفة, لاسيما إنتاجها, هو المعيار الأساس لتقدم الإنسانية. وهذا هو المعيار المحوري للتقدم الإنساني المتبني هنا. عندما قدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي, في العام1990, مفهوم التنمية البشرية كتصحيح واجب للفكر التنموي المتمركز حول النمو الاقتصادي السائد حينها, تبوأت المعرفة مكانة حجر زاوية في الفكر الجديد.
وفي العام1999, أصدر البنك الدولي تقريره السنوي عن التنمية في العالم تحت عنوان المعرفة من أجل التنمية. وفي هذا التقرير, أقر البنك بأن الفجوة في المعرفة, وليس في الدخل, أصبحت هي المحدد الرئيسي لتقدم الأمم, وأكد أن الفجوة في القدرة علي اكتساب المعرفة, بين الدول النامية والمتقدمة, أوسع من الفجوة في المعرفة ذاتها. كما شدد التقرير, في ابتعاد ملحوظ عن اقتصاديات الحرية الاقتصادية المطلقة, علي الحاجة إلي الدعم النشط من قبل الدولة, والتجمعات الإقليمية من الدول, لجهود اكتساب المعرفة حيث يشتهر سوق المعرفة بالفشل, بمعني أن حافز الربح لا يكفي وحده لتنشيط إنتاج المعرفة فتبقي احتياجات الفقراء, والضعفاء عامة, من المعرفة غير مشبعة( البنك الدولي,1999/1998).
ويسجل التاريخ أن ازدهار الحضارة, وصنوه رفعة اللغة القومية, ارتبط في هذه البقعة من العالم, كما في باقي بقاع العالم, بالقدرة المتميزة في مضمار اكتساب المعرفة, تماما كما ترافق تدهور المنطقة حضاريا في القرون السبعة الماضية مع انحطاط القدرات المعرفية. ولعل هذا قانون إنساني عام: الموقع من اكتساب المعرفة يحدد قيمة الأمة, صعودا وأفولا. والبشر هم معين المعرفة ووعاؤها, وما غير ذلك من إدعاء يربط التوصل للمعرفة باقتناء أدوات وآلات من ثمار التقانات الأحدث المستوردة ليس إلا محض هراء ينم عن جهل بحقائق الأشياء.. ونستكمل النقاش الأسبوع المقبل..
نقلا عن الأهرام