الخطأ الفكرى خطأ فى فهم الواقع الاجتماعى التاريخى أو فى تأويل النص المقدس, ولما كان الفهم و التأويل فى النهاية وجهات نظر فإنها تحتمل الخطأ والصواب,
ولعلنا لا نبالغ إذا اعتبرنا أن هذا النوع من الخطأ يعد بالفعل سنة من سنن الكون لم تتوقف قط منذ كان الإنسان، وأن الخلاف فى الرأى حيث يتبادل الطرفان أو الأطراف تخطئة و جهات نظر بعضهم البعض من خلال الحوار العلنى المتبادل, يعد دليلا على حيوية المجتمع وبشيرا بتقدمه خاصة فى مجالات السياسة والدين والعلم, بحيث يحترم كل الآخر وينصت إلى رأيه ويجادله, فإذا ما تبين لأحد الأطراف خطأ استدلاله لم يجد حرجا فى الاعتذار, وإذا أصر كل على رأيه لم يفقد أيهما احترامه للآخر.
ويبدأ تحول خطأ الفكر إلى خطيئة الإرهاب عبر منطقة رمادية يبلغ عندها الاقتناع بالفكرة درجة اليقين المطلق ومن ثم شيطنة من يختلف معها باعتباره مختلا أو مغرضا وأنه لا سبيل و لا جدوى من محاورته, وعندها يتحول يقين المرء بصواب فكرته ووضوحها إلى اعتبار الاختلاف معها تحديا له و احتقارا لشخصه ولأفكاره واستفزازا لمشاعره. ويكون الرد التلقائى هو محاولة إفناء الآخر.
و إذا كان العلاج الناجع و الوحيد لأخطاء الفكر هو الحوار و تفنيد الأفكار، فكيف تكون المواجهة مع خطيئة العنف الإرهابي؟ إننا كثيرا ما نقع فى منزلق مؤداه أنه ما دام الآخر يرى نفسه محتكرا للحقيقة مبادرا للعنف والإرهاب؛ فليس أمامنا سوى التوقف فورا عن الحوار والرد على العنف بعنف أشد لتبدأ دائرة مفتوحة من العنف المتبادل فى دوامة لا تنتهى حتى لو انتصر أحد الأطراف بحكم موازين القوي, فالنصر فى هذه الحالة لا يعدو أن يكون نصرا مؤقتا, حيث إن ذلك العنف المضاد يقف على نفس الأرضية الفكرية؛ إذ يتطلب بدوره يقينا مطلقا بتجريم الآخر، وبعدم جدوى الحوار معه، وبحتمية إقصائه ما لم يعدل عن أفكاره، باعتبار أن ذلك الفكر الخاطئ يؤدى تلقائيا إلى السلوك الإرهابي؛ وذلك ليس صحيحا بصورة مطلقة من الناحيتين العلمية الواقعية.
إن عقاب أصحاب خطيئة العنف أمر طبيعى وضرورى وصحي, فليس مقبولا ولا ممكنا أن نربت على أكتاف من يحملون المدافع الرشاشة فى مواجهة الآمنين، ولكن تلك المواجهة الحتمية العنيفة لا ينبغى قط أن توقف الحوار الفكري, وبكل شروطه بما فيها شرط الاحترام، و بحيث يقتصر العقاب على من أجرم وأن يشمل الحوار العلنى المتبادل أفكار الجميع دون استثناء.
لقد سقط وإلى الأبد وهم إمكانية حجب الأفكار مهما تكن إدانتها لها، ومهما تضمنت تلك الأفكار من دعوات للعنف والإرهاب والخروج على القانون وعلى صحيح الدين؛ إن إغلاق الوسائط الإعلامية المتطرفة لم ولن يقضى على ما كانت تبثه من أفكار؛ بل لعل ذلك الإغلاق يزيد من انتشار أفكارها؛ فعالم الاتصالات قد أصبح كونيا متخطيا لكل الحدود، وأفكار أولئك الذين يمارسون الإرهاب بكل صوره ستظل موجودة موثقة وثمة من يتبنونها ممن لم يمارسوا عنفا، ولكنهم على استعداد للدفاع الفكرى عنها وتبريرها أو تفسيرها على الأقل، أما الاكتفاء بإدانة تلك الأفكار وتفنيدها فى غيبة من يدافعون عنها يفقد تلك الإدانة مصداقيتها.
لقد انزلق الكثير من المفكرين إلى تبرير التعذيب وترويع الآمنين وارتكاب جرائم الإرهاب والاغتصاب وغيرها بدعوى أن من يقدمون على ذلك إنما يضطرون إليه بحكم ظروف لا يستطيعون لها دفعا. إن النظر مثلا إلى التعرض للإغراء باعتباره ضمن مسببات ارتكاب جريمة الاغتصاب, أو النظر إلى تعسف السلطة باعتباره ضمن دوافع الإقدام على بعض جرائم الإرهاب, أو النظر إلى الإرهاب، باعتباره ضمن العوامل التى تشجع على ارتكاب جرائم التعذيب؛ كل ذلك قد يكون مقبولا إذا ما وقف الأمر عند حدود التفسيرات القابلة للنقاش, و لكن شيئا من ذلك لا يجوز الاستناد إليه لتبرير ارتكاب الجرائم. فلا يجوز تبرئة المغتصب بدعوى تعرضه لغواية الإغراء, كما أنه ليس مقبولا تبرير التعذيب بدعوى حماية الأمن القومى، أو تبرير الإرهاب بأنه إعلاء لراية الدين.
خلاصة القول: من حقنا جميعا أن نحاول وأن نخطئ؛ ومن واجبنا أن نتمسك بذلك الحق دون خوف أو وجل, وأن نميز بين العقاب العقلانى والانتقام الانفعالى متمسكين بإصرار بمبدأ عقلانية العقاب حيث تنصرف الإدانة إلى تجريم الفعل دون أن تنسحب إلى استئصال الفاعل, وأيضا دون أن تنكمش بحيث يصبح شيئا مباحا؛ وأن يظل الحوار هو السلاح الوحيد الفعال للتعامل مع الأفكار
نقلا عن الأهرام