المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

خطيئة العودة للأصل: قراءة جديدة في نظرية سايكس بيكو العراق نموذجاً

الأربعاء 10/ديسمبر/2014 - 10:47 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
توبي دودج

سعى صنّاع القرار والصحفيون والمتخصصون إلى فهم أسباب احتلال جماعة داعش للموصل في العاشر من يونية 2014 ومواصلتها السير تجاه بغداد وانهيار الجيش العراقي حين واجه تقدمها. ولعل أسلوب فهم هذه الأزمة المتسارعة كفيل بتحديد استجابة قادة كل من العراق، والشرق الأوسط في عمومه، والنظام الدولي؛ ولن يسهم فقط في تحديد الاستجابة العسكرية المبدئية، بل والأهم صياغة السياسات طويلة الأجل التي تهدف للوقوف على الأسباب المؤسسة لنشوء الجماعة واحتلالها لمناطق في العراق وسوريا.

إن التفسير الشائع للنجاح العسكري اللافت للنظر لداعش يعود بنا لاتفاقية سايكس بيكو، الاتفاقية السرية التي تفاوض فيها الدبلوماسي البريطاني مارك سايكس مع نظيره الفرنسي فرانسوا جورج بيكو في مايو 1916. فلقد أصبحت حكاية الاتفاقية في الشرق الأوسط العربي نظرية تصف التأثير المخادع للسلطة الاستعمارية الفرنسية والبريطانية أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. وهي تشير داخل الخطاب السياسي العربي لكل من غزو بريطانيا للشرق الأوسط وقت الحرب، والمحاولات المستترة للحفاظ على السيطرة في الأراضي العربية بعد الصراع بتقسيم المنطقة لبلاد مستقلة. ولهذا، بعد الاستيلاء على الموصل مباشرة، أرسلت داعش صورا للمقاتلين يسقطون الحواجز الموجودة بين العراق وسوريا. ونرى في إعلانهم عن "إسقاطهم لحدود سايكس بيكو"، محاولة لنيل الدعم العربي لحركتهم بدعوى تغيير ميزان الظلم التاريخي.

وبفضل ما تحظى به الاتفاقية من سمعة سيئة، ليس مدهشا لنا أن نرى السياسي الدرزي اللبناني وليد جمبلاط يعلن سقوطها في يونية، بل وتمادى بأن أهدى حسن نصر اللـه، زميله وقائد حزب الله، كتابًا يفسر أصل الاتفاقية. بل من المخيف أن يقوم الأكاديميون وكبار رجال الدولة بالاستعانة أيضا بالاتفاقية في تفسيرهم لأزمة العراق والشام. ولعل تصوير الاتفاقية كحافز لتاريخ الشرق الأوسط لا أساس تحليلي ولا إمبيريقي له. فهو تصوير مستمد من لحظة مختصرة في الزمن، موظفا لقطة لا تمثل الديناميات الاجتماعية والسياسية المتمكنة في المنطقة أثناء الحرب العالمية الأولى وبعدها. هذا التعامل الرديء مع التاريخ قد يقود لروشتة علاج هشة في العمل السياسي.

وكما هو مبين في الكتاب الذي أهداه جمبلاط لنصر اللـه، توصل سايكس وبيكو بالفعل لاتفاقية سرية ستسمح للفرنسيين والبريطانيين بتقسيم الشرق الأوسط لمناطق نفوذ مستقلة عن بعضها بعد الحرب.
إن أسباب سرعة سقوط الجيش العراقي هو لب المشكلات التي تواجهها الدولة ككل. أولها، فقد تضررت القوات المسلحة من الفساد العام المستشري في العراق.

كان هذا يمثل ذروة الطموح الإمبريالي لبريطانيا وفرنسا، وتفاؤلهما بشأن ما ستنتهي إليه الحرب. ومع ذلك، كانت مصداقية الاتفاقية موضع شك وقتها، مع قيام رئيس المخابرات العسكرية البريطانية بالربط بين منشئيها و"الصيادين الذين قسّموا جلد الدب قبل صيده".

إن الفرضيات التي تأسست عليها الاتفاقية حاصرتها الأحداث سريعًا سواء على الأرض أو داخل النظام الدولي. فلقد غيرت الحكومة البريطانية من سياستها جذريًا تجاه الشرق الأوسط مرتين، الأولى عام 1917 والثانية في عام 1918. بل وأعلن سايكس نفسه، مع حصول الثورة الروسية والتدخل الأمريكي في الحرب، بأن "مصطلحات كالإمبريالية، والضم، والانتصار العسكري، والمكانة، وأعباء الرجل الأبيض، قد انمحت من القاموس السياسي الشعبي، وبالتالي فكلمات مثل المحميات، ومناطق المصلحة والنفوذ، والمناطق الملحقة، والأسس، لابد أن ترسل لحجرة المهملات الدبلوماسية."

إن الأوضاع المستقرة فيما بعد الحرب التي أنشأت غالبية الدول في الشرق الأوسط ذات صلة واهنة باتفاقية سايكس بيكو. والأحرى أنها نتاج سلسلة من مؤتمرات السلام والاجتماعات التي أعد لها النظام العالمي الذي غيرته الحرب. هذا التحول نتج عن جيشان القومية العربية؛ وقيام دولة تركية موحدة من حطام الإمبراطورية العثمانية؛ ودخول أمريكا الحرب، والثورة الروسية، والانهيار الدرامي اللاحق في قوة الدولة الفرنسية والبريطانية.

يبين التعامل الرديء مع اتفاقية سايكس بيكو لتفسير نشوء داعش المخاطر المتأصلة في توظيف التماثل التاريخي في تحليل الأحداث المعاصرة. فالاستعانة بنظرية الاتفاقية قد يعطي للمعلقين القشور، لكنها قد تشجعهم أيضا على رؤية الأزمة الحالية رؤية لها خصوصيتها وإن كانت غير دقيقة. فهذه المحاولات الرامية لفهم السياسة في الشرق الأوسط قد تؤدي إلى رؤية ثابتة لمجتمعات المنطقة طوال القرن الفائت. فهي أولا، تدين الدول التي نشأت بعد الحرب باعتبارها زائفة، نتاج مؤامرات خارجية كتب لها الفشل. والمحصلة لهذا الفهم هي : أن هذه البلاد الزائفة لا يدين أهلها لها بالولاء، ولذلك فهي أصل المشكلة؛ فينبغي أن تستبدل بوحدات أصغر، وأكثر تماسكا، من شأنها أن تنال من مواطنيها الولاء المطلوب. بل وإن الفحص الحذر لخريطة العالم سيشكك في هذا الفهم. فغالبية البلاد التي تشكل النظام العالمي هي نتاج الغزو الإمبريالي والنضال اللاحق من أجل تقرير المصير. وبمقتضى ذلك، لم تعلن مناطق أي دولة مستقلة بأي طريقة كانت عن تمردها مع رحيل المستعمر.

والنتيجة التحليلية الثانية لاستخدام نظرية سايكس بيكو أكثر ضررا. فحين تلغَى مصداقية وشرعية دول الشرق الأوسط ونفوذها، يتم السعي للبحث عن دينامية أو مبدأ تنظيمي بديل، أي الهوية الدينية للسكان. فمع اعتبار الإيمان العامل الرئيسي في الشرق الأوسط، الجوهر الثابت الذي هو الأصل، يرتكب أنصار نظرية سايكس بيكو خطيئة "العودة للأصل". هذا التحليل ينفي تسجيل التحول المستمر تقريبا الذي عاشته المنطقة منذ عام 1916، ويؤدي إلى القول بأن مجتمعات الدول المستقلة متجانسة جغرافيا، وفي تعادي متبادل، وواقعة في فخ بلاد مزيفة يسيطر عليها أقلية. وهو تحليل يقود لرؤية تقول بأن الحروب الأهلية في العراق وسوريا حروب مأساوية لا يمكن تجنبها تنبع من السياسات الإقليمية التي تجد عداوة جماعية عميقة. ومن ثم تجعل نظرية سايكس بيكو من الدين لا الدولة محور تحليل السياسة وصياغتها. ومن ثم يمكن مقارنة ما يجري بالشرق الأوسط اليوم بالحرب الدينية التي اندلعت ثلاثين عاما في أوربا بالقرن السابع عشر، وفسرت الأزمة الحالية باعتبارها صراعا بين القبائل والطوائف الدينية.

إن المعاينة المستمرة والتفصيلية لدول الشرق الأوسط، وبالذات العراق وسوريا، تبين تعقد تطورها تعقدا شديدا على غير ما تذهب نظرية سايكس بيكو، كما توضح مرور التوجهات المجتمعية تجاه الدولة عبر عدة مراحل. فقد تغيرت الهويات السياسية بالمنطقة؛ والدين فيها هو الموضوع الرئيسي حقا، لكنه مطبوع بطوابع قومية مرتبطة ومحددة بالحدود الجغرافية للدول.

أولا- دولة العراق بعد تغير النظام

حين نطبق نظرية سايكس بيكو على العراق، تقودنا إلى تحليل شديد الصرامة لمشكلات البلد، ومن ثم تقودنا لجملة من الحلول المضللة. فبدلا من نقد نشوء الدولة بفعل التدخل الخارجي، وهيمنة الهويات الدينية، ينبغي على هذه الحلول أن تركز على أسباب ضعف العراق منذ سقوط النظام عام 2003، وعلى سبل إصلاح الدولة العراقية التي تحافظ عليها مستقبلا.

إن الدراسة المقارنة للدول الحديثة تدلل على أن استمرارها معقود لا على نشوئها بأيدي أبنائها أو بفعل التدخل الخارجي، بل على قدرتها على أداء وظائف ثلاث. أولاها قدرة الدولة على القهر وضبط أنشطة مواطنيها. هذا معناه على المستوى الخارجي قدرة الدولة على الدفاع عن حدودها، مستغلة قواتها المسلحة لتدفع عنها هجوم الدول الباغية عليها أو الطالبة لاحتلالها. وفي عالم ما بعد عام 1945، الذي قامت فيه الأمم المتحدة والقانون الدولي بالاعتراف الشرعي بل والفعلي بالحدود المخططة حاليا، أصبح مهما للغاية أن تستخدم الدولة قوتها للتحكم في أهلها، وللحفاظ على احتكار الاستغلال الجماعي للعنف داخل منطقتها.

والمحور الثاني لاستمرار الدولة هو قوة بنيتها التحتية، التي تتمثل بتوفير الحكومة للخدمات وسلطة الحكم عبر عدد من المؤسسات التي تنتشر من العاصمة للسكان ككل. وقياس القوة والقدرة المؤسسية مسألة محددة، كما هو منعكس في درجة ممارسة البلد للعنف الذي لا تحرض عليه الدولة، وفي قدرة الحكومة على توفير الخدمات للأهالي مثل تنفيذ القانون، وتوفير الكهرباء والمياه.

غير أن من الصعوبة بمكان قياس المحور الأخير لاستمرارية الدولة: قدرتها الأيديولوجية، أو قدرتها على أن تجعل الأهالي يرونها شرعية. هذه الشرعية يمكن لها أن ترتبط أيضا بالقدرة على تقديم الخدمات. وبقدر اعتماد المواطنين في حياتهم اليومية على مؤسسات الدولة، يرون وجودها داخل المجتمع مسألة ضرورية. وإحدى صور هذا الاعتماد تسجيل الطلاب في مدارس الدولة، حيث يخضعون لدعاية الحكومة. والصورة الثانية هو وجود التلفزيون الذي يستغل كوسيط للترويج لشرعية الدولة.

هذه الشرعية مرتبطة ارتباطا وثيقًا بقدرة الدولة على ترسيخ أقدام الوحدة القومية والحفاظ عليها أو إنشائها داخل حدودها، وحدة تجمع الأهالي معا، وتربطهم بالطبقة الحاكمة. وعلى غرار استغلال المدارس والتلفزيون، يتحقق وجود الدولة أو يرفع علمها في الحياة اليومية للمواطنين عبر الوجود المؤسسي أو الإشارة له في الإعلام. وأخيرا، فإن تأكيد القوة الأيديولوجية يلفت الانتباه لدور الدولة في إنتاج واستغلال مجموعة من أساطير التأسيس التي تحدد صورة القومية ومأسستها.

ولعل فهم أسباب فشل بغداد في مواجهة تقدم داعش يتحقق بالنظر في الطرق التي انتهجتها الحكومات التي حكمت العراق منذ 2003، وقوضت بها كل محاور استمرار الدولة.

إن الأوضاع المستقرة فيما بعد الحرب التي أنشأت غالبية الدول في الشرق الأوسط ذات صلة واهنة باتفاقية سايكس بيكو.

فقد تسبب انهيار الجيش العراقي في أزمة دولة العراق بوضوح. فالقسم الثاني من الجيش هو السبب الأول للاستسلام للهزيمة أثناء اعتداء داعش على الموصل. وافتقد القسم الأول للواءين عسكريين حين حاول صد هجوم داعش على الفالوجة والرمادي في ديسمبر 2013. ولاحقا فقد لواءين في يونيو ويولية. واثنان من القسم الثالث فرّا أمام تقدم داعش؛ ونصف القسم الرابع اختفى، ويظن في تعرضه لمذبحة على يد داعش.

إن أسباب سرعة سقوط الجيش العراقي هو لب المشكلات التي تواجهها الدولة ككل. أولها، فقد تضررت القوات المسلحة من الفساد العام المستشري في العراق. واشتكى صغار الضباط من قيام موظفي وزارة الدفاع بطلب رشاوى قدرها ثلاثة آلاف دولار للحصول على موقع داخل أكاديمية تدريب الضباط، وسعر الترقي لرتبة جنرال تقدر بنحو ثلاثين ألف دولار. واسترداد تكاليف الترقي تؤدي إلى وضع الضباط "لكشوف مزيفة" – حيث يمدون وزارة الدفاع بأسماء جنود وهميين ويسلبون من الوزارة 25 % من ميزانية الرواتب السنوية - ويستولون على الأموال المخصصة لغذاء الجنود والمؤن. وتشير التقارير إلى أن الجنود يضطرون في الموصل لشراء احتياجاتهم من الأسواق المحلية ويطبخون طعامهم بأنفسهم. هذا القدر من الفساد واضح لجنود الصف الأول، يكبل أيديهم عند النزال فيما تضعف أخلاقهم ورغبتهم في الدفاع عن الدولة.

وبعيدا عن الفساد، انكسرت شوكة الجيش العراقي مع التدخل المباشر لنور المالكي في فترة عمله كرئيس للوزراء. فبعد تعيينه عام 2006، نجح في قلب حال الجيش، رابطا كبار القادة والوحدات العسكرية بشخصه، ومن ثم قوض التسلسل الرسمي للقيادة. فبني الجيش الجديد على عجل بحيث جاء تركيبه المؤسسي هشًا. وبفضل رؤيته السياسية استغل المالكي هذا الوضع واستعمل مجلس الوزراء لتحصين سيطرته على الجيش، والقوات الخاصة، والمخابرات.

وقد ضمن المالكي سيطرته على قوات الأمن العراقية عبر قيامه بإنشاء تنظيمين إضافيين: الأول، مكتب القيادة العامة للقوات المسلحة، الذي تصوره المستشارون الأمريكيون في الأصل كمنتدى متناسق يترأسه رئيس الوزراء. لكن الرجل سرعان ما أدرك أهميته، فقام برفع عدد أعضائه، وزيادة نفوذه، وحدود اختصاصه. وضمه لمكتب رئيس الوزراء وعين حليفا له ليقوم بإدارته. ثم بدأ المكتب في إصدار الأوامر مباشرة لقادة الحروب، مما قوض التسلسل الهرمي للقيادة. كما قام بمباشرة تعيين الضباط وترقيتهم.

والهيئة الثانية التي استغلها المالكي لإحكام سيطرته على قوات الأمن، تستلزم تعدد مراكز القيادة الإقليمية. إذ بعد وضع خطة أمن بغداد في فبراير 2007، أنشئت هيئة عمليات بغداد للتنسيق بين القوات العراقية في المدينة، بما فيها قوات البوليس والجيش. ثم أنشئت مراكز القيادة الإقليمية في مناطق مضطربة عبر جنوب ووسط العراق. مما استتبع خضوع البوليس والجيش لجنرال واحد في كل إقليم. ويتم اختيار الجنرالات والسيطرة عليهم من قبل مكتب بغداد الذي يقع تحت يد المالكي. ولذلك قامت مراكز القيادة الإقليمية بالالتفاف على قيادة وسيطرة وزارة الدفاع على الجيش، فخول ذلك للمالكي القدرة على تعيين وإدارة كبار القادة في المناطق ذات الحساسية الإستراتيجية. ومن اللافت للنظر أن الجنرالات المعينين لإدارة المراكز ارتبطوا سياسيا برئيس الوزراء وارتبطوا به شخصيا.

إن تسييس القيادات العليا للقوات المسلحة له آثاره السلبية الواضحة في سقوط القسم الثاني من الجيش في الموصل. وفي السابع من يونيو 2014، ذهب الجنرال علي غيضان وعبود قنبار داخل المدينة لمراقبة الحرب ضد داعش بشكل شخصي. وباعتبار أحدهما قائد قوات المشاة والآخر قائد العمليات المشتركة، استفادا من علاقتهما الوثيقة بالمالكي. ومع ذلك، مع تقدم داعش على الجيش في الموصل، ترك غيضان وقنبار المدينة على عجل، وفرا إلى إربيل ثم عادا أدراجهما إلى بغداد. وتداول الناس هربهما متنكرين في صورة مدنيين على الفور، مما قوض الالتزام بالدفاع عن المدينة.

وهكذا أوضح احتلال داعش للموصل هشاشة الجيش العراقي. في حين تقوض المحوران الآخرين لاستمرارية الدولة على مدار الستة أشهر الأخيرة. وإن الضرر الذي تسبب فيه الفساد المستقر في المؤسسات العراقية، هو نتاج نظام المحاصصة، الذي تطلب تقسيم حكومات الوحدة الوطنية المتشكلة في عام 2005، 2006 وعام 2010 إلى حصص طائفية. فمناصب الوزراء، ومنصبا رئيس الوزراء والرئيس، موزعة توزيعا طائفيا، خصصا بحسب عدد مقاعد كل حزب فائز في الانتخابات. وأصبحت قوائم وميزانيات الوزارات مخصصات الأحزاب الممنوحة لها، مما غلب الفساد السياسي والشخصي، وطبع الحكم بعدم التجانس.

إن مؤشر تصورات الفساد الذي تطرحه مؤسسة الشفافية الدولية لعام 2013، الذي هو عبارة عن مسح لعدد (177) دولة ومنطقة، وضع العراق في المرتبة السابعة عشرة. كذلك قدم البنك الدولي أرقاما مماثلة في مؤشرات الحكم العالمية التي طرحها حيث أعطى العراق خمس نقاط من مجموع مائة بسبب من فشل مؤسسات مكافحة الفساد.  كل هذا عرقل قدرة البلد على الإصلاح وتوفير الخدمات. وهو ما حدا بالقاضي رحيم العجيلي، أقدم شخصية في الحكومة والمسئول عن مواجهة الفساد أثناء 2008،  عمليات التعاقد في بغداد "كأم كل قضايا الفساد في العراق". فالعقود أعطيت لشركات يديرها كبار الساسة العراقيون أو أقارب لهم. هذه الشركات تدفع مقدما نفقات نقدية كبيرة، وتشتكي من أن أعمالها مهملة بسبب الحماية التي تتلقاها من أشخاص داخل الحكومة.

ونتج عن الفساد توفر خدمات حكومية هشة، رغم أن العراق بلد غني بالنفط. وفي عام 2011 قدرت الأمم المتحدة أن 26% من السكان يستفيدون من شبكة الصرف العمومية. ما يعني ترك 83% من المياه المفقودة غير معالجة. ورغم اعتماد ثلثي العائلات على مصادر المياه العمومية للشرب، بينت المسوح المنفذة في عام 2012 أن 25% يحصلون فقط على المياه خلال ساعتين في اليوم. وتبين الأرقام التي تقدمها الأمم المتحدة أن 7.6 مليون نسمة أو ربع السكان، لا يستطيعون الحصول على مياه شرب.

وأصبحت الكهرباء أساس الحياة للعراقيين الذين يبحثون عن تقييم قدرة دولتهم. وفي أغسطس 2011، ومع درجة حرارة تصل إلى 50 درجة، أجبر وزير الكهرباء رياض شلال العاني على الاستقالة حين تبين قيامه بالتوقيع على عقود تطوير صناعة الكهرباء بقيمة 1.7 بليون دولار مع شركتين مشبوهتين من كندا وألمانيا. وتبين من المسوح القومية المنفذة من جهة شبكة المعرفة العراقية في نفس السنة، أن متوسط ما تحصل عليه الأسرة هو 7.6 ساعة من الكهرباء من الشبكة القومية كل يوم، فيما رأى 79% منهم قدروا الكهرباء التي يحصلون عليها بالسيئة أو شديدة السوء.

لقد تبين من ضعف البنية التحتية للطاقة أن الدولة لديها حضور مؤسسي هش داخل المجتمع، وهو الموقف الذي يفسر بمتغير الفساد. ما أدى إلى العزلة العميقة عن الدولة والوعي العام بأنها تدار بمصالح قلة من اللصوص.

كما يغيب المحور الرابع لاستمرارية الدولة، أي القوة الأيديولوجية. فلقد أظهرت مسوح الرأي في سنوات ما بعد سقوط النظام عام 2003 أن أهل العراق ملتزمون بقوة بالولاء للدولة الموحدة ومرتبطون بها بالنزعة القومية القوية. فيما أظهرت المسوح المنفذة في فبراير ومايو 2004 دعم الدولة المركزية القوية وبغداد عاصمتها. وأظهر المركز العراقي للدراسات والبحوث الاستراتيجية أن 64.7 % من العراقيين فضلوا " الدولة المركزية الموحدة سياسيا، كنقيض للدولة الفيدرالية"، بنسبة منهم 67 % تقول برغبتها في وجود مركزية مالية وإدارية.

فيما أوضحت مسوح مركز أكسفورد الدولي للبحوث المنفذة في فبراير ومارس ويونيو، أن السنة شهدت نتائج مماثلة. فعندما سئل المبحوثين عن "ما البنية التي ينبغي أن تكون عليها العراق مستقبلا؟"، واختار المستجيبون "دولة عراقية موحدة بحكومة مركزية في بغداد". ورغم اختلاف الإجابات بحسب الخلفيات الإثنية والإقليمية للمبحوثين، طالب 12% من الكرد، ونسبة 3.8% من كل العراقيين لوجود دولة عراقية منقسمة لولايات مستقلة.

ولكن بعد نشوء المجلس الحاكم عام 2003، دارت السياسة في العراق حول نظام المحاصصة، وبدأت غالبية الأحزاب في تقوية الدعم الذي تتلقاه بالدعوة للهويات الدينية والعرقية داخل دوائرها الانتخابية. ومع دخول العراق آتون الحرب الأهلية، كانت اللغة المستخدمة لوصف الوفيات المدنية ونزوح الأهالي وهجمات المذابح، لغة مشبعة بالطائفية. وبحلول عام 2006، صاغت الطائفية طبيعة الصراع. ولا تزال اللغة الطائفية مستعملة، بدرجات متباينة، على يد غالبية النخبة الحاكمة في العراق. والمحصلة، أن الأهالي قد أضحوا معبأين سياسيا، فقد اختيرت الحكومات وفهمت الحرب الأهلية، في ضوء أيديولوجيات تقوض في الأساس الوحدة القومية تفضيلا للهويات الفرعية. ولا يمثل هذا عودة للولاء الديني السائد افتراضيًا الذي، بحسب أنصار نظرية سايكس بيكو، يبث الطاقة في السياسة العراقية. فالأحرى أن ما يجري هو تطور مبدئي أو أعادة اختراع للهويات الطائفية على يد النخبة الحاكمة التي تعتبر ذلك أفضل وسيلة لحشد جمهور الناخبين المستنفرين.

وبحسب هذه الخلفية، فإن احتلال داعش للموصل في يونيه وتقدمها السريع في قطاع واسع من العراق لم يكن بسبب تراث الاستعمار البريطاني الفرنسي منذ قرن من الزمان. بل هو محصلة مباشرة خلل حالي داخل النظام السياسي نشأ بعد تغير النظام عام 2003.

الشرعية السياسية مرتبطة ارتباطا وثيقًا بقدرة الدولة على ترسيخ أقدام الوحدة القومية والحفاظ عليها أو إنشائها داخل حدودها، وحدة تجمع الأهالي وتربطهم بالطبقة الحاكمة.

ثانيا- إصلاح الدولة العراقية

تتمثل الخطوة الأولى في التعامل مع داعش في هزيمتها عسكريا. ومع ذلك، يتطلب الاستقرار طويل الأمد حل المشكلات السياسية التي خلقت فراغا شغلته داعش. ورغم تعرض نظيرتها السابقة، أعني القاعدة، لهزيمة عسكرية عبر تطبيق الولايات المتحدة لتكتيكات مواجهة من عام 2007 فصاعدًا، فإن ذلك لم يساعد في الوقوف على الديناميات السياسية المؤسسة التي تسببت في الحرب الأهلية، بما أتاح لداعش أن تعيد بناء وتوسعة نطاق عملياتها وأن تضحي أكثر قوة من القاعدة.

إن استبدال المالكي برئيس وزراء جديد هو حيدر العبادي له فائدته في إصلاح الدولة العراقية. ومع ذلك سوف يحتاج العبادي أن يبذل قصارى الجهد أكثر من مجرد تشكيل حكومة وحدى وطنية أخرى تشمل عددا كبيرا من الساسة السنة. إذ سيتطلب الأمر منه أن يقطع الصلة بطريقة الحكم التي سادت منذ عام 2006، إن لم يكن قبل ذلك، وستكون مهمته الأولى هي إصلاح الضرر الذي تسبب فيه المالكي طوال وجوده في منصبه طيلة ثماني سنوات. سيعني ذلك بالضرورة طرد "حاشية المالكي"، مجموعة المستشارين الأقوياء، والمالكيين، أي أتباعه الذين وضعهم في المناصب النافذة في المؤسسات العراقية.

لكن تعليل ظهور داعش فقط بالأخطاء التي ارتكبت في عهد المالكي مسالة تقلل من حجم المشكلة التي تواجهها البلاد. فالفساد الذي قضى على الدولة من داخلها هو الجانب المكمل لنظام المحاصصة الذي جعل من دولة العراق بلدا مملوكة ملكية خاصة. فقد جعل نظام المحاصصة النخبة السياسية تنهب ممتلكات الدولة للمصلحة الشخصية ولتمويل الأحزاب التي يمثلونها. كما أدى لنشوء لغة عنيفة وتقسيمية أضحت العملة السائدة في السياسة العراقية. ولعل نشوء الطائفية والفساد مسئولية النخبة، التي حافظت على السلطة منذ عام 2003. ولكي يقوم عبادي بتحييد تهديد داعش، وتحقيق الاستقرار، وبناء مستقبل مستدام للبلاد، لن يقوم فحسب بإصلاح الدولة بل بإقناع النخبة بالتغيير. وهو ما يتطلب منها العمل على توحيد المجتمع حيث يلعبون دورا محوريا في تقسيمه، واستبدال الأسلوب الطائفي وطريقة الحكم الفاسدة بأسلوب قيادة منفتح وقابل للمساءلة. ولأن عبادي هو العضو المحوري في النخبة، فعليه أن يدرك صعوبة المهمة التي يحملها على كاهله والمعوقات التي تقف في طريقه.

ترجمة: د. محمود عبد اللـه

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟