هو سؤال قد يثير علامات التعجب، لكنى لا أبحث عن عناوين وأسماء عدد من المنظمات الأهلية الذى تجاوز 42 ألف منظمة مسجلة
رسميا بوزارة التضامن الاجتماعى، ولا أبحث عن أسماء قيادات أضحت نجوما فى الفضائيات، ولكنى أبحث عن أدوار وفاعليات قطاع تطوعي، غير هادف للربح، يستهدف المصلحة العامة..
إن السؤال أين المجتمع المدني، يقابله سؤال أين الدولة؟ المجتمع المدنى القوى والصحى يرتبط بدولة قوية، وهو أحد دروس التاريخ، ولكن يظل هناك «مساحات» من «الفراغات» تركتها منظمات المجتمع المدنى ولم تتحرك لشغلها. ربما انشغلت هذه المنظمات ذاتها بالأحداث السياسية المتسارعة، وبالصراعات والانشقاقات بين مختلف التيارات، وربما انشغلت بمعارك «التمويل الخارجى» وتفرغ بعضها لإدارة أزمة التمويل.. وانشغل البعض الآخر من المنظمات الخيرية والرعائية، بدفع تهمة الانتماء للإخوان المسلمين عن نفسها، بل وتوقف البعض عن دعم الفقراء. نحن إزاء أزمتين أساسيتين تواجهها المنظمات الأهلية فى مصر وهما «التسييس» وهو الانخراط فى العمل السياسى لصالح أفكار وتيارات، و«التديين» وهو صبغ العمل الخيرى بالسمة الدينية, وهى فى النهاية تعمل على استقطاب الموالين لها من القواعد الشعبية الفقيرة، والغالبية تأسست فى الوجه القبلي.
قطاع كبير إذن من المنظمات الأهلية فى مصر، انصرف إلى «إدارة مصالحة» ومن ثم كان من الطبيعى لمن يرصد حركة القطاع الأهلى أن يلاحظ التراجع فى أدوار البعض من المنظمات الأهلية، أو توقف النشاط، أو على الأقل تجميد العمل. المنظمات الحقوقية أضحت تدور فى إصدار بيانات، تعبر عن معارضتها لبعض القوانين والإجراءات (قانون التظاهر مثلا) أو تطالب بحقوق بعض «شباب الثورة» الموقوفين أو المعتقلين فى السجون دون بدء المحاكمات، أو تدين إجراءات الدولة التعسفية فى مظاهرات واحتجاجات فى الشارع المصرى (لكنها لا تدين الأعمال الإرهابية التى راح ضحيتها عشرات من رجال الشرطة والقوات المسلحة)... القطاع الأكبر الذى ينشط فى العمل الخيرى والرعائي، وفى تقديم الخدمات الصحية والتعليمية، أصابه الجمود، وحدث تراجع فى التمويل الوطنى لهذه المنظمات، كمحصلة نهائية لحالة الشك والتشكيك السائدة فى الوطن ككل.
اللافت للاهتمام أن مجموعة من المنظمات الأهلية المعنية بالنساء، اتسمت بفاعلية شديدة، خلال هذه السنوات للدفاع عن حقوق المرأة، ثم الضغوط المتتالية على لجنة الخمسين للاعتراف بحقوق المرأة ومطالبها فى الدستور المصري، ثم جهودها الحالية لإعداد مرشحات فى البرلمان والمحليات.. ولكن فى النهاية تظل «الصورة قاتمة» يسودها «عدم اليقين» فى المستقبل - وهو حال الدولة والمجتمع ككل - ويظل هناك «مساحات من الفراغ» كان على المجتمع المدنى التعامل معها من ذلك: النزول «للناس» فى كل مكان للتوعية والتثقيف السياسي. وتبنى مبادرات خرجت من الفضاء الالكترونى لدعم الدولة. وإرساء ثقافة احترام القواعد القانونية، وثقافة الاحتجاج والتظاهر. وتشكيل ائتلافات قوية من مجموعات من المنظمات الأهلية لتحسين نوعية الخدمات الصحية وغيرها من الخدمات الرعائية. وشبكة قوية لحماية الأطفال بلا مأوى فى هذه اللحظات العاصفة. والتفاعل مع الحركات الاجتماعية والسياسية التى تعبر عن الشباب، لإصلاح وترشيد المسار.
هناك مجالات كثيرة ومتعددة كانت مفتوحة أمام منظمات المجتمع المدني، لتفعيل دورها فى هذا السياق السياسى والاقتصادى والاجتماعى والثقافي، إلا أنها لم تتحرك... وكان الأولى أن تدعو هذه المنظمات إلى مبادرة لعقد اجتماع واسع يضم مختلف الأطراف الفاعلين فى ساحة العمل الأهلي، لمناقشة الوضعية الحالية لها، وإمكانات العمل معا، وأولوية القضايا التى عليها التعامل معها... إلا أن انقطاع الحوار فيما بينها، والعزلة التى اختارها البعض، والعمل السياسى الذى اختاره البعض الآخر، وقفت حائلا أمام أى خطوة تدفع الجميع نحو رؤية «المصلحة القومية» فى اللحظة الحالية وكيف يمكن الإسهام فى تحقيقها..
على أى حال مازال الأمل معقودا، لاسترداد بعض الثقة من جانب المجتمع ككل فى منظمات المجتمع المدني، ومن خلال التوافق معا حول إطار أو إستراتيجية للعمل، تستند إلى الاستقواء بالداخل، وتحقيق استقلاليتها النسبية فى مواجهة الدولة وفى مواجهة «قوى السوق» التى أضحت تتاجر بالفقراء، وتنحو إلى «تسليع» كل شيىء حتى الناس.
نقلا عن الأهرام