الحديث عن قطر لا ينبغي له أن يعود إلى ما قبل عام 1996، هذه السنة المشؤومة في تاريخ التحول السياسي القطري في علاقاتها مع الدول العربية حتى يومنا هذا.
ليست دول الخليج وحدها من احتجت على سياسة قطر ومنبرها الإعلامي قناة الجزيرة «نصيرة الشعوب» التي كسرت كل حواجز المقبول، حتى رمت الشعوب العربية على صخرة صلداء، تكسرت معها كل مجاديف الحياة الآمنة، لتتحول إلى شعوب تنشد الاستقرار وتتمنى ظلم «الطغاة» على أن تحيا وهي ترى أحلامها التي كانت بالأمس طموحات، وقد صارت اليوم سراباً لا يروي الظمآن، ولا يخدم في حقيقته سوى عدو العرب الأول إسرائيل.
قطر التي كسرت التابوات المحرمة في عقيدة الإعلام العربي، حين كانت بخنجرها المسموم «الجزيرة» أول من أعلن التطبيع الإعلامي بحجة «اعرف عدوك»، عندما قدمت لنا من يبرر وينافح عن جرائم إسرائيل من إعلامييها والمتحدثين الرسميين باسم حكوماتها.
قطر التي تدعم «حماس» في غزة، وتبني المستوطنات «لمساكين» إسرائيل في أرض فلسطين المحتلة، وتستقبل بيريز وليفني وبن إليعازر بعدما كانت افتتحت الممثلية التجارية الإسرائيلية في قطر.
قطر التي وقفت ضد إرادة شعب لبنان بكامله في حرب صيف 2006 مع إسرائيل، وتبنت مواقف «حزب الله» وحده، ثم بنت الضاحية الجنوبية التي استقبلت الحليف الثاني لها بعد إيران الشيخ حمد بن خليفة بكل الود والورود والترحاب.
قطر حليفة القذافي، والمقلد الأكثر شبهاً له في لعب الأدوار التي تفوقه حجماً، ثم العدو الأول له حين قامت الثورة في ليبيا التي لم تهدأ حتى يومنا هذا حتى بعد زوال القذافي وزمرته، بسبب تدخلات قطر وحلفائها هناك حزب «العدالة والبناء».
قطر التي سمت ثورة الشعب على مبارك في 25 يناير انتصاراً للحرية، وثمّنت بإعلامها موقف الجيش آنذاك، ثم استبشرت بقدوم حلفائها الجدد «الإخوان المسلمين»، ودعمتهم بكل ما أوتيت من ضجيج إعلامي، لتعود بعد ذلك وتتنكر لمواقف الشعب المصري في ثورة 30 يونيو، وتسمي وقوف الجيش إلى جانبه هذه المرة انقلاباً!
قطر التي تقيم بعد أيام مناورات عسكرية مع إيران، هي ذاتها التي شذت عن منظومة الخليج بدعمها المباشر للحوثيين، حلفاء إيران، لتهدد بذلك استقرار اليمن وأمن جارتها السعودية.
قطر حليفة بشار السابقة، والداعم للمعارضة السورية بشقها «الجهادي» الذي مزق طوق النجاة لثوار سورية حين رفع الغطاء الدولي الداعم لقضيتهم بحجة وجود الإرهابيين!
قطر التي وباسم الحرية والانتصار لها، أنشأت «أكاديمية التغيير»، وتبنت «ملتقى النهضة»، و«مؤسسة الكرامة»، ثم تحكم على شاعر بالمؤبد لأجل قصيدة، وتطرد وتسحب جنسية كاتب صحافي انتقد غلاء المعيشة فيها!
قطر الحليف الأكبر لأميركا في الشرق الأوسط، والتي تفاخر على لسان مسؤوليها «بكسر احتكار القواعد الأميركية على أراضي غيرها» حين وهبت لأميركا السيلية والعُديد، وما أدراك ما هاتان القاعدتان. ثم هي تدعم الجماعات المسلحة المتأسلمة «أعداء أميركا» المعلنين، في لعبة استخباراتية كبيرة تدغدغ بها عواطف من تعتقد أنها بهم تنتصر!
قطر العضو في مجلس التعاون الخليجي، التي خالفت ميثاقه الأساسي المبني على المصير المشترك ووحدة الهدف، حين فتحت أرضها وأرخت جيبها لكل من في استطاعته النيل من استقرار وأمن الدول الأعضاء فيه، ولم تستجب لكل نداءات العقل والحكمة من جيرانها، وضربت عرض الحائط علاقاتها مع حكومات البلدان التي صبرت على تماديها كثيراً، ولم تلتزم بحسب نص بيان سحب السفراء: «بالمبادئ التي تكفل عدم التدخل في الشؤون الداخلية لأي من دول المجلس في شكل مباشر أو غير مباشر».
قطر التي لم يمنعها استدعاء السعودية لسفيرها لدى الدوحة عام 2002 من أن تضع أهدافها الأحادية خلف ظهرها، في سبيل ومصلحة عمقها الاستراتيجي أمام التحديات الكبرى، فيما ليس له من مسمى سوى فرد العضلات، والاستقواء بالعنصر الأجنبي الذي على أراضيها، وكأنها بذلك تنفذ أجندات تملى عليها، أو أنها كانت تشعر قبل ذلك بالنقص أو التهديد من أشقائها!
قطر التي أعلنت في بيانها بشأن سحب السفراء دهشتها واستغرابها، وكأن سفيرها لدى الإمارات يعمل خارج منظومة السياسة القطرية، ولم يطلعها حين استدعته وزارة الخارجية الإماراتية على أسباب الاحتجاج الإماراتي على داعية برتبة «محرض» وافد على أراضيها يحاول عبر خطبه وندواته النيل من دولة الإمارات والتحريض عليها، وإن كان وزير خارجية قطر سبق له التعليق على احتجاج الإمارات بأن «القرضاوي لا يمثل السياسة الخارجية لقطر، التي يجب أن تؤخذ فقط من القنوات الرسمية للدولة»، فإن السؤال هنا: هل قناة الجزيرة القطرية هي إحدى هذه القنوات؟
قطر التي تغرد خارج السرب في شكل فظ ومستفز طوال 18 عاماً، سواء ضد الدول الثلاث التي أجمعت على سحب سفرائها منها، أو مصر التي سبقت إلى ذلك قبل أكثر من شهر، في محاولات حثيثة لتقول إنها هنا! لم تدرك في حقيقة الأمر، أو هي تدرك لكنها لا تكترث، بأن حريتها السياسية في أن تتحرك «كبلد كامل السيادة» يجب أن تتوقف عند أسوار من تدعي أنهم إخوتها، إذ ليس من المنطق ولا المعقول أن تقف الدول التي تضررت كثيراً من شقاواتها موقف المتفرج، فحجز «الأخ» الظالم أو منعه من الظلم هو في حقيقته نصرة له.
قطر التي ردت على بيان سحب السفراء ببيان متزن في مضمونه، خال في حقيقته من الفعل الذي نتمنى عليها حرصاً على وحدة الصف في وجه الأخطار المحدقة التي تكاد تعصف بالمنطقة، أن تتبعه بخطوات فعالة ترأب الصدع وتصلح ما أوشك على التهدم، بدلاً من أن تفتح المجال لأقلام كتّابها الصحافيين لأن يقارنوا بين سحب السفراء منها، وعدم سحبهم من إيران التي تعلن العداء ضد دول الخليج، غاضين الطرف عن الفرق بين التعامل السياسي الحذر مع من نعلم عداوته، وظلم ذوي القربى الذي هو «أشد مضاضة على المرء من وقع الحسام المهند»!
الواقع يحكي صراحة أن قطر لن تغير من سياساتها، لأسباب من أهمها: أن ما أغضب الخليجيين مما تقوم به قطر ليس وليد اليوم، إنما هو تراكم لمخططات قادتها طوال سنوات مضت، والحقيقة التي لا تدركها قطر، أننا كنا حتى قبل ثلاثة أشهر من اليوم نتفاوض على شكل الاتحاد الخليجي، لكن المجلس اليوم وبسببها أصبح لا يسعنا! وفي الختام، تبقى قطر «ظفراً» نرجو ألا يشذ عن القاعدة ويخرج من اللحم، ليتحول بفعل فاعل إلى خنجر في خاصرة الخليج الذي ضمنا، حتى تغنينا بأنه واحد، وشعبه واحد.
نقلا عن الحياة