من المؤكد أن الشهرة الكاسحة التى يحظى بها اسم جورج أورويل لا تعود إلى موهبته كروائى. نعم لقد كتب ثلاث أو أربع روايات جديدة، ولكن اثنتين من هذه الروايات نادرا ما تقر آن الآن، والروايتان الآخريان تعود شهرتهما لأسباب لا تتعلق بالقيمة الفنية لأى منهما. بل إن أشهر هذه الروايات على الاطلاق والتى اختار رقما هو (4891) اسما لها، قال هو نفسه عنها بعد أن انتهى من كتابتها: »فكرة جديد ولكن أفسدتها«.
ليس هذا إذن هو تفسير الشهرة التى حظى بها أورويل، ولايزال يحظى بها، إذ مازال اسمه يتردد حتى الآن فى وسائل الإعلام (رغم انقضاء 56 عاما على وفاته) ومازال اسمه يستخدم كصفة، فيوصف العصر أو الحكم بأنه (أورولى) وتوصف اللغة بأنها (أورولية) ويتوقع ممن يسمع هذه الصفة أن يفهم على الفور التصور منها، كما لاتزال الجوائز الأدبية تنشأ باسمه، ولا يحظى بها إلا أقدر وألمع الكتاب.
السبب الحقيقى هو اجتماع عدد من الصفات فى جورج أورويل مما يندر أن يجتمع فى شخص واحد .إنه رجل ذو حس أخلاقى عال، وقادر على التعبير عن نفسه بوضوح تام وسلاسة جذابة (بل ان اسلوبه) أيضا يمكن أن يوصف بأنه أورولى) ولكن الأهم من ذلك أنه كان يتمتع ببصيرة نافذة فى فهمه وتحليله للظواهر الاجتماعية والسياسية تجعله يرى ما هو أبعد وأعمق مما يراه الآخرون، ويتوقع من الأحداث ما يظنه الآخرون مستحيلا، بالإضافة إلى شجاعة كافية للافصاح عما يراه ويتوقعه، حتى فى مواجهة خصوم أقوياء.
كان هذا هو سر النجاح الساحق الذى حققته روايتاه (مزرعة الحيوانات) و (4891)، حتى إنهما لايزالان تعاد طباعتهما ونشرهما بمختلف اللغات، وتقرران على تلاميذ المدارس والجامعات، ويستمر الاقتطاف منهما والاشادة بهما. ولكن من بين هاتين الروايتين لاتزال رواية (4891) تحظى باهتمام خاص.
لقد سبق أورويل الجميع فى روايته (مزرعة الحيوانات) بتقديم التفسير (الصحيح فى رأيى) لطبيعة النظام السوفييتى ودوافعه، وكذلك فى التنبؤ بمستقبل العلاقة بين الدولة السوفيتية وبين الدول الرأسمالية (الذى ثبت صحته أيضا) لقد أصبح هذا التفسير مقبولا الآن (من الجميع تقريبا) ومن ثم لم يعد يثار الاستغراب لدى رؤية تقلب العلاقات بين الدول ذات الأيديولوجيات المختلفة، لأسباب لا علاقة لها بالأيديولوجيات ولكن رواية (4891) فعلت شيئا آخر مازال يثير الكثير من التساؤل والتعجب ويثير، مرة بعد أخرى التساؤل عما إذا كان من الممكن أن نكون قد وصلنا بالفعل إلى هذا العالم المدهش الذى وصفه أورويل فى الرواية، أو أننا سائرون حقا فى هذا الطريق، أم أن هذا كله ليس إلا خيال رجل متشائم لا يعجبه شىء.
كان أورويل كما يعرف معظم القراء قد وصف فى رواية (4891) العالم كما يمكن (ويتوقع) أن يحدث فى تلك السنة، أى بعد كتابته للرواية بخمسة وثلاثين عاما، كان اختيار السنة عشوائيا تماما، فقد كان من الممكن أن يختار رقما يشير إلى سنة أبعد فى المستقبل بخمسين أو حتى مائة عام أخرى.
(كما كان من الممكن طبعا أن يختار للرواية اسما آخر لا يحتوى على أى رقم كما فعل فى البداية ففكر لها فى اسم «آخر رجل فى أوروبا» ثم عدل عنه.
ليس للرقم أى أهمية فى نظر أورويل ولا فى نظر غيره، ومع هذا فقد كان من الطبيعى عندما تحل بالفعل سنة 4891 أن يطلب من بعض الكتاب والمفكرين أن يعبروا عن رأيهم فيما إذا كان أورويل قد أصاب أم أخطأ وأذكر كتابا كاملا قد نشر بمناسبة حلول ذلك العام، يضم مساهمات من كتاب ومفكرين مهمين، قدم فيها كل منهم رأيه فى نبوءة أورويل ومدى تحققها. كما أذكر على الأخص إجابة المفكر الأمريكى المعروف (ناعوم تشوفسكى) فإن العالم فى سنة 4891 لم يحقق فقط نبوءة أورويل، بل تجاوزها بدرجة كبيرة.
كان جزء جوهرى من رؤية أورويل للمستقبل، يتعلق بما سوف يتحقق من تطور فى وسائل غسيل المخ، والانتقال من مجرد إغراق الناس فى سيل من الدعاية لما يريد أصحاب السلطة أن يقنعوهم به، إلى اتساع قدرة الدولة على التجسس على الناس، ومن ثم استبعاد كل من يحاول أن يروج لفكرة معارضة لأفكار أصحاب السلطة. فى المستقبل إذن لن تقتصر علاقة الدولة بالشعب على البث المستمر للدعاية، بل تشمل أيضا الاحاطة بما يقوله الناس، بعضهم لبعض، بل والاحاطة بما يفكر فيه هذا الشخص أو ذاك، مما يمكن الدولة من إحباط أى محاولة للانقلاب عليها. من هنا تأتى أهمية جهاز »التلسكرين« الذى ابتدعه أورويل والذى افترض أنه سيفرض على الناس فرضا أن يصنعوه فى بيوتهم، إذ ينقل للسلطة الحاكمة ما يمكن أن يقوله أو يفعله الناس فى أى لحظة.
إن من طبيعة التاريخ الإنسانى (فيما أظن) أن تطورات مهمة للغاية فى حياة الناس تتراكم بالتدريج، على جرعات صغيرة فلا يحس الناس بأهمية ما يحدث، حتى يبلغ التطور درجة معينة فيلتفت الناس فجأة إلى خطورة ما حدث. والأغلب أنهم حتى فى هذا يحتاجون إلى أن ينبههم شخص من نوع جورج أورويل إلى ما تم حدوثه بالفعل دون أن يشعروا بحدوثه (انظر مثلا إلى ما نتعرض له منذ فترة ليست بالقصيرة من معاملة مهينة فى المطارات، ونحن على وشك السفر، من تفتيش وتحسس لأجزاء الجسم، وأمرنا برفع الذراعين، وخلع الأحذية والأحزمة.. الخ، حتى اعتدنا الأمر وأصبحنا نعتبره من طبيعة الأمور!.
إنى أعتقد أن التصور الأورولى للعالم الحديث قد تحقق بالفعل بدرجة كبيرة، وعلى نحو جدير بإثارة قلق شديد ومما يزيد القلق أن القليلين الذين يشيرون من حين لآخر إلى هذه التطورات وقد يستخدمون اسم أورويل فى الاشارة اليها، يذكرونها على نحو متناثر وغير مترابط، وكأنها ظواهر منعزلة لا تصدر من مصدر واحد، ولا تصب فى نتيجة واحدة ومن ثم لا يمكنون غيرهم من إدراك درجة الخطورة فيما يحدث وحجم الكارثة التى يسير اليها العالم.
سأضرب مثلا واحدا قد يساعد فى توضيح ما أعنيه مما جاء فى الصورة التى رسمها أورويل لعالم المستقبل ما اسماه «بجريمة الوجه» ويقصد بها قيام السلطة بتوقيع عقاب، ليس فقط على ما قد يفعله شخص ما ، مما يتعارض مع أوامرها وليس فقط على ما قد يقوله أو يهمس به، بل تعاقب أيضا على ما قد يرتسم على وجهه من مشاعر تدل على معارضته لها هذه الجريمة (جريمة الوجه) أصبح الآن من السهل جدا اكتشافها بسبب ذلك التقدم الرائع الذى أحرزناه فى تكنولوجيا التصوير فإلى أين يا ترى سوف ينتهى بنا هذا العالم الحديث؟ نقلا عن الأهرام