على رغم التباين الاسمى بين الشرائع التوحيدية (يهودي/ مسيحي/ إسلامي)، ثمة ملمح مشترك يجمع بينها يتمثل فى وجود تيارات أصولية تهيمن عليها نزعة اختزالية وفهم انتقائي، أى لتاريخ كل شريعة
وموروثها المركب، الذى ينطوى على تجارب متعددة ومختلفة، لكل منها سياق ودلالة، تسعى القراءة الأصولية إلى محو كليهما ليسهل لها إعادة تفسير عقيدتها فى الاتجاه الذى تريد. وعلى هذا النحو تتسم القراءة الأصولية للنصوص الدينية بالروح المستقبلية جوهريا، على رغم المظهر الماضوي، فالأصولى عينه على المستقبل، أما الماضى فمجرد وسيلة: مخزن لأفكار ومقولات جاهزة يستطيع الاستعارة من بينها، ومخبأ لسيوف ورماح يستطيع السحب منها ليرمى بها مخالفيه فى العقيدة، الطائفة، والمذهب.
هذه الاختزالية نجدها حاضرة لدى الأصوليين اليهود فى تأكيدهم خيريتهم المطلقة لدى يهوه قياسا إلى الأغيار، والتى يستعينون لإثباتها بما ورد فى سفر التثنية من آيات تدعو إلى إبادة هؤلاء الأغيار المفتقدين لأى فضيلة. وفى الوقت نفسه يتجاهلون ما ورد فى الإصحاح الثامن من السفر نفسه، من أن الله لم يختر العبرانيين إلى الأبد، بل اختارهم كما اختار الكنعانيين من قبلهم، عندما كانوا أحبارا يخدمون الله بوازع ديني، ولكنه تخلى عنهم بسبب حبهم الشهوات. ولذا فقد حذرهم موسى اوإن نسيت الرب إلهك وذهبت وراء آلهة اخرى وعبدتها وسجدت لها، أشهد عليكم اليوم أنكم تبيدون لا محالة. كالشعوب الذين يبيدهم الرب من أمامكم كذلك تبيدون، لأجل أنكم لم تسمعوا لقول الرب إلهكم (تثنيه، 8: 19- 20).
كما نجدها لدى الأصوليين المسيحيين الذين يتوسعون فى الاقتباس من سفر الرؤيا (آخر أسفار العهد الجديد) ويجدون فى رؤيا نهاية العالم وما تبثه من عنف، إلهاماً وحافزاً للتعاطف مع الأصوليين اليهود. ولكنهم نادراً ما يشيرون إلى موعظة الجبل حيث يطلب المسيح من أتباعه أن يحبوا أعداءهم وأن يديروا الخد الأيسر لمن يضربهم على الخد الأيمن وألا يدينوا الآخرين وهى البشارة التى نقلها عنه القديس متي: «سمعتم أنه قيل: تحب قريبك وتبغض عدوك. وأما أنا فأقول لكم: أحبوا أعداءكم. باركوا لاعنيكم. أحسنوا إلى مبغضيكم. وصلَّوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم» (متي، 5: 43 ـ 44).. «سمعتم أنه قيل: عين بعين وسن بسن. وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحول له الآخر أيضا. ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضا» (متي، 5: 38 ـ 41).
ولدى الأصوليين المسلمين، نجد هذه الاختزالية طاغية، فلا يكاد يجد هؤلاء فى القرآن الكريم سوى آيات الحاكمية التى يعيدون تفسيرها على النحو الذى يمنحهم حق تكفير الناس من أهليهم، كمقدمة لإباحة دمائهم وأعراضهم وأموالهم على نحو ما نري. أو آيات الجهاد التى تبرر لهم ممارسة العنف ضد غير المسلمين، متجاهلين ليس فقط أسباب نزولها، واختلاف سياقاتها، بل وأيضا الروح العامة للنص القرآنى التى تحض على السلام والتعاون بين الناس، تحفيزا لجهودهم فى البناء والعمران بمقتضى عهد الاستخلاف الإلهى للإنسان، الذى يضم جميع البشر وليس معتنقى دين بذاته، ويرى الإسلام دينا عاما ينضوى تحت مظلته جميع المؤمنين بالرسل والأنبياء السابقين.
فى سياق تلك الاختزالية يهمل الأصوليون القيم الإنسانية الباهرة التى صنعت التجربة الإسلامية الأولي، وأنتجت أكثر نماذج التفاعل الإنسانى طهرانية، ممثلا فى عهد المؤاخاة، الذى تم فيه اقتسام البيوت والأموال والزوجات بين المهاجرين والأنصار، وهو أمر يبدو مستحيلا بحسب مقتضيات الفطرة الإنسانية فى حالتها العادية التى لا تطيق قسمة الزوجات ولو بين الإخوة الأشقاء، ولكنه صار ممكنا بحسب فطرة جديدة (سامية) صاغتها الفورة الروحية لدين جديد كان بمثابة عصر تحرير حقيقى للإنسانية.
وهكذا تتبدى الهوة الساحقة بين سلوك نبى كان رسولا مبلغا لدعوة دينية، وحاكما مؤسسا لدولة وليدة، وهو يحنو على الصغير والكبير، ويأمر بالإحسان إلى أهل الكتاب من اليهود والمسيحيين، يحترم الروح الإنسانية، حتى فى الحرب، كما تؤكد السنن والأخبار. وبين أمراء الحرب المعاصرين الذين اختزلوا الإسلام فى فكرة الجهاد، ثم اختزلوا الجهاد فى القتال العسكري، ثم نزعوا عن هذا القتال نفسه كل أخلاقية متمدينة ليصير عملا وحشيا، ينتهكون من خلاله كل القواعد التى وضعها الشرع، فيزنون بالسبايا من بنى الوطن، ويقتلون الشيوخ والأطفال، ويريقون دماء الأسري، ويمثلون بالجثث، وغير ذلك مما يجسد الهجمية فى أبلغ صورها.
وهكذا يتأكد لدينا أن تلك المظاهر التى تمارس تحت لافتة الأصولية لا يمكن أن تنسب إليها، لمجرد تغطيتها بنمط لباس معين أو مظاهر سلوك خارجية تشبه تلك التى كانت سائدة عند بداية التجربة، وإنما إلى الروح البدائية (الجاهلية) السابقة على الإسلام، حيث ساد ذلك اللباس وتلك المظاهر، لدى أعداء الإسلام الأوائل الذين حاربوه بوحشية. والمؤكد أن أشكال اللباس ومظاهر السلوك هى محض قشور لازمت بداية العقيدة فى مسار التاريخ، أما اللباب الذى صنع التجربة ذاتها، بكل تمدنها وجاذبيته، فهو النزعة الإنسانية التحررية الكامنة فى العقيدة نفسها، والقيم الأخلاقية الرفيعة المبثوثة فى أركانها. ومن ثم فإن رفض القيم الإسلامية الجوهرية، والإصرار على استعارة الروح الجاهلية، مع اللباس والقوالب المرتبطين بها، ليس إلا نزوعا إلى (البدائية) كحالة حضارية راكدة (إنسانيا)، أو إلى الجاهلية كحالة تاريخية مريضة (عربيا)، ومن ثم يمكن الادعاء بأن نمط التدين العربى المعاصر، الموصوم بالتطرف والعنف، إنما هو النقيض المنطقى للأصولية الحقة، باعتبارها المكونات الإيجابية المؤسسة للتجربة التاريخية الزاهرة.. إنه بالتحديد روحانية بدائية طالما تورطت فى استدعاء أشكال للحياة صارت متقادمة بفعل حركة التاريخ، بينما فشلت فى استدعاء القيم الجوهرية الخالدة، المتعالية على التاريخ، والقادرة دوما على عمارة الروح وتأسيس الضمير. نقلا عن الأهرام