بكل ثقة يمكننى القول إن هناك تغيرا ملموسا وحقيقيا فى توجهات الصين تجاه الوطن العربى نحو بناء علاقات استراتيجية فعالة ومؤثرة ايجابيا على مصالح الجانبين. كنا نشكو منذ عهد «التحديثات الأربعة».
فى الصين سنة 1978 أن الصين قد خرجت من معادلة الشرق الأوسط وأنها تكتفى بمراقبة القضايا السياسية العربية ودفع مصالحها الاقتصادية فى الوطن العربى. ولكن من خلال متابعة الشئون الصينية وزيارات متعددة للصين خلصت الى أن السياسة الصينية تجاه الوطن العربى تتغير بشكل حقيقى. وقد بدأ هذا التحول سنة 2004 فى عهد الرئيس هيو جنتاو حينما وقعت الصين وجامعة الدول العربية ميثاق المنتدى العربى الصينى فى القاهرة، وكانت بذلك أول دولة كبرى تقبل ببناء مشاركة جماعية مع العرب، وهو أمر لم تقبله الدول الغربية أبدا ، وتلتها روسيا فى هذا المضمار. ومازال المنتدى يعمل وعقد دورته السادسة على مستوى وزراء الخارجية هذا العام، وخصصت له الصين أمانة مستقلة وموقعا مستقلا على الانترنت، فضلا عن أنها الأنشط فى تفعيل المنتدى اذ تعقد دورات مستمرة مع المثقفين العرب لمناقشة أعماله تعقد إحداها حاليا فى الصين ابتداء من 21 ديسمبر بالتوافق مع زيارة الرئيس السيسى. بيد أن التغير الحقيقى بدأ منذ اندلاع ثورات الربيع العربى سنة 2011. فقد أدت الانفجارات السياسية العربية الى صعود تيار الاسلام السياسى، بما فى ذلك صعود عدد من الحركات الارهابية التى تسعى الى فرض رؤاها بالعنف المسلح. وقد استشعرت الصين أن هذه التطورات تؤثر على مصالحها العربية خاصة بعد أن فقدت استثماراتها فى ليبيا بعد العدوان الأطلنطى عليها لدعم التدخلات الخارجية وتدمير الدولة، خاصة بعد أن شعرت بآثار تلك التطورات فى داخل الصين فى شكل صعود للتيارات الارهابية التى ضربت قلب بكين وسينكيانج، وبعد أن تأكدت أن بعض مسلميها يشاركون فى أعمال الارهاب فى الوطن العربى. لقد استشعرت الصين أن الدول الغربية بتدخلها السافر فى تغيير الأنظمة العربية انما تمهد لاقرار هذا التدخل فى شئون الآخرين بما فيها الصين ذاتها، وهو القول الذى سمعته مرارا من المسئولين الصينيين. ومن هنا نفهم الدور الصينى والروسى فى ردع المشروعات الغربية للتدخل فى سوريا من خلال استعمال حق النقض فى مجلس الأمن ، وهو حق نادرا مااستعملته الصين. كما قامت الصين بدور مهم فى محاولة التوصل الى حل سياسى للأزمة السورية من خلال الالتقاء بالمعارضة الوطنية السورية. أما العامل الثانى وراء التحول الصينى فهو التحول فى السياسة الأمريكية نحو شرقى آسيا، وهو الأمر الذى تجلى فى مشروع «القرن الأمريكى الباسيفيكى» الذى أعلنته هيلارى كلينتون فى 10 نوفمبر سنة 2011 والذى يقول ان القرن الحادى والعشرين سيكون قرنا أمريكيا فى آسيا . اذا طالعنا بنود الاستراتيجية الأمريكية الجديدة نجد أنها تستهدف الصين بشكل أساسى فى شكل مطالب تدور حول تغيير النظام الصينى. ومن ثم، فان الصين بتوجهها العربى إنما تحشد الحلفاء العرب الذين يمكن أن يشكلوا ظهيرا لها فى المواجهة المحتملة مع الولايات المتحدة، وهى مواجهة لاتريدها الصين بعد أن أعلنت مرارا أنها تهدف الى بناء عالم منسجم، وأن صعودها يفيد الجميع. ولكن الصين تعرف أن الاستراتيجية الأمريكية الجديدة هى بمثابة «احتواء» أمريكى للصين كما قالت جريدة جلوبال تايمز الصينية. ومما زاد من ثقة الصين فى هذا التحول هو استكمال كثير من عناصر صعودها الاستراتيجى ،خاصة بعد أن أصبحت تمثل ثانى أكبر اقتصاد فى العالم . نحن اذن ازاء صين مختلفة حققت صعودا استراتيجيا وأصبحت ذات استراتيجية «عالمية» لأول مرة فى تاريخها.
ماهى تجليات التوجه الاستراتيجى الصينى نحو الوطن العربى؟ لعل أهم تلك التجليات هو التحول فى الموقف الصينى من القضية الفلسطينية، وهو ماتمثل فى طرح مشروع صينى للتسوية قدمه الرئيس الصينى فى 6 مايو سنة 2013 أثناء زيارة الرئيس الفلسطينى محمود عباس. وقد أثار المشروع الصينى غضب اسرائيل حتى إن السفير الاسرائيلى فى الصين أدلى بحديث الى احدى الصحف الصينية فى 23 أغسطس الماضى خرج فيه عن العرف الدبلوماسى وانتقد السياسة الصينية الجديدة وحذر الصين من الاضطلاع بأى دور فى الصراع بين العرب واسرائيل. كذلك استطاعت الصين بالتعاون مع روسيا افشال المخطط الغربى فى سوريا والحفاظ على كيان الدولة السورية ولم تأبه لانتقادات بعض الدول العربية لها بأنها تخون الثورة السورية حينما تصوت ضد مشروعات القرارات الغربية المدعومة للأسف من جامعة الدول العربية لتدمير الدولة السورية.وقد قامت القطع البحرية الصيية بمناورات مشتركة مع الأسطول الروسى قرب الشواطىء السورية فى أغسطس سنة 2012 للاشارة الى تمسكها بسياسة عدم تدخل الغرب فى الشأن السوري. كما أنها قامت فى سبتمبر سنة 2014 بمناورات مشتركة مع الأسطول الايرانى فى مياه الخليج. ضف الى ذلك مشروع طريق الحرير البرى الجديد، وطريق الحرير البحرى وهما مشروعان مهمان يمكن أن يفيدا الاقتصاد المصرى خاصة المشروع الثانى الذى يتكامل مع مشروع قناة السويس الجديدة وستعقد الصين مؤتمرا كبيرا فى فبراير القادم بالاشتراك مع ممثلين للعرب لمناقشة هذا المشروع دعا اليه عدد من المصريين. كذلك أعلنت الصين دعمها لثورة 30 يونيو خاصة بعد أن شاهدت أداء الرئيس المصرى الاخوانى حين زار الصين على رأس وفد مكون من 200 شخص من حوارييه.
ومن ثم فالوطن العربى مطالب بتحرك استراتيجى نحو التوافق مع الصين حول سياستها الجديدة، خاصة أن الصين هى السوق الرئيسة الحالية لصادرات النفط الخليجية، كما أنها مصدر مهم للسياحة المصرية ، كما أن التعليم العالى الصينى قد ارتقى الى حد يمكنها من توفير فرص للتعليم والتدريب للكوادر العربية، كما أن عضويتها الدائمة فى مجلس الأمن يمكنها من التأثير فى مستقبل الوطن العربى.ومن هنا تأتى أهمية توقيت زيارة الرئيس عبد الفتاح السيسى الى الصين كرد مصرى على نداء الصين للعرب، وهو النداء الذى رفضته بعض الدول التى كان يهمها تحطيم الدولة السورية، ولكنها أدركت خطأ انتقادها للصين. لقد زرت الصين عدة مرات خلال العامين الأخيرين وسمعت من المسئولين فى الحزب والحكومة مايشير الى اهتمامهم بدعم مصر بعد ثورة 30 يونيو ، ولم أجد صعوبة فى مناقشاتى مع مسئولى الحزب فى اقناعهم بأهمية التغير الذى قاده الرئيس السيسى. لعل من أهم أولويات مصر فى تلك الزيارة ينبغى أن يكون تنشيط السياحة الصينية وفتح خط طيران شنغهاى-القاهرة، فهذا التنشيط من شأنه أن يجعل ميزان المدفوعات المصرى-الصينى لمصلحة مصر، وان كان الميزان التجارى لغير مصلحتها، والاقتداء بالتجربة الصينية فى التعامل مع الاستثمارات الأجنبية والتى تدور حول أهمية أن تنقل تلك الاستثمارات تكنولوجيا جديدة. والأكثر أهمية من كل ماسبق هو ربط مشروع طريق الحرير البحرى بمشروع قناة السويس. وأخيرا تجديد مشروعات التصنيع الحربى التى كانت قد توقفت، والاستعانة بالصين فى المشروع النووى المصرى القادم. وفى كل الحالات فان مصر لاتسعى الى فك العلاقة مع الولايات المتحدة، ولكنها تسعى الى «تنويع البدائل والشركاء»، وهو مطلب يتوافق مع المطلب الصينى بعالم متعدد الأقطاب. نقلا عن الأهرام