تربطنى بمعهد البحوث والدراسات العربية علاقات شخصية وعلمية فى آن واحد، حيث جمعتنى الصداقة بمديره السابق الأستاذ الجليل الدكتور أحمد يوسف أحمد منذ أن عرفته معيداً بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ومتعاطفا مع الحركة الطلابية والوطنية فى الجامعة.
وكان يدرس لى ولزملائى آنذاك مادة «قاعة البحث»، وكذلك الأمر بالنسبة للأستاذة الدكتور نيفين مسعد مديرة المعهد الحالية حيث تعرفت عليها فى حقبة التسعينيات وساهمنا سوياً فى العديد من الندوات التى كانت تتعلق بمسيرة التسوية وعملية السلام فى الصراع العربى الإسرائيلى. أما الجانب العلمى فقد تشرفت بناء على تكليف من هذين الأستاذين الجليلين الدكتور أحمد يوسف والدكتور نيفين مسعد بالإشراف على بعض رسائل الماجستير والدكتوراه، وناقشت العديد من الرسائل العلمية حول القضية الفلسطينية بجوانبها المختلفة.وهذا الصرح العلمى الكبير أى معهد البحوث والدراسات العربية ظل يؤدى رسالته العلمية منذ إنشائه عام 1952 وحتى الآن تلك الرسالة التى تمثلت فى تعليم وتنشئة الكوادر العلمية من مختلف الأقطار العربية وفقاً للمنهج العلمى والالتزام بقضية العروبة والمصير العربى والمستقبل العربى الواحد، ورغم اختلاف وتقلب السياسات والعهود، إلا أن المعهد بفضل أساتذته ومديريه المتعاقبين تمكنوا من الاستمرار فى أداء ذات الرسالة بذات المحتوى العربى التقدمى التى أرساها جيل الآباء المؤسسين للمعهد فى عام 1952.
يتعرض هذا المعهد فى الوقت الراهن وكما علمت من أصداء لمحنة قد تؤثر على رسالته العلمية والسياسية، وربما تعصف بإنجازه العلمى فى حقل العلوم السياسية عامة وتطورات القضية الفلسطينية خاصة.
يبقى معهد البحوث والدراسات العربية من أهم المراكز والمعاهد العلمية، التى تشهد مسيرتها بإنجازها وإسهاماتها فى حقل الدراسات العربية والقضية الفلسطينية بقدرة رسالتها على عبور المحن وتقلب السياسات، لأن رسالته بطبيعتها تتجاوز السياسة وتنخرط فيها فى الوقت ذاته، تتجاوزها بمعنى أنها تتسامى فوق السياسات العربية الراهنة ولا يدخل المعهد فى إطار تحالفات مؤيدة أو مناهضة لها، وتنخرط فى أفق سياسى يتجاوز السياسات الحالية ليستشرف المستقبل العربى وتساهم فى بناء منظور عربى تقدمى استنادا إلى الإيمان بالوحدة العربية والاندماج العربى وأن العرب بمقدورهم أن يشكلوا إذا ما توافرت النية والعزم كتلة كبيرة للنهوض والتقدم على غرار الاتحاد الأوروبى.
وبالرغم من هذه الرسالة العلمية ذات البعد السياسى المستقبلى إلا أن المعهد وإدارته وأساتذته لم يتخلوا عن تقاليد العمل الأكاديمى والعلمى المعروفة والمطبقة فى أفضل الجامعات وذلك من زاوية إجازة الطلاب لتحضير رسائل الماجستير والدكتوراه وتجاوز المراحل الضرورية التأسيسية للحصول على الألقاب العلمية والشهادات المرتبطة بها.
لقد لعب معهد البحوث والدراسات العربية دورا بارزاً فى الماضى ونحن بحاجة إلى دوره فى الفترة الحالية والمستقبلية، تمثل هذا الدور فى دعم التواصل بين النخب العربية من الدارسين فى المعهد من مختلف الأقطار العربية وبعض الدول الإفريقية، ذلك التواصل الذى قد يسهم فى المنظور المتوسط والطويل فى صياغة رؤى عربية للمستقبل على ضوء معرفة طبيعة المشكلات المثارة فى الأقطار العربية والدور الذى قد يناط بهذه النخبة فى كل بلد عربى من خلال تبوؤ المناصب فى بلدانهم، أما على الصعيد العلمى فإن إنجاز المعهد طيلة هذه العقود من التعليم والتنشئة ورسالات الماجستير والدكتوراه حول القضايا التى تهم العالم العربى ومشكلاته كفيل بتوفير تحليلات ومعلومات منظمة ورؤى مختلفة حول العديد من القضايا العربية لصانع القرار العربى.
إن العالم العربى فى الوقت الراهن بحاجة إلى نهضة علمية متكاملة فقد سبقنا العالم الحديث إلى التقدم العلمى والتطوير ورصد مليارات عديدة من الدولارات لشئون البحث والتطوير بينما بقى العالم العربى فى ذيل قائمة الدول التى تنفق القليل من ناتجها القومى الإجمالى على البحث العلمى والتطوير مقارنة بالمعايير الدولية والمعدلات الدولية للإنفاق فى هذا المجال مقاسا إلى الناتج القومى الإجمالى.
يعانى العالم العربى التناقض الذى يتمثل فى تركيز التصريحات والبيانات لمختلف المسئولين عن ضرورة العلم وتطبيقاته لتجاوز التخلف وأهمية الوعى بذلك وضرورة زيادة المخصصات المالية للعلم وبحوثه، وبين واقع الحال والفجوة الكبيرة التى تفصل الخطاب والتصريحات عن الواقع إن تقريب هذه الفجوة بين الخطاب الرسمى حول العلم والبحث العلمى وبين الواقع يمر عبر ترجمة هذا الخطاب إلى خطة عمل جادة وعميقة لتأسيس منظومة علمية عربية تستطيع أن تلبى احتياجات المجتمع إلى العلم بدلاً من الاعتماد على الخارج واستمرار التبعية العلمية.
وربما يبدو هذا التناقص جليا فى الأزمة الراهنة التى يمر بها معهد البحوث والدراسات العربية، فرغم الخطاب الرسمى الذى يؤكد ضرورة الاهتمام بالبحث العلمى والوعى بأهميته للتقدم إن فى المجال الاقتصادى أو الاجتماعى إلا أن الواقع يجافى هذه الحقيقة، فالمعهد بحاجة إلى دعم وتثمين لإنجازاته طيلة هذه العقود بل وتكريم أولئك الذين وقفوا بعرقهم وإرادتهم وجهودهم وراء هذه الانجازات.
إننا نهيب بالسيد أمين عام جامعة الدول العربية وغيره من المسئولين العرب أن يتدخلوا لإنقاذ معهد البحوث والدراسات العربية من هذه المحنة وأن يوفروا لهذا المعهد كافة الإمكانات لأداء رسالته ودعم هذه الرسالة بكافة الوسائل، وأن يذكر لهم التاريخ أنهم قد دعموا بقاء المعهد ورسالته لا أنهم أسهموا فى إلغاء رسالته ووقفها والتاريخ لن يرحم.
فى الوقت الراهن يبدو معيار الاهتمام بالعلم والبحث العلمى، أنه المعيار الذى يحظى بالأولوية لقياس مؤشر التقدم والمستقبل، ولن يجتاز العالم العربى مرحلة التخلف والتدهور والعنف دون التقدم العلمى بمستوياته المختلفة التى تتعلق بالعلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية والاجتماعية، ومن البديهى أن أول خطوة فى هذا السياق هى الحفاظ على المؤسسات القائمة ودعمها بكافة السبل ومن بينها ذلك المعهد العريق. نقلا عن الأهرام