المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

محطات على سكة التحول الديمقراطي العربي: قوى الاسلام السياسي في تونس ومصر

الأربعاء 31/ديسمبر/2014 - 11:45 ص
المركز العربي للبحوث والدراسات
د.أحمد موسى بدوي

بلا  مفاجأة فاز الباجي قايد السبسي بمنصب الرئاسة التونسية، بيد أن التجربة التونسية تمثل نموذجا يستحق التأمل والدراسة، فلم يكن التحول الديمقراطي في تونس، سهلا أويسيرا ، كما يعتقد البعض، إنما مر بأوقات عصيبة، فقد شهدت الساحة التونسية طوال السنوات الأربع الماضية موجات متتالية من الأزمات السياسية والمجتمعية، يزيد من وطأتها أنها متعاطية بقوة مع الشأن الإقليمي وخاصة ما يحدث في مصر وليبيا. ومع ذلك ورغمه، فإننا الآن أمام ايذان واضح، بميلاد الجمهورية التونسية الثانية، جمهورية ذات دستور وبرلمان ورئيس، كلهم جدد. وفي هذا المقال سنحاول تعقب المحطات الرئيسية التي مرت بها هذه التجربة  طوال السنوات الأربع الماضية، مركّزين على دور قوى الإسلام السياسي في كل من التجربتين المصرية والتونسية.

نقلت الثورة التونسية، الفعل العربي الاحتجاجي المراوح، إلى مستوى الفعل الثوري المتصاعد، وحولت حلم التغيير، من حيز المتخيل بعيد المنال، إلى حيز الممكن قريب المنال.

أولا- تونس حاملة براءة اختراع الربيع العربي

عبر نصف قرن، لم تعرف تونس سوى رئيسين: بورقيبة (1956- 1987) وبن علي (1987-2011) استطاع الأول، أن ينقل تونس نقلة حداثية مقدرة، مستنداً إلى مرجعية اقتصادية ليبرالية، ونظام حكم شمولي مقيد للحريات السياسية. ثم جاء الثاني فتم تقويض الحريتين الاقتصادية والسياسية معا. فرغم أنه بدأ فترة حكمه متبنيًا إصلاحات جزئية، كتنقيح الدستور، وإصدار قانون الأحزاب السياسية عام 1988، إلا أن وقائع الانتخابات والمشاركة السياسية في الأعوام 1989، 1994، 1999، 2004،2009، تشير في مجملها إلى تدهور مستمر ومتزايد للحريات السياسية، وعلى المستوى الاقتصادي، بات المواطن التونسي، على يقين بأن مكتسبات عصر بورقيبة التنموية تنفلت من بين يديه، عبر ثلة فاسدة من كبار رجال الدولة والأعمال الذين التهموا عوائد التنمية، فاستشرى الظلم الاجتماعي الطبقي والجهوي، وتحولت  الدولة التونسية – شأن الدولة المصرية – إلى مرتع للفساد بكل أنواعه، دون محاسبة.

انطلقت الثورة التونسية من الجنوب المهمش، عبر حدث استثنائي، سرعان ما تحول إلى انتفاضة تعبر عن غليان شعبي، وجمر متقد تحت الرماد. تحركت كتلة الثورة من الجنوب والوسط إلى الساحل والعاصمة، في ملحمة استغرقت 25 يوما، وسقط نظام بن علي. سيظل أثر الثورة التونسية على البلدان العربية، جوهريا، فقد نقلت هذه الثورة، الفعل العربي الاحتجاجي المراوح، إلى مستوى الفعل الثوري المتصاعد، وحولت حلم التغيير، من حيز المتخيل بعيد المنال، إلى حيز الممكن قريب المنال.

توهّمت قوى الإسلام السياسي، أن حشد كوادرها، يعني حشدا شعبيا. فأصرت على تخطيط مسار تحول، يبدأ بإعلان دستوري، ثم انتخابات برلمانية، ثم لجنة لكتابة الدستور يختارها المجلس المنتخب.

ثانيا- خطط التحول الديمقراطي وإدارة المرحلة الانتقالية

نجحت القوى الثورية التونسية في الاتفاق على آليات واضحة لإدارة المرحلة الانتقالية، تبدأ بانتخاب مجلس وطني تأسيسي، لإدارة هذه المرحلة: مهمته تشكيل حكومة انتقالية وكتابة دستور جديد، ثم الإشراف على الانتخابات التشريعية فالرئاسية. هذا هو الخط المستقيم الذي سارت عليه مرحلة التحول في تونس. صحيح أن أزمات وعقبات وعراقيل وضعت في طريق هذا التحول، إلا أن المحصلة النهائية هي تنفيذ مساره.

على الجانب المصري، كانت ضربة البداية خاطئة، ومندفعة، لا تراعي المصلحة العليا لوطن خرج عن بكرة أبيه إلى الميادين طامحاً في التغيير الشامل. سعت قوى الإسلام السياسي، بما تملك من قدرة على حشد كوادرها في الشارع، على توجيه دفة الأمور إلى صالحها، وليس لصالح الوطن، وانصاع المجلس العسكري الحاكم، لإرادة قوى الإسلام السياسي.

لقد توهّمت قوى الإسلام السياسي،أن حشد كوادرها، يعني حشدا شعبيا. فأصرت على تخطيط مسار تحول، يبدأ بإعلان دستوري، ثم انتخابات برلمانية، ثم لجنة لكتابة الدستور يختارها المجلس المنتخب. هذا المسار الانتقالي، حمل في طياته عوامل فنائه، لأنه اعتمد على قوة المغالبة والاحتيال السياسي. وتسبب في تكريس الانقسام في وقت مبكر للغاية من عمر الثورة المصرية.

ثالثا- الواقعية والتوهم السياسيان

 لا جديد في أن تنطلق  قوى الإسلام السياسي، في مصر وتونس، من نفس القاعدة ويحلمان نفس الحلم، غير أن الواقعية السياسية كبحت جماح هذه القوى في تونس، بينما أطلق التوهم السياسي جماح تلك القوى في مصر.

تأسست هذه الواقعية في لحظات التوتر والأزمات الخانقة التي مرت به التجربة التونسية، ففي كل مرة يخرج فيها الشعب التونسي إلى الشارع معترضا محتجا على الترويكا الحاكمة التي تتزعمها النهضة، أو على محاولات إرهاب القوى الوطنية الأخرى، باغتيال بعض رموزها، كانت النهضة تناور بالعقل السياسي ما وسعها إلى ذلك سبيلاً، وتستخدم أقصى ما يمكنها لكسر إرادة المحتجين، ولكن في الوقت الذي تتأكد فيه النهضة من صلابة الإرادة الشعبية، تتحول إلى المرونة السياسية، شواهد ذلك:

(1) إقرار دستور جديد، صوت عليه بالموافقة 200 عضو من جملة 216، واعتراض 12 عضوا، وتحفّظ 4 أعضاء فقط، ولأن الأغلبية كانت بيد الترويكا (أحزاب النهضة والتكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية)، فقد ماطلت كثيراً، وحاولت تكراراً إدراج مواد لا يوافق عليها التونسيون، إلا أنها انصاعت في النهاية للحركة الجماهيرية، وأقرت المواد الدستورية التي يتوافق عليها كل أطياف الشعب التونسي.

(2) في أعقاب اغتيال المناضلين شكري بلعيد، ومحمد البراهمي، اندلعت المظاهرات، مطالبة بتخلي الترويكا عن الحكم، وتشكيل حكومة تكنوقراط،لإدارة الانتخابات التشريعية ثم الرئاسية، وهو ما حدث بالفعل في نهاية يناير2014.

 (3) قبول النهضة بمبدأ تداول السلطة، وإقرارها بالهزيمة أمام حركة نداء تونس في الانتخابات التشريعية، واستعدادها للعمل في صفوف المعارضة.

 (4) حسم النهضة قرارها بعدم تقديم مرشح للانتخابات الرئاسية، ما ينم عن نضج سياسي، وحنكة في مراعاة الوضع الداخلي في تونس، جنبا إلى جنب مراعاة الأوضاع والمتغيرات الإقليمية والدولية، وقراءة جيدة لتحول الموقف الغربي والأمريكي بخصوص تجربة حكم قوى الإسلام السياسي في الشرق الأوسط.

صحيح أن هذه الواقعية السياسية تأسست أيضا في حاضنة اجتماعية مختلفة عن السياق المصري، أهم سماتها:

لم تستوعب القوى الإسلامية أن ممارسة العنف، في مواجهة مؤسسة الجيش بالتحديد، يعني انتحاراً بالمعنى الحرفي للكلمة،

 (1) انخفاض عدد الشهداء والمصابين في الثورة التونسية بشكل عام، ما أدى إلى التئام الجروح السياسية بشكل عاجل، وقد اختارت مختلف القوى السياسية في تونس (ما عدا الجبهة الشعبية) مبدأ المصالحة الوطنية في التعامل مع بقايا النظام القديم، تاركة مصيرهم مرهونا بالصندوق الانتخابي. (2) على الرغم من تكرار الحوادث الإرهابية التي طالت رموز سياسية، وعناصر من الجيش والشرطة التونسية، فإن الوضع الأمني هادئ ومستقر مقارنة بالوضع المصري.

 (3) يتمتع المجتمع المدني التونسي، وخاصة التشكيلات النقابية بقدر معقول من القوة، تتيح لها التأثير في العملية السياسية، ودليل ذلك الدور الحاسم الذي لعبه كل من اتحاد الشغل، وهيئة المحاميين التونسيين، ورابطة حقوق الإنسان، في إصدار القانون الانتخابي الذي حظي بموافقة كل القوى السياسية، والذي على أساسه نجحت الانتخابات التشريعية والرئاسية.

(4) التجانس العرقي والديني – الغالبية العظمى عرب سنة-، إلى جانب انخفاض نسبة الأمية، وارتفاع وعي المواطن التونسي، هذه العوامل مجتمعة، منعت العابثين في الشأن التونسي من إحداث الفرقة والانقسام والفوضى.

مقابل ذلك تأسس التوهم السياسي في مصر، على القراءة الخاطئة أحيانا، ومن التفسيرات الخرافية المحقرة منحركة الجماهير في أحيان أخرى. هنا يلتقي العقل السلفي المتزمّت مع العقل الإخواني النفعي، منتجاً سبيكة، لا تمتلك أدوات ومهاراتالممارسة السياسة. شواهد ذلك عديدة نكتفي منها بالتالي: (1) تحويل المناسبات السياسية، بدءاً من الاستفتاء على الإعلان الدستوري، إلى معركة بين الاسلام وخصومه، أو ما عرف حينها بغزوة الصناديق.

 (2) العمل الحثيث على وصم واتهام الأقباط، وافتعال المشاكل مع الكنيسة باستخدام السلفية المتطرفة. (3) العمل على وصم واتهام أجهزة الدولة ومؤسساتها، الجيش والقضاء على وجه الخصوص.

 (4) وضع القوى المدنية – العلمانية-  موضع الاتهام بمحاربة الدين.

 (5) الإصرار على الانفراد والمغالبة.

 (6) التيبس والعناد والتكبر عن الإقرار بالأخطاء ومراجعتها.

ومن جملة هذه الشواهد، تخلت هذه القوى عن الممارسات السياسية المتعارف عليها، وانحدرت إلى ممارسة العنف، سبيلا لتحقيق أهدافها، ظهر ذلك جلياً خلال بتحريك القوى السلفية لمجابهة الجيش في مشهد ساذج وعبثي، ومحاصرة الكوادر الإخوانية لمبنى المحكمة الدستورية، وغيرها من الحوادث. ولم يتوقف التلويح بالقوة أو استخدامها طوال فترة رئاسة محمد مرسي.

لم تستوعب هذه القوى أن ممارسة العنف، في مواجهة مؤسسة الجيش بالتحديد، يعني انتحاراً بالمعنى الحرفي للكلمة، فالمعروف تاريخيا، أن المؤسسة العسكرية، تمنع المنتمين للتيارات الدينية من الانتساب إليها، ما يعني استحالة أن تتم استمالتها. ويترتب على ذلك أنها ستكون الطرف الذي يتصدى للعنف حال حدوثه، وأيا كان مصدره. ومن المعروف أيضاً أن المؤسسة العسكرية في مصر تتمتع بقاعدة اجتماعية عريضة داخل المجتمع المصري، ويترتب على ذلك التسويغ الجماهيري، الذي يتنظر الأدوار التي تقوم به المؤسسة في حماية الأمن الداخلي خلال المرحلة الانتقالية.

خاتمة:

جملة القول: إن الإسلام السياسي في مصر أراد الحكم عن طريق: التمدد والإقصاء والقفز على المكتسب الثوري، ومحاولة محاكاة النموذج الثوري الإيراني. وعلى العكس، كان الانكماش والانصياع لحركة الجماهير، والتشارك في المكتسب الثوري، وتقدير قوة الخصم، أسلوبًا واقعيًا من أجل الحفاظ على الوجود السياسي المشروع لقوى الإسلام السياسي في تونس.

بفضل الواقعية السياسية، بقي حزب النهضة في تونس،  رقما صعبا في المعادلة السياسية، وأحد مكونات النظام السياسي للجمهورية الثانية، بينما التوهم السياسي لهذه القوى في مصر، أدى إلى خروجها من المعادلة السياسية على الأقل خلال السنوات العشر القادمة.

ويلاحظ القارئ أن تحليلات عدة، تذهب إلى أن التجربة التونسية استفادت من التشتت والتخبط اللذين أصابا التجربة المصرية في عاميها الأول والثاني، والواقع أن هذه التحليلات غير دقيقة، والصحيح أن العقل الإسلامي السياسي المصري، فشل في فهم حقيقة الوضع في مصر، كما فشل في الاستفادة من التجربة التونسية، بينما العقل  الإسلامي السياسي التونسي، نجح إلى حد كبير في رؤية المشهد السياسي المحلي، وتعاطى بجدية مع المشهد المصري.

بكل اطمئنان، يمكن القول: إن تونس عبرت إلى الجمهورية الثانية، بأقل الخسائر، وبرغم أنها لم تنجح شأن الحالة المصرية، في بناء نظام سياسي جديد، يمثل قطيعة كاملة مع ما سبق من نظم، فإن الأمل الذي ينتظره التونسيون، هو توكيد هذا العبور، عبر احترام الدستور الجديد، وممارسة الحكم الديمقراطي الرشيد، وعدم وضع العراقيل أمام تداول السلطة مستقبلا.

* شكر واجب

أشكر الدكتور منصف القابسي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة صفاقس، على أفكاره التي طرحها في نقاشنا حول هذا الموضوع، وعلى تفضله بمراجعة هذا المقال وإبداء الملاحظات عليه.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟