الاهتمام الكبير خليجياً وعالمياً بتهاوي أسعار النفط إلى النصف، طبيعي جداً، بل المثير للدهشة أن لا يكون، خصوصاً في منظومة مثل دول الخليج، لا يزال السائل الثمين يشكل قصب حياتها وازدهارها.
لكن هذه المنطقة من العالم، في الوقت نفسه هي الأجدر بأن تكون أكثر تحرراً من إرهاب الأسعار، الذي غدا المحللون السياسيون والاقتصاديون يكوون بها دول المنطقة، كما لو أنها قاب قوسين من الإنهيار، أو أنها أشجار تُسقى بماء واحد، هو «النفط»، وما إن يتراجع أو يتوقف حتى تصبح قفرا. مع أن حرب الأسعار الراهنة ليس متوقعاً في رأي المحللين أنفسهم، أن تعيد ما بعد حرب تحرير الكويت في 1991، عندما بلغ سعر البرميل 10 دولارات.
مرحلة الهبوط السابقة، لا بد أنها أعطت الخليج درساً قاسياً، خصوصاً أنها جاءت في أعقاب حرب مستنزفة، لم تترك من المدخرات شيئاً، بل حملت دولة غنية قبلها مثل السعودية ديناً عاماً ثقيلاً. لكن الدرس لم تترجم دعواته بتقليل الاعتماد على صادرات النفط، إلى واقع ملموس. ساعد في ذلك تحسن الأسعار بعد ذلك، ثم عاد الرخاء مجدداً، وبلغ سعر البرميل نحو 150 دولاراً لسنين عدة.
ذلك تاريخ معروف، والخروج من «رق النفط» واعتباره مثل بقية السلع التي ترتفع وتهبط، من دون أن يرتبط بها مصير دول، حلم خليجي، ستبلغه يوماً طوعاً بفعل السياسات، أو كرهاً بفعل دورة التاريخ الطبيعية، إذ لا يمكن أن تبقى سلعة واحدة بهذه الحيوية كل التاريخ.
لكن ماذا لو رجع الناس المرهبون للناس بهذا الهبوط، أعواماً قليلة إلى الوراء، ليسألوا: هل كان الخليج بالفعل «هبة النفط»، مثلما أن «مصر هبة النيل»، على حد قول أحد الزملاء في صحيفة سعودية؟ وهل سر فاعلية المشرق الخليجي مقصور على ذلك الذهب الأسود، وما سوى قبض أثمانه لا يحسن الخليجي إلا ركوب البعير، والمشي خلف ماشيته بأطماره البالية، كما يقدح يساريو العرب؟
صحيح، أنه سوى «النبوة» لم يمر على الجزيرة العربية في كل تاريخها، ما ترك فيها الأثر الذي تركه «النفط»، بل إن أثر «النبوة» نفسه لم يكن في مستواه المادي مثل «النفط»، ذلك أن عرب الجزيرة سريعاً ما فتحوا الأمصار واستهوتهم حضارات دمشق والعراق وفلسطين ومصر ثم المغرب والأندلس، وبقيت الجزيرة العربية محاصرة بالطبيعة وتجاهل أبنائها الذي صنعوا الأمجاد في ما وراء البحار وتركوها تصارع الرياح السوافيا. ومن مر بها، فليس إلا على سبيل العبور إلى الحرمين الشريفين حاجاً أو معتمراً.
لكن هذا لا يمنع الاقرار بأن رخاء الخليج اليوم، كانت بداياته سابقة للنفط، وليس هذا من قبيل آيات التطبيل الشائعة، إنما القصة موثقة، وحين نعود إلى ما كتب في ذلك الحين بعد 1900 من القرن الماضي، حتى قيام الدولة السعودية مثلاً في 1932، نجد أن معجزة هذه الدولة الأكبر بين دول الخليج، تمت في أهم أجزائها، قبل أن يكتشف النفط، أو تبلغ منتجاته مداها او فاعليتها الراهنة في التأثير.
كانت معجزتها في «رؤية رجل»، هو الملك عبد العزيز آل سعود، تمكن بعبقريته من توظيف مبادئ وتاريخ وفرص وتناقضات دولية كثيرة، في بناء دولة مترامية الأطراف في اللحظة التي كانت الامبراطوريات تتمزق، بإمكانات يسيرة، لم يكن من بينها سيارة ولا طيارة ولا دبابة ولا نفط.
وما قيل عن الملك عبد العزيز يقال كذلك عن بقية حكماء بلاد الخليج النفطية. وما كان العراق يوماً يقارن بها، وهو قد آل إلى محنته، في وقت كانت أسعار النفط تشهد جنوناً وارتفاعاً. وها هي دمشق «سرة الكون»، تنهار، وتنهشها الطوائف، ليس بفعل النفط الذي ما كان يوماً عمودها. إذاً سعر النفط ليس هو العاصم، طالما أن الحكم الرشيد هو السمة الباقية في بلاد، هي أصلاً أرض المعجزات، نبوة ونشأة ونفطاً. نقلا عن الحياة
*صحافي من أسرة «الحياة».