الفوضى في روسيا – التي تشمل الروبل المتدهور والتحكم في العملة والانكماش الاقتصادي ومحاولات إنقاذ المصارف– هي مشكلة محصورة بروسيا، كما تباطؤ النمو في الصين، وهما يفترقان عن السياسة النقدية العالمية. بيد أن ذلك يحمل القلق إلى المستثمرين المهتمين بالأسواق الناشئة.
في واقع الأمر، بدأت مشكلات الأسواق النامية قبل ستة أعوام، أثناء الفترة الأسوأ من الأزمة المالية. ولدت هشاشة الأسواق الناشئة من انتقال عدد من المصارف المركزية في الدول النامية الى معدلات الفائدة الصفرية في مسعى لدفع النمو في اقتصاداتها الضعيفة. تصدر الاحتياطي الفدرالي الأميركي [المصرف المركزي] هذه الدرب ببرامج الضخمة في التسهيل النوعي لشراء السندات الحكومة والأوراق المالية المتعلقة بالرهونات بعد انهيار شركة «ليمان براذرز» أواخر 2008. بعد ذلك بقليل، تبعه أكثر المصارف المركزية الكبرى، التي انضمت إلى الولايات المتحدة في تقليدها اليابان المعتمِدة الفوائد الصفرية قبل أعوام.
بدء برنامج التسهيل الفدرالي أتاح للمستثمرين اقتراض كمية ضخمة من المال من دون فوائد تقريباً، لكن اعتقاد الحكومة أن الأموال هذه سيعاد استثمارها في المصانع الأميركية وفي إيجاد فرص العمل، لم يتحقق. بدلاً من ذلك، حصل دفق هائل من «المال الساخن» -الباحث عن تحقيق أعلى الأرباح في أقصر فترة- الذي ضُخّ من الاقتصادات المتطورة إلى الأسواق الناشئة بحثاً عن عوائد أعلى. وفي الوقت الذي تبدو استثمارات رؤوس الأموال الأجنبية مرحباً بها، فالحال ليس كذلك بالنسبة إلى التدفقات، فـ «المال الساخن» غير ثابت، ويُستخدم في المضاربة، ذلك أن تدفق رؤوس الأموال القابلة للسحب بسرعة يختلف عن المال المستخدم في مشاريع رأس المال طويلة الأمد. العارض الجانبي هذا كان علّة ارتفاع قيمة عملات الأسواق الناشئة الى مستويات جعلت الاستيراد من بعض الأسواق الناشئة أقل تنافسية.
بالانتقال الى 2013، تغير العالم تغيراً عميقاً. فجأة انقلبت حروب العملات بعدما تحدثت واشنطن عن تشديد سياستها النقدية، وبعد المؤتمر الموسع للحزب الشيوعي الصيني في أواخر 2014، سحبت بكين رسمياً دعمها النمو الاقتصادي المتطلب لرؤوس أموال كبيرة والموجه للتصدير لمصلحة نموذج موجه إلى المستهلك بغية إعادة التوازن إلى اقتصادها. بدأ التدهور في أسعار السلع الصناعية كالنحاس والألومنيوم والقصدير، وتراجعت اقتصادات الأسواق الناشئة. وراحت أزمة الأسواق الناشئة منذ مطلع 2014 تتطور. وبحلول نيسان (أبريل) انتهت الأزمة الصغيرة. لكن إمكان وقوع موجة ثانية ظل قائماً. في نهاية المطاف، تابع نمو الصين تباطؤه، وبحلول الصيف بدأ أثر أسعار النفط في الظهور.
عندما باشر النفط انحداره في حزيران (يونيو) 2014، كان جلياً أن الاقتصاد الروسي الذي أضعفته العقوبات الغربية غداة ضم شبه جزيرة القرم والقتال في شرق أوكرانيا، سيصاب بالأذى. تراجعت النقاط الأساس في فائض العرض وفي الطلب. بيد أن وتيرة تراجع الأسعار حملت سمات انعدام القدرة على التوقع الشبيهة بالذعر.
ولأنها كذلك، لم تكن أزمة النقد في روسيا غير متوقعة تماماً.
مهما يكن من أمر، فالأمر الأجدر بالاهتمام هو كيف هيمنت معدلات الفوائد الاسمية (التي لا تشمل معدلات التضخم) في الاقتصادات المتطورة على نقاش سندات الأسواق وأثرت على استراتيجيات الاستثمار. المعدلات الاسمية المنخفضة أو حتى السلبية، هي السياسة المنفردة الأكبر أثراً غداة الأزمة المالية. لكن الأسواق الناشئة ستتألم كذلك، خصوصاً من دولار قوي، جراء السياسة الكبرى «الماكروية» السابقة، فالضعف الاقتصادي يعني في أوروبا واليابان والصين وغيرها، أن معدلات الفائدة المنخفضة والسياسات النقدية المتساهلة ستستمر، بيد أن إشارات التحسن الاقتصادي الأميركي توحي بمتابعة سياسة متشددة. وتسبب دولار قوي في أزمات مالية متعددة في العقود القليلة الماضية، حيث تتلقى الأسواق الناشئة ضربة ماحقة كل مرة تقريباً. والقروض التي يهيمن الدولار عليها خيار مغر لمصالح الحكومات والشركات الكبرى، سواء بسواء عندما لا يكون لدى الاقتصادات الناشئة أسواق رؤوس أموال عميقة. لكن الدولار يسمم هؤلاء المقترضين، لأن ملاءتهم ترتفع مع ارتفاع الدولار في حين تظل قيمة أصولهم المحلية على حالها.
هل يعني ذلك أن الأمر سينتهي نهاية سيئة؟ لا. لكن هل البقاء المرجح لسمة الركاكة يصعّد الأزمة عندما تطوى صفحة السياسة الكبرى بما يفضي الى تعزيز الاحتياط النقدي؟ قطعاً. روسيا ليست سوى «طائر كناري في منجم فحم» (يستخدمه عمال المناجم لكشف مستوى أول أوكسيد الكربون فيموت اختناقا إذا ارتفع المستوى قبل العمال). وتقود لعبة الدولار القوي التي تلعبها المصارف المركزية العالمية مع الجيران الفقراء، الى زيادة درجة انعدام الاستقرار، ومعها إمكان وقوع أزمة جديدة. نقلا عن الحياة
* مؤسس صندوق «كرديت رايتداونز» الاستثماري وديبلوماسي سابق، عن «فورين بوليسي» الاميركية، 6/1/2015، إعداد حسام عيتاني