المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
جان - بيار لوغوف
جان - بيار لوغوف

الأسباب الموضوعية للإرهاب والقيم الديموقراطية السمحة لا تستبعد القوة والحزم والوطنية

الأربعاء 21/يناير/2015 - 11:18 ص

حركة الغضب والتضامن التي ثارت في فرنسا كلها على بربرية الإرهاب الإسلاموي تثلج القلب: فهي صادرة عن شعور وطني، وعن تعلق بالقيم الجمهورية أعلنه الفرنسيون بقوة وأيدته الدول الأوروبية تأييداً أخوياً، ومعها الولايات المتحدة وشعوب العالم المتمسكة بالقيم الديموقراطية. هذا هو الدرس الأول الذي ينبغي ألا ينسى ويبعث الارتياح فينا. لكن عوامل مثل الانفعال والغضب والوحدة الوطنية الضرورية يجب ألا تحول بيننا وبين النظر والتفكير في الامتحان الذي نتعرض له. فما تقوضه الاغتيالات الإرهابية التي ارتكبت من غير انفعال وتدحضه هو ذهنية مسالمة وودودة غلبت في فرنسا، وفي عدد من البلدان الأوروبية، منذ أكثر من 30 عاماً ولا ينجم عن تبدد هذه الذهنية بالضرورة فهم واضح لما يحصل في بلادنا. ومشاهد العنف والألم التي يبثها التلفزيون من غير انقطاع تجبهنا فجأة بالفظاعة وتقلب رأساً على عقب معايير الاستدلال الشائعة والمتداولة.

وهذا ما يسعى المجرمون الذين يتوسلون بالإرهاب إليه، ويذهب بالقدرة على الفهم والمقاومة. فتبدو هذه القدرة، للوهلة الأولى، معلقة. والإرهابيون يريدون أن يتملك الناس شعور بالعجز أمام تهديد غير محدد المصدر وقد يتجسد في فعل قاتل في أي لحظة. ويشيع التهديد مناخاً من القلق والاضطراب يخيم على المواطنين. وتصاحب الإرهاب الإسلاموي مقالات تنضح كراهية ضد الغرب، وضد «اليهود والصليبيين» وكل أشياع الشيطان. ويحمل مواطنو البلدان الديموقراطية الذين حسبوا أنفسهم بمنأى من اضطرابات العالم هذه المقالات على جنون، وعلى أحكام من عصر طوي. ولا يسعف هذا الموقف في فهم الجرائم المرتكبة.

وتزعم مقالات مبتسرة أن دعوات الكراهية والأفعال الجرمية ليست إلا أعراضاً للأحوال الاجتماعية والاقتصادية، ونتائج تترتب على التمييز وعلى سيطرة البلدان الغنية على البلدان الفقيرة... ويتوهم أصحاب المقالات المبتسرة أن مكافحة الإرهاب تقتصر على «تجفيف مياهه» والتصدي للأحوال الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تمهد له بيئته. وهي حال من يهاجمه قاتل عقد العزم الأكيد على قتله، ولا يتستر على عزمه، فلا يحمل الأمر على محمل الجد، ويصرف همه إلى معرفة الأسباب «الموضوعية» (وليس «الأيديولوجية») التي تحفز القاتل على القتل.

ويذكر هذا الخلل الفكري الذي يؤدي إلى الانقطاع من الحياة العادية والتجربة المشتركة بمواقف مثقفين من استيلاء النازية على ألمانيا. فيومها استرسل هؤلاء كلٌ مع نظريته في هتلر والتهوا بنظرياتهم عنه وعن محاربته. وهذا ضرب من العمى أو من ترك التصدي لعقلية متعصبة تبطل مراجعنا الأخلاقية وأطر تفكيرنا. وعلينا الاعتراف بأن منطق التذرع للمقتلة بالأعذار دام طويلاً ويجب بته. والحادثة القريبة تقوض هذا الرأي الذي غلب في بعض أوساط الشباب والمثقفين اليسارين المتطرفين والصحافيين المناضلين.

وقد يلجأ بعضهم الى تعليلات نفسانية (مثل الزعم أن «مختلين» أقدموا على أعمال خرقاء). وتُعَد خلايا تتولى المساعدة والمشورة بعد الصدمة. والحق أن البعد النفساني والعصبي المرضي لا ينكر، ولكنه لا يدعو إلى الاطمئنان أو التهوين من وقع العمل. والتعصب الديني، الإسلاموي في هذا المعرض، والأيديولوجيات القاتلة، عموماً، ليست ثمرة طليقة لنوازع مدمرة فحسب، فهي جزء عضوي من نظام اعتقادي متماسك تترتب عليه رؤى للعالم والحياة والموت والسلطة. وهذه الرؤى تعين العدو، وتدل عليه، وتدعو إلى قتاله وقتله. وهذه الحقيقة هي ما يتعذر على أفراد، محورهم من أنفسهم ويحسبون العالم امتداداً لها، مجابهته والتصدي له. فالمجتمع المشرذم والمنقطع من التاريخ، يميل أهله إلى نصب التعليل النفساني مثالاً ومرجعاً شاملين وعامين، ويغلبون الانفعال وأخلاق المشاعر الخيرة على المقالات السياسية. وعلينا ألا نهوِّن من مكامن ضعف الديموقراطية. فالإرهاب الإسلاموي يتخذ من مكامن الضعف مطيته.

ففي فرنسا، وفي بلدان أوروبية أخرى، ليس في مقدور شطر من الرأي العام الاقتناع بأن ثمة أعداءً يريدون تدميرنا وعلينا محاربتهم بحزم وصلابة في إطار دولة القانون (أو الحق). فنحن نوقع على عرائض، ونضيء الشموع، ونمسك الأيدي، ونتظاهر في صمت... وهذه مظاهر استنكار وتضامن مع الضحايا، ومرآة إجماع بلد على رفض الإرهاب. لكن طريقة هذه المظاهر في بلورة القيم الديموقراطية قد توهم بأن الكلمة الفصل في المعضلات هي على الدوام للانفتاح والتسامح، ولا دور للقوة والسلطة والحزم في الدفاع عن القيم الديموقراطية.

ويطبع الالتباس كثيراً من مواقفنا. ففي 2004، أهدت بلدية باريس «ليلة بيضاء» إلى فرانسواز ساغان («امرأة أحبت الليل») وإلى الرهائن الأسرى، معاً. والإهداء المزدوج هو قرينة على بُعد الشقة بين ذهنية احتفائية وبين تحديات تجبه المجتمعات الديموقراطية. والمشكلة، على ما قال جوليان فروند، هي أن رغبة واحدنا في التخفف من العداوة والأعداء لا تستتبع إقلاع العدو عن العداوة، ولا عن اختياره واحدنا عدواً له: «وإذا اختارك فعلاً عدواً، في مستطاعك تقديم أسمى آيات الصداقة له (من غير طائل)، فأنت عدوه ما إن وقع اختياره عليك، ولن يسعك الاعتناء بحديقتك».

وشاءت فرنسا أم أبت، فهي تخوض حرباً على الإرهاب الإسلاموي في أفغانستان ومالي والعراق. ولهذا الإرهاب شبكات في قلب بلدنا. وهذه الوقائع والحقائق، لا يريد كثيرون منا قبولها والصدوع بها. فهم يتوهمون، منذ سنين، أننا نسبح في عالم مسالم. فأفق نهاية التاريخ المفترض يستتبع نهاية البعد المأسوي الذي يلازم التاريخ. وصاحبت هذا الاعتقاد أخلاقيات حقوق الإنسان وليبرالية اقتصادية أوهمتنا بأن «الحوكمة» هي الحل الناجز، وبأن احترام الحق والحوار بين المجتمعات هما جواب كل المعضلات، ولا شأن في الأمر للمصالح، ولا لموازين القوة، ولا لإرادة التغلب.

ولا يعقل أن السياسيين الذي كان عليهم التصدي لظواهر الإرهاب غابت عنهم هذه الاعتبارات. لكن النهج الذي انتهجوه في بناء الاتحاد الأوروبي قوّى أوهام شطر من الرأي العام مال إلى خلط السياسة بـ «حقوق الإنسان»، بل حَمَل السياسة على أخلاق الطوية المنزهة عن الغرض والمصلحة. وغفلت المجتمعات الديموقراطية، في أعقاب الحقبة الكليانية (التوتاليتارية) وتحت وقع ذكريات الحروب المدمرة والبربرية التي خاضتها في أوروبا، عن خصوصية السياسة، والفرق بينها وبين الحقوق والانفتاح والحوار. وفي فرنسا، حلت ذاكرة نادمة ومعذبة محل الرواية التاريخية الوطنية وغلبت على هذه الرواية. ودعت إلى الندم والتكفير عن الماضي روابط وجمعيات إتنية وأهلية غذت الضغينة على النفس وكراهيتها. ومثل هذه الذهنية تفرقنا وتقسمنا، وتعرينا من أدوات دفاعنا عن أنفسنا تجاه من عقدوا العزم على هدم بلدنا وديموقراطياتنا في أنحاء العالم. وتقتضي الوحدة الوطنية في مقارعة الإرهاب الإسلاموي طي تحقير النفس واستعادة الثقة بها.

والإغضاء عن تسمية العدو جزء من الغفلة السياسية. وذكر جان – فرنسوا كان، في الـ «فيغارو» بأن أول من بادر إلى استعمال عبارة «الإرهابيين الإسلامويين» كان الجبهة الوطنية (القومية اليمينية). وارتبك بعض السياسيين حين اضطروا إلى القول أننا في حرب، وإلى تسمية أعدائنا. وقبلها، لجأ بعضهم إلى تفادي استعمال اسم «الدولة الإسلامية»، وأرادوا الاكتفاء بـ «داعش»، وعللوا الأمر بأن «داعش» تجنب «الالتباس بالإسلام و (الديانة) الإسلامية والمسلمين». فالخشية المبرَّرة من الالتباس لا تسوغ العمى عن الوقائع، ولا الكلام على إرهاب غفل نشأ من عدم، وجاء من لا جهة، ووقع على البلد وقع الكارثة الطبيعية. وهذا شأن التلميح المزمن إلى تعاظم قوة اليمين المتطرف في أوروبا، والإغضاء عن التصدي له، وحال بعض الصحافيين المناضلين اليساريين الذين حملوا مناهضة الفاشية (أي التصدي للجبهة الوطنية) على هوية مزهوة بنفسها.

وهذا كله يائس ويدعو إلى الازدراء قياساً بالمحنة التي تصيبنا. وعلينا القول بصراحة أن الهجس بـ «الفاشية المظفرة» على مثال ماضٍ ومنصرم هو شكل من أشكال الانكفاء الذهني ورفض التصدي للتحديات الفعلية والمعاصرة ومماشاة اليمين المتطرف وممالقته. وهذه اللعبة التي يختص بها يسار أحمق متعصب، يعتاش من الدوران في حلقة مفرغة هو وغريمه، دامت ما يكفي من الوقت، وينبغي هجرها. فرفض التخليط والالتباس، ومكافحة رهاب الإسلام، وقمع العدوان على المساجد وأماكن العبادة كلها لا تسوغ التغاضي عن المسائل التي تقلق الرأي العام. ومن هذه المسائل: كيف انتهت الحال بفرنسا إلى أن تتحول بلداً يقتل فيه مواطنون بذريعة القذف وحرية الرأي، ويقتل أطفال ومواطنون بذريعة «يهوديتهم»؟ ماذا حصل لفرنسيين شبان اعتنقوا الإسلام فانقلبوا إسلامويين أصوليين وجماعات بربرية ودموية؟ كيف هاجروا إلى «الجهاد» في بلدان انفـــجرت فيها حـــرب أهلية ثم عادوا إلى بلدنا، وإلى بلدان ديموقراطية أخرى، حاملين معهم الإرهاب؟

والإجابة عن هذه الأسئلة تفترض فهم أحوال «الجهاديين» ونفسياتهم الخاصة، وتعصبهم، كما تفترض إلى ذلك فحص السنوات التي، أفسح فيها المجال لنمو إسلام أصولي قد لا يكون واحداً مع الإرهاب، ولكنه مهد التربة للإرهابيين في معظم الأحيان والأوقات. ويقتضي هذا تعقب تمويل المساجد وأئمتها، من دعاة غلو أصولي، وتفحص دور بلدان تربطنا بها روابط الصداقة. ويصدق هذا على خطابات الكراهية ومعاداة السامية المنتشرة على شبكات الاتصال الاجتماعي. ومجابهة هذه المسائل من غير الإحساس بالعجز ليست بالأمر اليسير. والبناء المتصل في هذا المضمار لن ينجز في يوم واحد. وما ينبغي علاجه عاجلاً هو الإقلاع عن التنديد بمثالاتنا الجمهورية باسم «تعدد ثقافات» متهاوٍ ومتداع، وباسم فردية متباكية، يتضافران على نخر ثقتنا في أنفسنا. نقلا عن الحياة

 * كاتب وباحث في الاجتماعيات، عن «لوفيغارو» الفرنسية، 12/1/2015، إعداد منال النحاس

 

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟