المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د. عبد العليم محمد
د. عبد العليم محمد

خواطر حول مذبحة «شارلى إيبدو»

السبت 24/يناير/2015 - 12:12 م

تستحق مذبحة «شارلى إيبدو» فى باريس وما تزامن معها فى المتجر اليهودى كل الإدانة والاستنكار، بكل وأقصى معانيهما، وهذه الإدانة وذلك الاستنكار لهذه الجريمة البربرية هما نمط الاستجابة والمشاعر التلقائية والعقوبة والفطرية، التى تتبادر إلى ذهن الأسوياء من البشر.

وإذا كان ذلك هو نمط المشاعر العفوية لدى غالبية الناس الأسوياء، فإنه يضاف عليه فى حالة كاتب هذه السطور، أنه مدين لفرنسا؛ حيث خصصت لى حكومتها فى نهاية السبعينيات منحة دراسية صغيرة ومحدودة، ولكنها مع ذلك وضعتنى فى بداية الطريق الذى كنت أود أن أسلكه فى الدراسة والتحصيل، مثلت هذه البداية مرحلة جديدة فى البحث والفضول المعرفى والتكوين الثقافى والعقلي، من معالمها تملك ومعرفة لغة جديدة وهو ما يعنى فتح أفق جديد ومختلف لرؤية العالم والأشياء والإنسان.

ومع أن الإدانة والاستنكار بكل معانيهما هما أول خاطرة حول هذه الجريمة النكراء، فإنها تفتح الباب أمام العديد من الخواطر والأسئلة، والتى يبدو للكثيرين أن الوقت ليس ملائماً لطرحها، لا من زاوية الصدمة وضرورة التعاطف والتضامن مع هذا البلد الصديق ومع ضحايا تلك الجريمة، أو من زاوية استحواذ مشاعر الصدمة والحزن على الأذهان، ويبدو أن ذلك صحيح، إلا أن الأمانة مع النفس ومع الغير تتطلب البوح بهذه الخواطر وطرح هذه الأسئلة بهدف سبر أغوار هذا الحدث الشنيع وخلفياته ودلالاته فى الحال والاستقبال.

يتعلق السؤال الأول بهوية الأخوين «كواشى» منفذى هذه الجريمة، حيث ولد هذان الشابان فى فرنسا وعاشا فيها وحملا جنسيتها، وينتميان إلى الجيل الثالث أو الرابع من المهاجرين فى فرنسا، كيف يحمل هذان الشابان كل هذا الحقد الأسود ضد البلد الذى عاشا فيه وولدا وحملا جنسيته؟ وإذا كانا قد عانا كغيرهما من أبناء الضواحى والمهاجرين من العنصرية والمعازل و«الإسلاموفوبيا» والصورة السلبية السائدة عنهم لدى الفرنسيين، وتراكمات ومخلفات الحقبة الكولونيالية وجروحها، فإن فرنسا تقدم لهم ولغيرهم الديمقراطية وآلياتها التى تفتح الباب لهم لتنظيم احتجاجاتهم وغضبهم فى إطار القانون والنظام الذى ينظم الفضاء العام، وفضلاً عن ذلك فالديمقراطية تخلق منافذ ومسالك وأدوات لتصحيح الاختلالات الاجتماعية والسياسية وتجديد أطر المشاركة السياسية وفق القواعد المستقرة.

ظاهرة الأخوين «كواشى» تشير من قريب إلى طبيعة سياسات الإدماج والاندماج للمهاجرين من ذوى الأصول الإسلامية، وضرورة إعادة فحص أسسها ومبادئها وفاعليتها، وقد تشير هذه الظاهرة إلى جاذبية وفاعلية التنظيمات الإرهابية وتأثير خطابها فى دوائر المهمشين والمعزولين فى الضواحى الفرنسية.

أما السؤال الثانى فيتعلق بتراجع الخطاب الثقافى والعلمى وسيطرة الخطاب السياسى على المشهد العام فى فرنسا، إزاء قضايا الهجرة والأقلية المسلمة فى فرنسا، تبنى هذا الخطاب مقولات تبسيطية لفهم أزمة المجتمع الفرنسى واختزال هذه الأزمة فى ظاهرة المهاجرين والمسلمين، وقام برسم حلول مجتزئة وبسيطة للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية عبر التخلص من المهاجرين وتشديد فرض القيود، ولم تسلم كافة أشكال الخطاب السياسى الليبرالى والاشتراكى من تأثيرات سطوة الخطاب اليمينى المتطرف.

حضور الخطاب العلمى والثقافى فى هذا المجال من شأنه أن يكشف التعقيد الكامن فى هذه الظواهر، وتركيبها الاجتماعى والثقافى والسياسي، وأن يقلص أوهام البحث عن الحلول السريعة والناجزة، تلك الحلول التى لن توجد فى ظل التعقيد الحالى للمشكلات ليس فحسب فى فرنسا بل فى أوروبا والعالم، فليست هناك حلول ناجزة، بل حلول نسبية أو بالأحرى حلول متجددة وفق الظروف.

أما السؤال الثالث فيتعلق بحرية الرأى والتعبير وهل هى مطلقة بصرف النظر عن إساءتها للمنظومات الاعتقادية والرمزية لدى الآخرين من البشر المنتمين لديانات وثقافات أخرى وهل هى مطلقة حتى لو قدمت لأنصار اليمين العنصرى والمتطرف الذرائع والأسباب لتشويه صورة مجموعات عرقية وبشرية تنتمى للإسلام وتمهد للاعتداء عليهم وسلب حقوقهم القانونية والمشروعة؟

استمرار هذا التعارض بين إطلاق حرية الرأى والتعبير وبين وضع حدود لها، ربما يعصف بالقيم العالمية والتشارك فى حضارة حديثة واحدة والمكونات الثقافية الكونية فى العديد من أرجاء المعمورة، ويقلص فى الوقت ذاته من إمكانية وجود معايير كونية يقبلها الجميع، ويتفق حول مضمونها، كما أنه يسوغ أيضاً ويبرر الاحتماء بالخصوصيات الثقافية والدينية والحضارية لمختلف المجموعات البشرية، وذلك بسبب ورفض الخضوع لقيم وحريات تمس معتقداتهم وتزدرى بها أو تفتح الباب أمام ذلك. لقد انتقد بابا الفاتيكان إعادة نشر مجلة شارلى ايبدو الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، كما انتقدها فى السابق الرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك، وهو أمر ذو دلالة فالأول يقبع على رأس الكنيسة الكاثوليكية فى العالم ورمزها وممثل سلطتها الدينية، والثانى كان يقبع فى منصب الرئيس الفرنسى فى قصر الأليزية ويمثل التيار الليبرالى والعلمانى فى السلطة الزمنية.

القاعدة القانونية العرفية تقول «لا ضرر ولا ضرار» و«أنت حر ما لم تضر» وأن حدود الحرية الفردية تقف عند حدود عدم الإضرار بالآخرين، حرية الرأى والتعبير المطلقة دون حدود تضر بالتعايش فى المجتمعات متعددة الأعراق والثقافات، كما أنها تضر بالتوجه الكونى والعالمى للمشاركة والاندماج فى الحضارة الحديثة ، وتعوق اعتماد حرية الرأى والتعبير كأحد مقومات الديمقراطية والحداثة السياسية.

هذه الأسئلة وغيرها الكثير ليس الهدف منها تخفيف جرم الإرهابيين أو التماس العذر لهم، فهؤلاء الإرهابيون ليسوا بحاجة إلى أعذار أو أسباب لارتكاب جرائمهم فهم يخلقون أسباب جرائمهم، بل يرتكبونها دون أسباب، ولو لم تكن «شارلى إيبدو» ورسومها لارتكبوا جرائمهم لدوافع أخرى من خيالهم المريض، ولكنها أسئلة تتعلق بهموم المنتمين للحضارة الحديثة أو يحاولون اللحاق بركبها باحثين عن مكان لهم فى إطارها. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟