بعد
انتهاء ثلاثة أيام العزاء فى والدى رحمة الله عليه، وبعد منتصف تلك الليلة دار
حديث فى المندرة بين مجموعة من أقاربى حول أوضاع مصر، وكنت المستمع المراقب
الحزين، وفى ذروة الخلاف ارتفع صوت أحدهم، وهوغير متعلم، ولا يعمل، شرس الطباع،
ميت القلب، قهر الفقر فصار أفقر منه، يعرفه كل ضباط الشرطة فى مركز سوهاج لكثرة
القضايا الجنائية التى كان طرفا فيها، من أشد المناصرين للإخوان والرئيس الأسبق
مرسي، وبنبرة حادة، واثقة، قال: هى جولة انتصر فيها السيسي…والجولة الجاية لمرسي.
هنا
سقط السقف فوق رأسي، ودارت بى ساحة المندرة حتى كدت أن أسقط أرضا….كيف وصل ذلك
الفلاح الأمي، المخالف دائما للقانون، المتمرد عليه إلى هذه القناعة؟… وأنا أعرف
جيداً أنه بعيد كل البعد عن جميع أنواع الجماعات الدينية، وعن التدين ذاته، وأعرف
أيضا أنه لا يقرأ كتبا، ولا صحفا، وبالكاد يشاهد التليفزيون. وما دلالة أن يكون
مثل هذا الشخص على هذه القناعة بأن العلاقة بين الدولة والإخوان هى جولات من
المصارعة أو الملاكمة؟
هنا
أدركت خطورة الموقف الذى تمر به مصر، وبعدها بأربعة أيام فقط وقع الحادث الإرهابى
فى العريش..وكان ما كان… هنا فقط أدركت أن أجهزة الدولة ومؤسساتها، وعلى رأسها
الإعلام الحكومى والخاص قد ضلوا الطريق، وتعاملوا مع الموقف طبقا لقناعاتهم،
ورؤيتهم، وما يتصورون أنه الحق والمصلحة، ونسوا أن هناك أجهزة أخرى تضخ فى أذهان
المصريين قيماً، ومعلومات، وتصورات على العكس تماماً مما يتصورون.
هنا
فقط أدركت أننى أتعلم من ذلك الفلاح الأمي، وأن الواقع ليس ما يرسمه، ويتصوره
المثقفون القابعون على أعتاب الفضائيات، ولا المذيعون الذين يملأون الدنيا صراخا
وعويلا، ويظنون أنهم يديرون الدولة، ويعطون الأوامر لرئيسها، وجهازها التنفيذي،
وأدركت أيضا أن قناة الجزيرة، وقنوات الإخوان الأخرى قد حققت نجاحا لابد أن نشهد
به وله، وأنه لابد أن تتعامل معها الدولة المصرية على أنها مواقع عدائية، لا تقل
خطورة عن العمليات الإرهابية، لأن تلك القنوات هى من تجند الإرهابيين، وتشحنهم،
وتبرر لهم، وتصنع منهم أبطالا.
هنا
أدركت أن قطر وتركيا استطاعتا بوسائلهما المختلفة أن تحققا ما خططتا له، وهو
المراهنة على عنصر الزمن؛ انتظارا للجولة الثانية من المواجهة، وأن هذه الجولة
الثانية يتم الإعداد لها بمنتهى الدقة، ويقودها تنظيم إجرامى تمرس على العمل السرى
ستين عاما، وتدرب على الصبر، وسياسة النفس الطويل، وتكيف مع كل وسائل التضييق
والمطاردة.
هنا
أدركت أن المماطلة القطرية فى تحقيق المصالحة مع مصر كانت مراهنة على عنصر الزمن
انتظارا للجولة الثانية، مع قناعة ويقين أن نتيجة الجولة الثانية هى لمصلحة
التنظيم الحليف، وأن كل ما تقوم به قنوات الجزيرة هو التمهيد للجولة الثانية،
والإعداد الجيد لها، وأن الموقف التركى الذى يخالف كل التقاليد، والأعراف
الدبلوماسية، ويتناقض مع المصالح الإستراتيجية العليا للدولة التركية ظاهريا، هو
موقف مبنى على نظرية الجولات، جولة على التنظيم الحليف، والمقبلة ستكون له.
يا
سادتي، أنتم ترون 30 يونيو ثورة شعبية عارمة غيرت وجه مصر، وصححت حركة التاريخ،
وأعادت ثورة 25 يناير إلى مسارها، وأعادت الدولة المصرية بعد أن اختطفها
التنظيم….وهم يرون أنها جولة ملاكمة، أو مصارعة…هزموا فيها، ويستعدون للجولة
المقبلة لكى يحققوا النصر، ويستعيدوا ما خسروه…وقد نجحوا فى تصدير هذه الرؤية
للبسطاء الذين تحركهم غرائزهم، وعواطفهم الساذجة، وأقنعوهم بذلك، لذلك فإن هؤلاء
البسطاء سيكونون أدوات طيعة فى أيدى قيادات التنظيم، لتفجير المنشآت العامة، ولكل
الأعمال الإرهابية، لأن الإرهاب هنا سيكون مبررا، لأنه سيمهد للجولة المقبلة التى
سيعود فيها المهدى المنتظر محمد مرسي.
وما
بين الثورة والجولة يرتهن مستقبل مصر، ويتم تدمير بنيتها التحتية، ويُخرّب
اقتصادها، وفوق كل ذلك، وأهم من كل ذلك يسقط خيرة شبابها ضحايا هذا الإجرام المنظم
الذى يعد المسرح للجولة المقبلة، مابين الثورة والجولة، يتشتت الشعب، ويتم تمزيق
النسيج الاجتماعي، ويتصارع الإخوة، والأزواج، والأصدقاء، والأهل ما بين مؤيد
للثورة، وما بين من ينتظر الجولة، انقسام اجتماعى مع مرور الزمن يتعمق ويتسع، وما
كان له أن يكون لو تم التعامل منذ اليوم الأول بمنطق الدولة المصرية، وليس بمنطق
الخوف من الإنتقادات الدولية. وللخروج من ثنائية الثورة والجولة كان يجب أن يتم،
وبمنتهى الحزم، إتخاذ الخطوات الآتية:
اولا:
تجريم جميع السلوكيات التى تطالب بعودة مرسي، أو وصف عودته بعودة الشرعية، أو
التعامل مع ثورة 30 يونيو على أنها انقلاب سواء أكانت هذ السلوكيات فعلية فى صورة
مظاهرات، أو قولية فى القنوات الفضائية، ومواقع الإنترنت سواء داخل مصر أو خارجها.
ثانيا:
إبعاد جميع محاكمات التنظيم عن وسائل الإعلام وإصدار قرارات حظر نشر لجميع
المحاكمات كما هو متبع فى جميع أنحاء العالم فى القضايا التى تمس الأمن القومي، أو
استقرار المجتمع.
ثالثا:
التعامل مع تركيا وقطر، وبدرجة أقل السودان بصورة أكثر حزما فى كل ما يتعلق بدعم
التنطيم، أو إيواء عناصره، أو فتح مجال لهم لممارسة عمل سياسى مضاد للدولة
المصرية، ومحرض ضد استقرارها، مع الاحترام الكامل لحق أعضاء التنظيم فى الإقامة
والعمل فى أى دولة ماداموا لا يتخذون أراضيها منصة للعمل السياسى ضد مصر.
رابعا:
تجريم جميع أنواع السلوكيات التى تشكك فى شرعية النظام السياسى فى مصر سواء أصدرت
هذه السلوكيات عن أعضاء التنظيم أو عن أى حركة أو حزب أو جماعة أخري.
خامسا:
البدء بعملية إصلاح حقيقى لجهاز الشرطة من خلال عملية تدريب شاملة تجعله أكثر
حرفية، وأكثر التزاما بحقوق الإنسان، حيث إن السلوكيات المنفلتة لبعض أعضاء جهاز
الشرطة هى أول دوافع الانتماء للجماعات الإجرامية
سادسا:
البدء بعملية شاملة وسريعة وجذرية لمحاربة الفساد ومعاقبة المفسدين بصورة علنية
وحاسمة، بغض النظر عن حجم الفساد، ومكانة المفسدين ومنزلتهم الاجتماعية.
سابعا:
إعادة هيكلة جميع أجهزة الإعلام الحكومية والخاصة، لانها أصبحت تقود إلى نتائج
سلبية، على الرغم من قناعة القائمين عليها أنهم يعملون لمصلحة الدولة المصرية.
هذه
الخطوات السبع كانت كفيلة بالقضاء على ثنائية الثورة والجولة، ووضع مصر على مسار
الثورة، ويصبح على الجميع التزام وسائل العمل السياسى السلمى انتظارا للاستحقاقات
الانتخابية المقبلة.
نقلاً
عن الأهرام