التاريخ لا يعيد نفسه، مقولة يكررها المثقفون وكأنها قانون لا يقبل الدحض أو التشكيك، قد يكون تاريخهم هو الذي لا يعيد نفسه، أي تاريخ الغرب الأوروبي وإمتداداته الحضارية جغرافيا في الأمريكتين، وذهنيا في عقول الطبقة المثقفة في العالم الثالث والعالم العربي
أما تاريخنا، فللأسف قد ملَّ من التكرار، وتعب من إعادة السيناريوهات نفسها على خشبة المسرح نفسه مع اختلاف فقط في الممثلين والمخرج، تاريخنا يطحننا مثل الرحايا، يدور دورات متتالية بلا ملل ولا كلل؛ لاننا نحن من يصنعه، من يحمله، من يتحرك به للأمام، من يصعد به نحو العلا، ونحن مشغولون بالماضي، وليس بصناعة التاريخ، مشغولون بالحاضر وليس بالمستقبل، مشغولون بالهدم وليس بالبناء، مشغولون بالقتل والموت في سبيل اي شىء وليس الحياة لله وفي سبيل الله.
تاريخهم يسير في خط صاعد متقدم، كل نقطة فيه أعلى من سابقتها، وأكثر تقدما، هكذا علمتنا نظريات التقدم، ونظريات التنمية، وفلسفة الحداثة الأوروبية في مجملها، وتاريخنا يدور في حلقات لولبية حلزونية، هي عبارة عن دوائر ترتفع كل دائرة عن سابقتها حتى تشكل حلزوناً، ولكن ليس من الضروري أن ترتفع، فقد تنخفض وتكرر أخطاء وكوارث السابقين، هكذا علمنا ابن خلدون في فلسفته للتاريخ حين حدد عمر الدولة بثلاثة أجيال أو ثلاث مراحل هي: البداوة والتحضر والترف، وعلى نفس النهج رسم مالك بن نبي، المفكر الجزائري المتوفى 1972، مراحل التاريخ بثلاث هي: الروح والعقل والشهوة، حتى أن المفكر الألماني إزوالد شبنجلر اتبع رؤية ابن خلدون الدائرية ولم يتبع روية المؤرخ البريطاني توينبي التقدمية التي تقوم على المؤثر والاستجابة.
تاريخنا يسير في دوائر قد تصعد وقد تهبط، وفي غالب الأوقات تدور في مكانها، واليوم هبط بنا التاريخ إلى أسفل سافلين، رجع بنا إلى ما قبل الإسلام، إلى الصراع بين الفرس والروم، إلى المناذرة عملاء الفرس، والغساسنة عملاء الروم، وإمعانا في النكاية تسربل هذا التاريخ اللعوب بلباس الإسلام، وارتدى عمامته، ورفع بيارقه وأعلامه، واكتسى بطيلسان رقيق من شعار الإسلام شفاف، وكأن هذا التاريخ راقصة لولبية تدخل إلى المسرح بعباءة رقيقة كاسية، ما أن تبدأ الموسيقى حتى تلقي بها بعيداً.
تذكرون يا سادتي، ويذكرنا القرآن الكريم في سورة الروم «غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)» صراع الفرس والروم على أرضنا، الفرس في نصف العراق والروم في سوريا، وبينهما العرب منقسمون، وهم أبناء قبيلة واحدة، قبيلة الأزد، جاءت من اليمن، انقسمت إلى مناذرة في العراق، أتباع للفرس يحاربون بالنيابة عنهم، يخضعون العرب الٌآخرين لهم، هم وكلاء لهم في تحقيق حلمهم الإمبراطوري، وقبيلة الغساسنة، في بادية الشام؛ أتباع للروم يقومون لهم بنفس دور إخوانهم للفرس، وزادوا على ذلك أنهم تنصروا وأصبحوا على دين الروم، وعندما جاء الإسلام أصبح المسلمون أقرب للروم لأنهم أهل كتاب يفرحون بنصرهم على المشركين من الفرس.
المشهد واحد يا سادتي وبنفس الأطراف، وبنفس الأدوار، وبنفس المشاعر والتمنيات، وبنفس توقعات النصر والفرح، تركيا هي في الخريطة اليوم أدنى الأرض، أو الشرق الأدنى، و تسمى عند الأتراك «أرضروم» أو أرض الروم؛ أخذت نفس دور الروم، وإن كان بغطاء إسلامي.
الجغرافيا يا سادتي أقوى، وأقسى، وأحيانا تستخدم الدين، وتخض أتباعه لمتطلباتها وحتمياتها، وإيران الثورية الإسلامية هي امتداد لمنطق التاريخ الجغرافي الفارسي، وبالمناسبة هناك علم جديد اسمه «التاريخ الجغرافي»، يقوم على أن الجغرافيا، في غالب الأحيان، تصنع التاريخ، وتتحكم في حركته، وتشكل مساراته، تركيا وإيران هما الفرس والروم في الجوهر، والأهداف والإستراتيجية، ولا يصح هنا التمسح بالدين لان المناذرة كانوا على دين قريب من الفرس، والغساسنة كانوا على دين الروم.
المناذرة أتباع الفرس، ووكلاؤهم أعيد بعثهم، أو تم استنساخهم في صورة الأحزاب الموالية لإيران في العراق، النعمان بن المنذر وكيل الفرس الأشرس والأقوى استنسخ في جسد السيد نوري المالكي أو جواد المالكي قبل احتلال العراق، وقبيلة المناذرة تضم بطونا كثيرة في صورة أحزاب ومنظمات، وكذلك حركات مقاومة.
والغساسنة أتباع الروم في الشام، يدمرون ويحرقون ويقتلون ويجاهدون ويقاومون لحساب امبراطور الروم الجديد أردوغان، ومن المؤكد سنفرح بنصر أردوغان لانه من إخواننا الروم، الأقرب إلينا من الفرسة!!!.
الغساسنة تم استنساخهم في مائة جبهة وحزب وحركة على رأسها داعش، وفي ذيلها أولئك المنافقون الذين يتجولون في فنادق تركيا تحت اسم «الحكومة السورية المؤقتة» بلباسهم الأنيق، ووجوهم التي ينفلق منها دم الشهداء، وأجسادهم الثمينة على حساب جوعى المخيمات.
ومن ذكاء المناذرة أنهم استطاعوا أن يمدوا نفوذهم إلى الديار التي جاءوا منها، إلى إصولهم، إلى اليمن، فخرج لهم نابتة جدد هم الحوثيون، وبذلك تمدد المناذرة إلى جنوب جزيرة العرب وطوقوها، فما كان من الغساسنة إلا أن يثبتوا ولاءهم للروم وسيدهم فتمددوا في مصر وليبيا، وأشعلوها حربا لا هوادة فيها، وبينهما احتار فقراء فلسطين فأصبحوا مع المناذرة والفرس سياسة، ومع الغساسنة والروم حركة وتنظيما، كم هم بارعون أولئك الكنعانيون طوال تاريخهم!!
دون مبالغة أو تهويل، بدون مثالية أيضا؛ هل هناك توصيف للمشهد في العالم العربي اليوم يختلف عن هذا؟ هل لنا كعرب مصلحة في كل ما يحدث؟ وهل لنا قرار أو دور في التقرير لمستقبل المنطقة؟ نحن بصراحة شديدة بلهاء في هذا المسرح الكبير، نتفرج من خارج الصفوف، أو نقوم بدور الكومبارس مثل قطر، ونتوهم أننا فاعلون، وأننا مؤثرون، وأننا قوة عظمى، والحقيقة المرة أننا كومبارس.
الحل يا سادتي أن ندرك الحقيقة أولا، وهي أننا محاطون بأربع قوى معادية لنا سياسيا، هي إسرائيل، وإثيوبيا، وتركيا، وإيران رغم أنهم ليسوا سواء، فتجمعنا الأخوة الدينية والوشائج الحضارية مع تركيا وإيران، ويربطنا التاريخ والجغرافيا والدين أيضا مع إثيوبيا، وتبقى إسرائيل غرسا شيطانيا لا رابط له، ولا معه، ولكن جميعهم سواء سياسيا وإستراتيجيا، جميعهم يطمع، ويدبر، ويخطط، ولابد أن نفيق، ونتوقف عن إدارة علاقاتنا الخارجية وشئوننا الإستراتيجية بمنطق القديس فلانتاين الذي يوزع الدباديب والورود الحمراء في عيد الحب. نقلا عن الأهرام