المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

المسرح الواحد للإرهاب: التحرك المصري لمواجهة تنظيم داعش في ليبيا

السبت 21/فبراير/2015 - 12:42 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. أحمد موسى بدوي

قديمة هي ظاهرة الإرهاب، وباقية حتى قيام الساعة، صيرورة تاريخية من النشاط والخمول، المتلون بلون المرحلة، اللاعب بأدوات العصر. الإرهاب باسم الدين من بين أنواع هذه الظاهرة، وربما أكثرها نشاطا في التاريخ البشري، ومصر من بين دول كثيرة تعاني من انتشار هذا النوع في تاريخها القديم والحديث، ومن المؤكد أن حادثة ذبح المصريين في ليبيا، تمثل منعطفا شديد الخطورة والوعورة، فقد أصبح لزاما على الدولة المصرية – وحفاظا على وجودها-  أن تملك قدرة التعامل الناجز مع المسألة الليبية، في ظل تعقد الوضع الإقليمي والدولي، والتربص الجلي لحركة مصر في الإقليم. وهذا المقال محاولة لفهم دواعي وتداعيات التحرك المصري الأخير لمواجهة تنظيم داعش في ليبيا.

أولاً: تمييز ظاهرة الإرهاب المعقدة

  الإرهاب في منطقة الشرق الأوسط هو ظاهرة معقدة بالتأكيد، لا ينشأ أو يتطور بسبب عامل واحد حاكم، دائما هناك العديد من العوامل التي لابد من وضعها في الاعتبار عند التحليل، فمن قائل أن بعض القوى الكبرى والإقليمية سببا في تفاقم هذه الظاهرة، فهو صادق، ومن يتهم الاستبداد بالحكم والاستئثار بالثروة وانتشار الفساد، فهو أيضا على حق، ومن يُحَاكِم نُظُم التعليم التلقيني الرديء أُحَادِي البُعد، فهو لا يجافي الحقيقة، ومن يتهم تَوغُل العقل المتطرف الذي عُرِف مع ظهور فرقة الخوارج وغيرها، وما يزال مُشْتَغلا، فهو أيضا صادق، ومن يلقي باللائمة على الفتنة الطائفية والمذهبية التي تقسم العالم الاسلامي، فهو يضع يديه على الجرح الغائر، وبالجملة فإن الإرهاب هو ظاهرة مركبة من كل هذه العوامل. 

،، تنظيم داعش هو أحد هذه التنظيمات الجديدة، المولود من رحم تنظيم القاعدة عام 2006، وهو الآن يتجه نحو قيادة العمل الإرهابي العالمي على حساب القاعدة التي تموت موتاً بطيئًا،،

بيد أنه يلزم التمييز بين نوعين من التنظيمات الإرهابية، فقد عرف العصر الحديث، عشرات التنظيمات الممارسة للعنف، شرقا وغربا، بعضها يتوخى تحقيق مصلحة ما، أو استرداد حقوق معينة، كتلك التنظيمات التي تنشأ لتحقيق مصالح  فئات – عرقية أو مذهبية أو طائفية- مهمشة ومستبعدة اجتماعيا وسياسيا واقتصادية، والتي تلجأ للعنف بكافة أشكاله، في لحظة يأس اجتماعي، مستهدفة ممارسة أكبر قدر من الضغط على الدولة أو المجتمع الذي تعيش في كنفه، لإجباره على التغير. خيار ممارسة العنف في هذه الحالة، هو خيار مؤقت، لا يستهدف نفي الآخر من الوجود، وإنما دَفْعَه نحو التعايش بشروط جديدة يتفق عليها الطرفان، كما حدث في العقود الأخيرة في أكثر من دولة، كإسبانيا وايرلندا.

أما النوع الذي نحن بصدده، فهو نوع من التنظيمات الممارسة للعنف، باسم الدين، ومنه حالة التنظيمات الإرهابية الإسلاموية، التي تستهدف تغيير النظم الحاكمة تغييرا تاما والحلول محلها، الصراع بينها وبين النظم القائمة هو صراع لنفي الآخر من الوجود، غايته إقامة الدولة الإسلامية، ليس داخل القطر الواحد، وإنما في كل أرجاء العالم مدعين أن الدعوة الإسلامية، دعوة لا تتمكن إلا بالقوة.

ثانياً: ظاهرة توالد التنظيمات الارهابية

متناثرة هي هذه التنظيمات في طول البلدان الإسلامية وعرضها، منطلقة من مرجعيات متناقضة، سواء كانت سنية أو شيعية، فالجميع يدعي لنفسه، أنه التنظيم المعبر عن الدين، وأن أتباعه هم الفرقة الناجية، وزعيمه هو المنتظر ظهوره في آخر الزمان بحسب النصوص النبوية.

غالبا ما ينشط التنظيم في ترسيخ المرجعية، واجتذاب الكوادر، وممارسة العنف، تحت إمرة زعامة كارزمية، فإن حالت الظروف دون نمو هذا التنظيم، أو أصيبت بنيته، إصابة بالغة لأي سبب من الأسباب، فإنه يفكك نفسه، ويسرح كوادره، أو يندمج في تنظيم آخر غالب من نفس نوعيته أو قريباً من مرجعيته الفكرية.  

وتنظيم داعش هو أحد هذه التنظيمات الجديدة، المولود من رحم تنظيم القاعدة عام 2006، وهو الآن يتجه نحو قيادة العمل الإرهابي العالمي – أن صح التعبير-  على حساب القاعدة التي تموت موتاً بطيئًا. بدليل اندماج تنظيمات صغيرة في تنظيم داعش، فخلال الشهور القليلة الماضية، بايع البغدادي كل من أنصار بيت المقدس في مصر، وأنصار الشريعة في تونس، وجند الخلافة في الجزائر. وليس مستبعدًا أن يبايعه في الشهور القادمة، بقية تنظيم القاعدة في بلاد المغرب، وتنظيم بوكو حرام المتمركز في نيجيريا والممتد شمالاً في كل من تشاد ومالي والنيجر.

ثالثاً: الأسس الفكرية والخلطة الداعشية

يعتمد تنظيم داعش على خلطة فكرية متطرفة، تعتمد على عدة مصادر:

(1) فقه القتال في حروب الردة زمن خلافة أبي بكر الصديق، ومن هذا الفقه، تستنبط  داعش غالبية أحكامها الفقهية الخاصة بالتعامل مع المسلمين باعتبارهم مرتدين، وجب عليهم التوبة أو القتل، وبخلاف الجانب الفقهي، فإنهم يبررون ما يقومون به من أفعال وحشية، اعتمادًا على أخبار موتورة عن حروب الردة.

 (2) الفكر المودودي- القطبي: نسبة لأبي أعلى المودودي، وسيد قطب، وتعد آراءهما المصدر الأهم للفقه الداعشي، ومنهما يتشرب أي فكر متطرف، نظرته الاقصائية للآخر، فالفكر الانساني بكل روافده، من وجهة نظر الثنائي المودودي – القطبي، هو محض غزو ثقافي من تيارات هدامة أنتجها اليهود والصليبيون لتدمير الإسلام والقضاء عليه. ومن ثم، فإنهم يتعاملون مع غير المسلمين باعتبارهم كافرون ومجتمعاتهم مجتمعات جاهلية وجب دعوتهم للإسلام أو قتالهم.

(3) السلفية الوهابية: على الرغم من أن هذه السلفية لا تحض على الإرهاب، إلا أنها تربي في نفوس معتنقيها رؤية محددة للعالم، وتقف حائلا ضد التأويل والعقلانية، وتتخذ موقفا متشددًا من معظم التيارات الإسلامية، وتعتبر الفكر الحداثي بكافة تجلياته مشروعا ماسونيا صهيونيا لتقويض العقيدة الإسلامية، ونشر الفساد الأخلاقي.

،، تستنبط داعش غالبية أحكامها الفقهية الخاصة بالتعامل مع المسلمين باعتبارهم مرتدين، وجب عليهم التوبة أو القتل ،،

رابعاً: وحشية داعش في إدارة الحياة اليومية

وفقا للأسس الفكرية السابقة، بسط التنظيم هيمنته على مناطق في العراق ثم في سوريا، ثم تداعت التنظيمات الصغيرة لمبايعته في أماكن أخرى من العالم الإسلامي. وبمجرد تَمَكُن التنظيم، تبدأ معاناة سكان المناطق التي يتغلب فيها، فالإكراه سمة الحياة اليومية للمغلوبين على أمرهم في هذه البقاع.

إن كنت مسلما من سكان تلك المناطق، فلا يعني ذلك أنك بمنأى عن العقاب الداعشي، لأن عليك إعلان التوبة ومبايعة الخليفة، وإلا يطبق عليك حد الردة، مع ما يلزم ذلك من وحشية القتل والتمثيل بالمقتول. أما إن كنت غير مسلم، فالمصيبة أكبر، فإما أن تعلن الدخول في الإسلام وتبايع الخليفة إبراهيم بن عواد القرشي الحسيني، أو تنزح  من المنطقة،  أو تدفع الجزية. وفي كل الأحوال يتم الاحتفاظ بالنساء كسبايا. مشاهد التقتيل وطرقه الوحشية، تقدم رسالة للمجتمع المحلي وللعالم، معناها لكي تتجنب التعرض لمثل هذه البشاعة في القتل، ليس أمامك من طريق آخر سوى أن تعلن ولاءك للسياف، فهل ظهر الإسلام من أجل ممارسة الوحشية والترويع المطلق على هذا النحو.

خامساً: مصر وليبيا مسرح واحد للإرهاب

لا يخفى على القارئ خصوصية العلاقات الشعبية بين مصر وليبيا، ومن ثم فإن التفاعل بين الثورتين المصرية والليبية، جاء معبرا عن هذه الخصوصية، واستغلته التنظيمات المتطرفة والإرهابية أسوء استغلال. ويمكن تمييز ثلاثة اتجاهات من هذا التفاعل خلال السنوات الأربع الماضية (1) الدعم المادي والمعنوي من الجماعات السلفية وجماعة الإخوان في مصر، تجاه أقرانهم في ليبيا، عبر قوافل الإغاثة، والأمداد بكوادر التدريب، التي انطلقت من المدن المصرية، تحت دعوى نصرة الشعب الليبي، ولم تكن في الحقيقة سوى دعم للتنظيمات السلفية والإخوانية هناك. (2) بعد سقوط نظام معمر القذافي، واستغلالا للفوضى الأمنية في البر المصري، جرى عملية تفكيك معدات الجيش الليبي، ونقل ما يمكن نقله تجاه الأراضي المصرية، ليستقر معظمه في شبه جزيرة سيناء. (3)  بعد ثورة 30 يونيو 2013، استقبلت التنظيمات الليبية، أعدادًا كبيرة  من الجماعات الجهادية، وكوادر الإخوان المطلوبين من جهات التحقيق المصرية. (4) لم يمض وقت كبير على استقبال الهاربين المصريين، حتى بدأت القوى الخارجية الداعمة للإرهاب عامة، والمتربصة بمصر خاصة، في إمداد  ليبيا بما يلزم لإشعال الفتنة داخل البلدين وبينهما.

،، أن خطورة الحادث الأخير، ليس لأسباب دينية كما يدعي زبانية داعش، وإنما لتجريد السيسي من كتلة الأقباط المناصرة له في الداخل،،

سادساً: دواعي وتداعيات مواجهة مصر لتنظيم داعش في ليبيا

بقدر كبير من الحكمة والصبر، تعاملت مصر مع الأحداث المتوالية التي يتعرض لها المصريين في ليبيا. والمتابع لهذا الشأن، يعرف أنه لا يكاد يمر يوم واحد منذ اندلاع ثورة يونيو 2013، إلا ويتعرض المصريون في ليبيا لأحد صور التنكيل والانتقام. وقد اتسمت جميع ردود الفعل المصرية بقدر كبير من ضبط النفس، في محاولة لتجنيب المصريين العاملين في ليبيا المخاطر، وللحفاظ على العلاقات التاريخية بين الشعبين. واكتفت الدولة، بإجلاء رعاياها الراغبين في العودة، والتحذير الدائم من السفر إلى هناك، على أمل أن ينجح البرلمان المنتخب والحكومة الشرعية الليبية في استعادة الهيبة وبسط النفوذ على كافة المناطق.

بدأت عمليات التنكيل، بسلسلة من حوادث الاختطاف واحتجاز السائقين المصريين، ثم ارتفع سقف هذه العمليات في يناير 2014، عندما أقدمت أحدى الجماعات المتطرفة على اختطاف عددًا من أفراد بعثة مصر الدبلوماسية هناك. ثم تصاعدت العمليات مرة أخرى، بقتل الأقباط المصريين، عبر ثلاث حوادث متتالية بلغت ذروتها الجنونية بذبح الـ 21 قبطيا على ساحل المتوسط بالقرب من مدينة سرت.

وينبغي الالتفات إلى أن خطورة الحادث الأخير، تتمثل في أن وضع الأقباط موضع الاستهداف الداعشي الوحشي، ليس لأسباب دينية كما يدعي زبانية داعش، وإنما الهدف الرئيسي، هو تجريد السيسي من كتلة الأقباط المناصرة له في الداخل، وكسر الشعبية التي يتمتع بها من كافة المصريين، بتصويره عاجزًا عن حماية الأمن القومي المصري. وهو ما يجعل المسألة تخرج عن نطاق التطرف والإرهاب الديني، إلى مستوى الصراع الذي تديره قوى معادية لمصر، مُحركة هذا التنظيم في الاتجاه الذي تريده. وأظن أن القوى المخططة لهذه العملية، توقعت أن يكون رد الفعل المصري، تقليديا بضبط النفس، لكي تحقق العملية أهدافها السياسية المذكورة.

 غير أن العكس، قد حدث: (1) فقد تصرفت الدولة المصرية، تصرفات مسئولة لحماية أمنها القومي. (2) أظهرت المباغتة وسرعة رد الفعل بشن الغارات على درنة، استعداد الجيش المصري وجاهزيته للتعامل مع مسرح العمليات الليبي. (3) أظهر التحرك العسكري، قوة تماسك الجبهة الداخلية، ومَثَّلَ مناسبةً لتجدد ثقة الأقباط والمسلمين في رئيس الدولة. (4) ربما يؤدي التحرك العسكري المصري إلى تغيير المعادلة لصالح الجيش الوطني الليبي.

ومع ذلك فإن هناك تداعيات سلبية محتملة منها: (1) استغلال الشعور والكرامة الوطنية في استنفار الليبيين للانتقام من المصريين، والذين لا يقل عددهم عن مليون عامل. (2) وفي حال تطور العمليات العسكرية المصرية، فهناك صعوبة بالغة في إجلاء الرعايا المصريين من ليبيا. فقسم من هذه العمالة يواجه بالفعل مصيرًا مجهولا – قبل الضربة الجوية المصرية-  حيث يوجد أعداد كبيرة منهم ترغب في العودة، ولكنهم غير قادرين على بلوغ المنافذ الحدودية، لأن كافة الطرق الرئيسية محفوفة بالمخاطر، إما بسبب الصراع المسلح بين الميليشيات، أو بسبب انتشار أكمنة من قطاع الطرق الذين يجبرون الناس على التنازل عن منقولاتهم مقابل الخروج الآمن. (3) ربما تتدخل بعض القوى في عرقة الجهود الدبلوماسية المصرية في مجلس الأمن، للحيلولة دون استصدار قرارات تسمح بتوسيع العمليات العسكرية، أو برفع الحظر عن تسليح الجيش الوطني، تحت دعوى إتاحة الفرصة للجهود السياسية لحل المشكلة الليبية. (4) من المؤكد أن توسيع العمليات العسكرية ستكون له آثارا سلبية اضافية على الاقتصاد المصري المنهك.

وختاما، فإنه لا ينبغي توسيع العمليات على المسرح الليبي، دون التنسيق مع دول الجيران الليبي، ومحاولة الاتفاق مع الجزائر على آليات التحرك في ليبيا، مع الالتفات إلى أن السياسية الخارجية الجزائرية تتبنى موقفا ثابتا يرفض التدخل العسكري الخارجي في ليبيا أو في أي بلد آخر، ما يتطلب من مصر بذل المزيد من الجهد مع الجزائر، لأن معظم أوراق حل المسألة الليبية، يبقى مرهونا بالإرادتين المصرية والجزائرية. فكلا البلدين يتعرضان لنفس المخاطر، جراء انتشار الجماعات المتطرفة في ليبيا. وفي كل الأحوال، يجب على الدولة أن تفكر بشكل عاجل في أنشاء مراكز تجمع آمنة داخل الأراضي الليبية، لإجلاء المصريين الراغبين في العودة من غير القادرين على الوصول الى المنافذ الحدودية.

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟