عملتُ لعشر سنين: من 1985 إلى 1994، فى رصد وحصر التراث السياسى الإسلامى المطبوع والمخطوط فى مختلف بقاع الأرض، وحينها وجدت عنوانا غريبا يتكرر فى العديد من الكتب هو سياسة الصبيان، وأثارنى كثيرا هذا العنوان وبحثت فيه، فوجدته يتناول أسس التربية الشاملة للأطفال فى سن مبكرة، تلك التى كان يحدث بعضٌ منها فى الكتاتيب التى حفظت العلم فى العالم الإسلامي، وكان لها الفضل فى تكوين أعظم الأدباء والشعراء والمفكرين والسياسيين؛ خصوصا فى مصر حيث كان يتردد عليها المسلمون، وأبناء الأثرياء، والأسر السياسية من الأقباط مثل مكرم باشا عبيد رحمة الله عليه، وليست الصورة المشوهة التى سوق لها طه حسن رحمه الله فى سيرته الذاتية الأيام، فتلك كانت الإستثناء فى زمن تم فيه تجاوز الكتاب بسبب ظهور المدارس العامة.
كتب سياسة الصبيان فى التراث السياسى الإسلامى كان يصاحبها كتب أخرى تحمل عنوان سياسة المريدين، وهى تتكلم عن تربية المنتسبين للطرق الصوفية من الصغار والشباب، وكيف يجب أن يخضعوا لعملية تربية شاملة تجعلهم ، وبحق، يستحقون الإنتساب إلى هذه الطريقة أو تلك، وقبل ذلك كانت هناك كتب أخرى تحمل عنوان سياسة الخيل، وهى أصل مفهوم السياسة فى اللغة العربية الذى يستخدم على مستوى الدول والحكومات.وسياسة الخيل هى ترويض الخيل وتحويلها من الحالة الوحشية، إلى الحالة المستأنسة التى يكون فيها الخيل قادراً على تحقيق مصالح صاحبه، ومستجيبا لطلباته، لأن السياسة ترويض للحالة الوحشية للإنسان، أى هى نوع من تدريب أفراد المجتمع، وتعويدهم على العيش معا، والعمل معا لتحقيق الصالح العام، لذلك تفشل النظم التالية للثورات الكبرى فى تحقيق أحلام تلك الثورات، لأن الثورة تخرج المجتمع من الحالة المستقرة، التى يأنس فيها كل فرد بالآخرين ويعمل معهم؛ إلى الحالة المتوحشة التى يُفتقد فيها مفهوم النفع العام، والعمل العام، ويعود ذلك لسبب واحد وهو أن الحالة الثورية تطلق كوامن الطاقات والطموحات والاحلام فى قلب كل إنسان فى المجتمع، وهذه الطموحات والأحلام لن تكون واحدة لان كوامن النفوس البشرية وطموحاتها وأحلامها ليست واحدة، بل متعددة ومتنوعة، وقد يضطر الإنسان أن يخفيها استجابة لقواعد النظام العام، ومتطلبات العيش المشترك.
وصدق من قال إن الثورات تأكل أبناءها، لان أكثر الثوريين هم أولئك الذين يريدون العودة لحالة التوحش، والتخلص من كل القيود والعوائق، والنظم والقوانين، لأن الثورة فى نظرهم هى إطلاق الحرية الكاملة التى تعنى انعدام وجود المجتمع، وإنعدام وجود الصالح العام، فيكون من حق الثورى الكبير تدمير المؤسسات، وحرق المكتبات، والتعدى على أجهزة الدولة التى هى الضمان الوحيد لأمن وإستقرار المجتمع، وهؤلاء الثوار الذين تحولوا فى بعض الدول العربية إلى ثيران على حد تعبير الدكتور على منصور استاذ العلوم السياسية الليبي، هؤلاء يحتاجون نوعا جديداً من سياسة الخيل وهنا قد نحتاج إلى علم جديد هو علم سياسة الثيران.أما سياسة الصبيان فتقوم على التأديب والتهذيب، وإكساب الخبرة من خلال التكيف، والتكييف مع متطلبات النظام العام والآداب، بحيث يكون ذلك الصبى قادرا على فهم وتطبيق القواعد العامة للعيش فى المجتمع بصورة راقية، تؤهله لأن يكون رجلا يحترم الآخرين، ويتعامل معهم بما يحافظ على كرامتهم، ويراعى خصوصيتهم، ويحفظ أدبه وإن اختلف معهم أو خاصمهم، ويتعود على ممارسة الأداب المرعية الإتيكيت أو بروتوكول الأخلاق العامة، وهذا النوع من السياسة أصبح لدول الربيع العربى الخماسيني، شديد الحرارة ومثير الأتربة وجالب الأمراض، أصبحت هذه الدول فى أشد الحاجة اليه، لأن التجربة أثبتت أن الثورات العربية أخرجت أسوأ الصبيان فى مجتمعاتنا، ابتداء من الصبى الأكبر الذى قدم وعوداً محددة واضحة قبل يومين من انتصار الثورة المصرية، ونكث بها وأخلفها بعد شهور قليلة؛ حينما شعر أنه يستطيع أن يمتلك اللعبة التى حلم بها هو وإخوانه منذ زمن بعيد وهى لعبة السلطة والدولة، ولكى يحافظ على لعبته أدمن الكذب، وحينما فقدها أوغل فى الخصومة والعداء يكسِّر كل شيء؛ هكذا غضب الصبيان، ولن يستريح حتى يضرب ابن الجيران الذى غلبه، وطرحه أرضا منكسرا ذليلا حتى لو استدعى ذلك خراب بيت أبى ذلك الصبى الأكبر.
وأخطر أنواع الصبيان فى العالم العربى أولئك الذين خرجوا من كهوف الجبال العالية فى اليمن السعيد، الشقى بأهله، صبيان تراهم لم يتجاوزوا الحلم؛ بمن فيهم كبير الصبيان الذى يقلد نجم الفريق الذى يشجعه تقليدا كاريكاتوريا مثيرا للشفقة والحزن من شدة مأساويته، ذلك الحوثى الصبى الصغير الذى أصبح مهووسا بسيد جبل عامل وجنوب لبنان الذى بنى تاريخه فى جهاد حقيقى كانت جميع الأمة تحترمه وتقدره لانه يواجه بقدرات محدودة أقوى جيوش المنطقة، وكان يواجهها مواجهة أخلاقية تمثل أعظم ما فى قيم الإسلام، فكان صادقا مع أعدائه، إلى أن انخرط حزبه فى صراع داخلى دموى فى لبنان ابتداء من مايو 2007 ثم فقد كل ذلك التاريخ حينما دخل طرفا فى سوريا ليتساوى مع شذاذ الأفاق من عصابات المنتسبين للجهاد؛ الذين جاءوا من كل بقاع الارض لإسقاط النظام البعثى العلوى دون أن يدروا أنهم صبيان للمعلم الأكبر فى واشنطون وصبيه الأصغر فى أنقره، هوس الفتى الحوثى بنجمه وقدوته السيد حسن نصرالله، وإندفاعه لتحقيق توجيهات معلميه فى قم وطهران دفعه إلى أن يقود المنطقة جميعها للتفجير، فأطلق عيال قبيلته، وصبيان طائفته للعبث بالدولة والمجتمع اليمني، وللاسف ضعف الصغار أمام الصبيان، وسلموا لهم كل شيء ليلعبوا به لحظات؛ على أمل أن يستردوه مرة ثانية، هكذا فكر على عبدالله صالح، ولكن الصبيان أعجبتهم اللعبة، وتمادوا فيها، وفتحت شهيتهم على أن يتقدموا فى نفس اللعبة مراحل جديدة، فيسقطوا مدنا جديدة فى لعبة الكترونية على جهاز الكمبيوتر الكبير، أى اليمن.إن أزمة الأمة العربية اليوم أنها لا تحتاج إلى علم سياسة عادى لفهم ما يحدث فيها، أو تغييره، أو الانتقال به إلى حالة من الاستقرار، ولكنها تحتاج أكثر إلى علم سياسة الصبيان، لاننا نعيش فى عالم من سلوكيات الصبيان من قطر إلى اليمن، ومن سوريا إلى العراق ومصر…صبيان يعبثون بمقدرات ومستقبل أوطان، وللأسف لايوجد كبير فى يده عصاى تخيف الصبيان فليلزموا الأدب. نقلا عن الأهرام