في أيلول (سبتمبر) 2011 وفي جلسة مغلقة في فندق «كونراد» في إسطنبول، قال مسؤول سياسي من الحزب الحاكم أمام عدد من الصحافيين طالباً عدم ذكر اسمه: «إن بشار الأسد لن يصمد أكثر من ستة أشهر وسيسقط حكمه...». تعالت أصوات اعتراض الصحافيين قائلين إن الأمر ليس بهذه السهولة مع دعم روسيا وإيران للأسد، لكن المسؤول تشبث برأيه. بعد عام ونصف العام التقيت أحد مسؤولي الأمن وذكرت له ما قاله هذا المسؤول، فأجابني المسؤول الأمني متبسماً «على الأقل قال ستة أشهر، أما في اجتماعات مجلس الأمن القومي الرسمية كان يؤكد أن الأسد سيسقط بعد شهرين فقط!».
ما لم يشر إليه هذا المسؤول التركي هو أن الأسد اليوم هو نفسه بالأمس، الديكتاتور الذي كانت تجمعه لقاءات عائلية بأردوغان وعائلته. ولم يكن الرئيس السوري حينها رمز الديموقراطية. واليوم، يقول وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، «علينا في نهاية المطاف أن نتفاوض مع الأسد». ورد وزير خارجية تركيا، مولود شاوش أوغلو، قائلاً «على ماذا سنتفاوض مع رجل أحال بلده إلى خراب وقتل أكثر من 200 ألف شخص وهجّر ثلث سكان بلده؟». طبعاً، في الإمكان فهم غضب وزير الخارجية التركي إزاء تصريحات كيري التي تزيد عزلة تركيا. وأعلنت بعض الدول مثل بريطانيا وفرنسا أن الأسد لا يمكن أن يكون طرفاً في الحل. لكن لا يخفى أن أنقرة تعير اهتماماً لما تقوله واشنطن وليس العواصم الأوروبية. وكيري أغضب أنقرة مرتين هذا الشهر، فقبل تصريحه عن الأسد زار القاهرة وأشاد بـ «الإصلاحات» التي يقوم بها الرئيس المصري. وترى أنقرة أن عبد الفتاح السيسي هو الجنرال الذي أطاح أول رئيس منتخب، الإخواني محمد مرسي. وأردوغان ينتقده في كل محفل ديبلوماسي. ولا بد أنه أسبوع سيء للديبلوماسية التركية. وفي الوقت نفسه، تتكاثر التقارير الأوروبية والغربية والأميركية التي تتحدث عن ابتعاد تركيا عن حلف شمال الأطلسي، «الناتو»، ليس فحسب في الشرق الأوسط بل كذلك في الأزمة الأوكرانية. ويدور كلام الغرب على سياسة أنقرة إزاء «داعش» ورفضها قتاله أو تقديم دعم عسكري للتحالف الدولي، وربطها التعاون بشرط إسقاط نظام الأسد. ولا يخفى غياب الوفاق بين أقرة وطهران وبغداد.
اذاً، كيف انزلقت تركيا في الأعوام الأربعة الماضية إلى العزلة، بعد أن ربطتها في 2009 علاقة إستراتيجية بمصر والعراق وسورية، وكانت الوسيط بين دمشق وتل أبيب، بين «فتح» و»حماس» وبين الشيعة والسنّة، وكانت كلمتها مسموعة ومحترمة في كل المحافل الدولية؟ كيف حصل هذا التغيير الكبير؟ الحال أن أردوغان وداود أوغلو انتهجا سياسة جانبت الصواب في قراءة حوادث المنطقة والتطورات الدولية. واقتصرت الإستراتيجية التركية على دعم «الإخوان» وأداء دور زعيم السنّة في المنطقة، والتضحية في سبيل ذلك بعلاقاتها الإستراتيجية. ورمت هذه الإستراتيجية إلى دعم تيار الإسلام السياسي السنّي من أجل بلوغ الحكم في سورية والعراق ومصر، والظهور كقوة إقليمية شعبية في شرق المتوسط يحسب لها الغرب وإسرائيل وإيران ألف حساب. ومثل هذه الإستراتيجية يقتضي الصبر والتأني. ولكن أنقرة وضعت كل أوراقها في سلّة «الإخوان»، كما أنها لم تدرك التغيرات في المنطقة. ولا يخفى أن السذاجة شابت هذه السياسة، خصوصاً حين حسِب أردوغان وداود أوغلو أن إقناع بشار الأسد وحسني مبارك بالتحوّل إلى نظام ديموقراطي من طريق التعاون معهما اقتصادياً، ممكن. وكانت أنقرة تأمل بوصول الإخوان إلى الحكم من خلال إقناع هذين الرجلين بضرورة تشارك الحكم مع الإخوان ومراعاة «الديموقراطية». واستعجلت هدفها هذا مع انفجار الثورات العربية. وحسبت أنقرة أن العرب متعطشين لعودة العثمانية من جديد وأنهم يريدون حكماً إسلامياً تحت وصاية عثمانية. ورفض مسؤولو حزب «العدالة والتنمية» سماع أي رأي مخالف أو تصديقه. وعوض الصبر، استعجلت، وشاركت في إسقاط القذافي عسكرياً وسعت إلى إسقاط نظام الأسد عسكرياً، ودعمت «الإخوان» في مصر. وإثر إطاحة مرسي في مصر، التحق «الإخوان» بتنظيمات متطرّفة وإرهابية في سورية، مثل «جبهة النصرة»، و»داعش» الذي لم يقم وزناً لحكومة تدعم الإسلاميين في أنقرة وخطف رعاياها في قنصلية الموصل. واليوم، يوجّه وزير خارجية تركيا سهام النقد إلى تصريحات نظيره الأميركي عن سورية، ويخفي غضبه إزاء تعاظم الدور الإيراني في العراق وإرسال طهران قوات للقتال هناك بموافقة أميركية. الديبلوماسية التركية بلغت القعر. وعلى أنقرة أن تعيد النظر جذرياً في إستراتيجية دعم «الإخوان» في المنطقة والتي أوصلتها إلى العزلة. نقلا عن الحياة
* كاتب، عن «راديكال» التركية، 17/3/2015، إعداد يوسف الشريف