المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

فلسفة التنمية.. والعاصمة الجديدة

الإثنين 23/مارس/2015 - 11:30 ص

لكل منا فلسفته فى الحياة، حتى ولو لم يفصح عنها، بل حتى لو لم يكن فى استطاعته التعبير عنها. وإذا لم يفصح إنسان عن فلسفته فى الحياة استطعنا نحن اكتشافها من تصرفاته وأقواله،

فهذا رجل يهمه المال قبل كل شيء، وذاك تهمه زيادة المعرفة واتساع الثقافة، ذلك الرجل زير نساء، وهذه المرأة لا تريد إلا أن تظفر بعائلة سعيدة، أما تلك فيهمها أن تكون لها وظيفة تحقق لها الاستقلال المادي.. إلخ.

وكذلك فى التنمية. كل حكومة لها فلسفة فى التنمية ولو لم تفصح عنها. هنا؛ حكومة لا مانع لديها من أن تعتمد فى التنمية على القروض الأجنبية أو المنح، ومن أن تفتح جميع الأبواب للاستثمارات الأجنبية، أيا كان نوعها، وبصرف النظر عن الدولة التى تأتى منها. ولكن هناك أيضا حكومة تريد أن تعتمد بلدها على نفسها، وألا تلجأ إلى الخارج إلا عند الضرورة القصوي. هناك حكومة طموح وأخرى ضعيفة الهمة.

الحكومة الطموح لا تمانع فى أن تطالب شعبها بالتضحية برفع مستوى الاستهلاك الآن فى سبيل مستقبل اقتصادى زاهر.

أما الحكومة ضعيفة الهمة، فلا تريد أن تطالب شعبها بأى تضحية، قانعة بأن تظل الأحوال على ما هى عليه دون أن تزداد سوءا. لكل حكومة أيضا انحيازاتها الطبقية، فهناك حكومة الأغنياء وحكومة الفقراء، ولكل منهما فلسفة فى التنمية تختلف عن فلسفة الأخري.

وقد لاحظت أن الحكومات المصرية التى تعاقبت علينا منذ ثورة يناير 2011، من حكومة شفيق إلى عصام شرف إلى الجنزورى إلى حكومة الإخوان، إلى الببلاوى إلى إبراهيم محلب، لم تر أى منها ضرورة لإعلان فلسفتها فى التنمية، بل صدر عن كل منها تصريحات متعارضة توصى بالشيء ونقيضه، إذ ترحب بشدة بأى معونة تأتى من الخارج، ولكنها تطالب الناس أيضا بالتضحية والصبر، تعلن رغبتها فى رفع معدل النمو إلى أعلى مستوى ممكن وتقيس نجاحها أو فشلها بهذا المعيار، ولكنها تعلن أيضا التزامها بالعدالة الاجتماعية، وهو معيار لا يتفق دائما مع معيار معدل النمو، تطمئن الأغنياء بأنها تشجع القطاع الخاص ولن تزيد من اعبائه، وتحاول فى نفس الوقت طمأنة الفقراء بأنها ستعمل على تحسين أحوالهم.

ما دامت هذه هى حالة التصريحات الرسمية فلا مفر لنا، إلا أن نحاول اكتشاف فلسفة التنمية مما تفعله الحكومة فى الواقع، وكان آخر عمل قامت به الحكومة الحالية هو قرار نقل العاصمة من القاهرة إلى مكان آخر يقع شرقى القاهرة بمسافة 45 كيلو. وبتكلفة 45 مليارا من الدولارات، على أن يعهد بهذه المهمة إلى شركة إماراتية هى شركة اعمار أو إحدى الشركات المتفرعة عنها.

أن أول ما يلفت النظر فى هذا القرار هو فجائيته، وإعلان التوقيع على اتفاقية بشأنه دون أن يطرح الأمر على الناس للمناقشة. نعم، لقد سبق أن صدر تصريح عن النية فى نقل العاصمة، من المهندس إبراهيم محلب بعد فترة قصيرة من توليه رئاسة الحكومة، ولكن جاء هذا التصريح أيضا فجأة ودون تمهيد، ودون أن تحاول الحكومة تقديم مبررات كافية، وكذلك دون أن يدعو الناس للحوار حول ضرورة أو فائدة مثل هذه الخطوة فى ظروف اقتصادية شديدة الصعوبة، وبطالة عالية ومتزايدة، دون أن يكون قد حدث شيء جديد فى العاصمة القائمة بالفعل يستعد لاتخاذ مثل هذا القرار على عجل، ثم لم يتكرر مثل هذا التصريح، بل لم يثر الموضوع بتاتا لعدة شهور حتى فوجئنا بأن القرار النهائى قد اتخذ بالفعل وتم توقيع اتفاقية بشأنه، وأن الاختلاف الوحيد حوله، بين الحكومة والشركة التى ستقوم بتنفيذه، كان حول المدة التى سيستغرقها هذا التنفيذ سبعة أعوام أم خمسة، أما الفكرة نفسها فقد عرضت على الناس على أنها مسلم بصوابها ومن ثم لم يدع الناس للادلاء برأيهم فيها، وفى غيبة برلمان لا يبدو أن هناك أى استعجال لعقده.

ان المرء لا يطالب بأن يطرح كل قرار للحوار الشعبى قبل اقراره فالديمقراطية ليست مطلبا عندما يتعلق الأمر بمسائل فنية يجب ان يتبع فيها رأى الخبراء وليس رأى الأغلبية، ولكن انشاء عاصمة جديدة يثير مسائل كثيرة مما يدخل فى صميم السياسة العامة للدولة ومن ثم يتطلب حوارا ديمقراطيا.

فأولا، عندما يكون المشروع المطروح ذا تكلفة عالية جدا فى ضوء إمكانات مصر الحالية، فان الواجب أن يطرح ترتيب الأولويات للحوار لاتخاذ قرار سياسى بشأنه، وعندما تثور فكرة الاعتماد على شركة غير مصرية فى تنفيذ مشروع ما، وفى تغطية جزء من تمويله، فالأمر أيضا يصبح شأنا سياسيا يتعين طرحه للحوار وكذلك عندما يكون من عناصر المشروع احتمال تمليك أراض مصرية للأجانب.. الخ. كل هذا يثير مسائل سياسية وليست فقط مسائل فنية، مما كان يجب أن يطرح للحوار الشعبي. أما أن هذا لم يحدث فانه يكشف عن جزء من فلسفة الحكومة الحالية فى التنمية، وكأن التنمية عمل من الأعمال المنفردة التى تفرض على الناس من عمل.

ولكن انشاء العاصمة الجديدة يثير أيضا عدا قضية المساهمة الشعبية فى قرارات التنمية مسائل أخرى تقع فى صميم عملية التنمية، ان الاقتصاديين يميزون بين النمو الحضرى (أى نمو المدن) الذى ينتج أساسا عن نشاط انتاجي، وذلك الناتج عن نشاط استهلاكي. التفرقة هنا نسبية، حيث انه لا يتصور أن يكون نمو مدينة ما بسبب نشاط انتاجى فقط، أو استهلاكى فقط، ولكن العبرة هنا بالنشاط الغالب والدافع الأساسى لنمو المدينة، والمؤرخون الاقتصاديون يميزون الطبيعة الغالبة على النمو الحضرى فى الدول التى تسمى الآن المتقدمة، حيث كان الدافع الأساسى لنمو المدن الكبرى هو التصنيع، وبين الطبيعة الغالبة لنمو المدن الكبرى فى الدول التى تنتمى لما كان يسمى حتى وقت قريب العالم الثالث، حيث كان الدافع الأساسى لنمو هذه المدن نمو أنشطة تصنف عادة على أنها أنشطة استهلاكية، كنمو الأجهزة الحكومية، والجيش، والجامعات، ووسائل الترفيه. ان هذا الفارق بين نمطين من أنماط النمو الحضرى هو أحد الجوانب المهمة التى تفرق بين التقدم الاقتصادى والتخلف، فنحن فى نمو مدننا «عالة» على ما يتجه الآخرون، مثلما نحن عالة عليهم فى التقدم التكنولوجى العلمي.

عندما نسمع إذن عن العزم على انشاء مدينة جديدة، فى ظروفنا الحالية، وبعد ثورة تستهدف التجديد فى مختلف شئون حياتنا، وعلى الأخص فيما يتعلق بالديمقراطية والتنمية، كنا نطمع فى أن يكون الهدف انتاجيا، وليس كما تعودنا لمدة طويلة، هدفا استهلاكيا يتعلق بنقل السفارات وأجهزة الحكومة، بالإضافة إلى مجمعات استهلاكية فاخرة (مما يسمى الآن المولات) ومدينة ملاهيه أكبر من ديزنى لاند.. الخ.

كنا نطمع فى أن نسمع عن قيام مدن جديدة، أو عن انشاء المرافق اللازمة لنمو مدن جديدة يرجع نموها إلى قربها من مصادر بعض المواد الأولية، أو إلى قيام مصانع جديدة تستوعب المتبطلين، ومن ثم تمتليء بالمساكن الشعبية التى تخدم هؤلاء العمال الجدد، بدلا من ذلك سمعنا عن أوصاف لمدينة جديدة يفهم منها أنها ستكون أقرب إلى المدن الجديدة السابقة: فيلات جميلة تحيط بكل منها حديقة (وربما أيضا حمام سباحة) ويتوسطها ملعب للجولف، وتبنى ليسكنها أفراد ينتمون لنفس الصفوة القديمة، أو لأولادهم عندما يستقلون بمنازل خاصة بهم. فإذا بنيت مساكن شعبية بالقرب منها فالأرجح أنها مساكن لا لعمال صناعيين بل لبعض خدم المنازل والعاملين على راحة أصحاب الفيلات.

هذه سمة أخرى من سمات فلسفة التنمية التى تكمن على الأرجح وراء فكرة إنشاء العاصمة الجديدة. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟