كانت فترة خدمتى العسكرية 1984-1985 من أكثر فترات عمرى ثراءً فى القراءة والتعلم فى موضوعات الأمن القومى المصرى والعربي، فقد قضيتها باحثا مساعداً لواحدٍ من أبطال حرب أكتوبر العظام خلقا ووطنية وخبرة، اللواء دكتور محمود خليل الذى كان يدّرس الأمن القومى فى أكاديمية ناصر العسكرية العليا، عملت معه لمدة سنتين، منها ستة أشهر بعد انتهاء خدمتى العسكرية حبا فيه، وشعوراً بأهمية ما نقوم به، ومتعةً بالتعلم والخبرة التى اكتسبتها.
والحقيقة أننى كنتُ الباحث الثانى بعد الدكتور محيى الدين محمد قاسم زميلى الذى كان يسبقنى بسنة فى نفس المكان، ولأن اللواء محمود خليل كان من أبطال الدفرسوار والثغرة فى حرب أكتوبر 1973؛ فقد أصيب فى العمليات وفقد بصره كاملا فى عملية فك الحصار عن فرقته، لذلك كنت مع أخى محيى الدين نقرأ الكتب ونسجل ملخصاتها له على كاسيت، وحينها تعلمت فى موضوعات الأمن القومى أكثر مما كنت أحصل عليه لو درسته فى أى مكان آخر.
عندما كثر الكلام عن مشاركة مصر فى عملية »عاصفة الحزم« رجعتُ إلى أهم كتاب أنتجه العقل العربى فى نظريات الأمن القومي، وهو كتاب نظرية الأمن القومى العربى والتطور المعاصر للتعامل الدولى فى منطقة الشرق الأوسط لأستاذنا الدكاترة حامد عبدالله ربيع رحمة الله عليه (وهو حصل على ست درجات دكتوراه من جامعات فرنسا وإيطاليا وبريطانيا، وكان يجيد ثمانى لغات)، وفى أول سطر فى الكتاب يقول حامد ربيع لم تعد السياسة الخارجية صنعة الهواة، فلم يعرف الإنسان فى تاريخه الطويل مرحلة بلغت فيها إدارة سفينة التعامل الدولى ما وصلت إليه اليوم من تعقيد. إن فهم الحقائق التى تحيط بنا- ولو فى إطار محدود- فى حاجة إلى حياة كاملة »…
وقارنت هذه الخلاصة الرصينة من أستاذ أفنى عمره فى دراسة هذه الموضوعات بكل لغات العالم الكبرى؛ بما يدور حولنا من لغط، من أناس كل ما يملكونه هو أصابع وجهاز كمبيوتر، أو أوراق وقلم، دون خبرة أو رصيد، فأصبحوا يخربشون خربشات يظنون أنها نظريات فى الأمن القومي.
يقول حامد ربيع : مفهوم الأمن القومى من ثم هو ليس إلا عملية تقنين لمجموعة من المبادئ تتضمن قواعد للسلوك القومى تمثل الحد الأدنى للحماية الذاتية. بهذا المعنى يتكون من مبادئ مقننة تنبع من طبيعة الأوضاع الإستراتيجية والخصائص المختلفة المتعلقة بعلاقات التعامل مع الامتداد الإقليمى وخصائصه من جانب، والعنصر البشرى وسلوكياته من جانب آخر، والدول المحيطة ووزنها من جانب أخير. جميع هذه المتغيرات تتداخل فى تشكيل الوعاء المادى للإرادة القومية. هذه المبادئ المقننة تصير المصدر المباشر لبناء نظام متماسك ومتصاعد للقيم القومية«.
انتهى كلام أستاذنا وأصبح من الضرورى إثارة السؤال كيف نحدد الأمن القومي؟ وما العلاقة بين المبادئ والمصالح؟ وهل يكون الأمن القومى قائما على المبادئ فقط؟ وماذا لو تعارضت المبادئ مع المصالح؟
الأمن القومى فى جوهره مجموعة من المبادئ تحددها عوامل بعضها ثابت وبعضها متغير، ولكنها مبادئ؛ أى لا يستطيع صانع القرار أن يخرج عن سياقها حتى وإن كانت مصالحه، أو مصالح النخبة التى يعبر عنها، أو الحزب الذى ينتمى إليه، أو حتى مصالح الشعب فى هذه اللحظة التاريخية تستلزم غير ذلك، فالدول تخوض حروباً للدفاع عن أمنها القومي؛ على الرغم من أنه لا مصلحة لأحد فى الدخول فى حرب خصوصاً إذا كانت دفاعية.
فكرة المبادئ فى مفهوم الأمن القومى لا تعنى أنها عكس المصالح، ولكنها تتضمن منظومة خاصة من المصالح طويلة الأمد، أو المصالح الوجودية، التى يتعلق بها مصير الدولة والمجتمع، وليست مصالح بالمعنى السياسى أو الاقتصادي، لذلك عندما نقول إن الأمن القومى مبادئ فإن ذلك يتضمن المصالح العليا الدائمة المستقرة، ولكنه لا يتضمن المصالح السياسية أو الاقتصادية الوقتية، ولكنه لا يتعارض بالضرورة معها، أو ينفيها، بل يحافظ عليها على المدى البعيد حتى وإن ضحى ببعضها فى المدى القريب أو المتوسط.
وقد حدد حامد ربيع غاية الأمن القومى فى تحقيق الحد الأدنى للحماية الذاتية، وهذا الحد الأدنى من الحماية الذاتية تحدده ثلاثة عناصر. الأول الموقع الإستراتيجى والامتداد الإقليمي، وطبيعة العلاقات مع قوى الإقليم ومكوناته. والثانى العنصر البشرى وسلوكياته سواء من الدولة ذاتها أو من مكونات الإقليم وامتداداته الجغرافية. والثالث الدول المحيطة وأوزانها النسبية .
هذه المكونات الثلاثة تتفاعل مجتمعة لتحديد الإدراك الذى يشكل مفهوم الأمن القومي، لذلك فجوهر هذا المفهوم يقوم على المبادئ الثابتة التى تشكلها فى الأغلب عناصر خارج إطار سيطرة وتحكم القيادة السياسية؛ التى يتشكل عندها الإدراك الذى يشكل الأمن القومي.
لذلك فلن يكون غريبا أن تجد تطابقا بين الفراعنة واليونانيين والبطالمة والرومان والمسلمين فى التعامل مع الأمن القومى المصري، فمنذ الفراعنة وحتى اليوم هناك إدراك مشترك عند القيادة السياسية الواعية بعناصر ومحددات مفهوم الأمن القومى المصري، فقد حرص الفراعنة على أن تكون قوة الفينيقيين (لبنان تاريخيا) البحرية مندرجة فى إطار أمنهم القومى وكانوا يعتمدون عليها فى كل من البحرين الأبيض والأحمر، وكانوا يحرصون ألا تظهر قوة معادية لهم من بلاد بونت (الصومال) إلى أطراف مملكة الحيثيين (الأكراد)، لذلك عندما ضعفت قوة الفراعنة سقطت مصر فى يد الهكسوس وهم من شمال العراق وإيران.
واستمر موقع مصر يلزم من يحكمها بأن أمنها القومى يمتد من الصومال والبحيرات العظمى جنوبا إلى جبال طوروس شمالاً، ومن جزيرة العرب شرقا إلى حدود تونس غربا طوال كل تلك العصور، فلنراجع لماذا أصر عمرو بن العاص على فتح مصر، وحواره مع عمر بن الخطاب رضى الله عنهما، ولنراجع موقف المماليك من دخول البرتغاليين إلى بحر العرب، وتعاون قنصوة الغورى مع حكام الهند المسلمين ومواجهة البرتغاليين على ساحل الهند الغربى شمال مومباى 1509 فى موقعة ديو البحرية، ولنراجع إدراك أسرة محمد على للأمن القومى المصري، وإدراك جمال عبدالناصر، سنجد أن موقع مصر فرض على الجميع مفهوماً محدداً للأمن القومي.
لا يستطيع من يحكم مصر أن يترك أمن باب المندب للظروف، والاحتمالات، ولا يستطيع أن يترك أمن جزيرة العرب كذلك ولا أمن الشام، ومن يفعل ذلك يعرض مصر للخطر، بغض النظر عن علاقات الحب والود والصداقة والأخوة مع من يقترب من هذه المناطق سواء أكان اسمه الحيثيين أو الحوثيين، الهكسوس أم داعش.
فى كل الأحوال لابد ألا يكون هناك مجال للمغامرة، والحسابات السياسية أو الاقتصادية، لأنه إذا ضاعت الذات القومية لن يكون هناك اقتصاد أو سياسة، إلا إذا كنا نقصد سياسة الخيل واقتصاد العلف والعليقة. نقلا عن الأهرام