المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads

التحديات والقيود: حدود الدور الروسي في منطقة الشرق الأوسط

الإثنين 31/مارس/2014 - 01:19 م
المركز العربي للبحوث والدراسات
د. نورهان الشيخ*

منذ أزمة الخليج الثانية عام 1990 ساد الاعتقاد بأن روسيا لم تعد قادرة على حماية حلفائها، أو ممارسة تأثير فى قضايا المنطقة، وأن الولايات المتحدة هى الفاعل الأوحد فى الشأن الدولى والإقليمي. وقد تأكد هذا الانطباع مع ضربات الناتو على صربيا عام 1999، والاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وضربات الناتو على ليبيا عام 2011. إلا أن الموقف الروسى من الأزمة السورية جاء مغايراً للتوقعات وأقرب للمواقف السوفيتية فى زمن الحرب الباردة، عندما كانت موسكو تقف بحسم فى مواجهة واشنطن لحماية مصالحها وحلفائها. فسوريا حليف استراتيجي هام وموطئ قدم لروسيا يعنى التفريط فيها خسارة الشرق الأوسط برمته، وهو أمر لا يمكن تصوره بالنسبة لموسكو. ورغم النشاط الدبلوماسى الواضح الذى شهدته الدبلوماسية الروسية فى المنطقة منذ تولى فلاديمير بوتين السلطة فى روسيا مطع عام 2000، والقفزات التى شهدها التعاون الاقتصادي والتقنى بين روسيا وعدد من دول المنطقة، فإن الكثيرين لم يلمسوا الصعود الروسى إلا مع الأزمة السورية.

فموسكو ترى أن واشنطن تسعى إلى إحكام قبضتها على المنطقة ووضع حدا للشراكة العربية المتنامية مع القوى الآسيوية وفى مقدمتها روسيا، وذلك من خلال إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط جغرافياً وسياسياً، وإضعاف القوى الإقليمية المهمة العربية وغير العربية الكبرى، وخلق كيانات ضعيفة يسهل توجيهها ولا تمثل خطرا على مصالحها. وأن تدخلاً أمريكياً فى سوريا قد يكون مقدمة "لصوملتها" وتفتيتها، الأمر الذى يُخرج سوريا كما خرج العراق من المعادلة الإقليمية بعد أن كانت فاعلا رئيسىا ومهما بها، ويفتح الباب أمام تصفية الحسابات القديمة بين الولايات المتحدة وإيران وكسر شوكة طهران.

لقد كانت الأزمة فى سوريا كاشفة لفاعلية الدور الروسى فى المنطقة، ومثلت نقطة تحول مفصلية أوضحت استعادة روسيا لمكانتها كقوة كبرى مؤثرة فى شئون المنطقة خاصة بعد المبادرة التى أطلقتها لتدمير الأسلحة الكيماوية السورية مقابل وقف الضربة العسكرية الأمريكية لسوريا وعقد مؤتمر جينيف2، لتنزع فتيل التوتر وتبعد شبح حرب مدمرة كانت تهدد المنطقة بأسرها. ولتبدو روسيا وكأنها تقود مسار الأحداث بعد أن سلمت القوى الدولية والإقليمية الأخرى بالرؤية الروسية القائمة على ضرورة الانتقال السلمى للسلطة كطريق وحيد لتسوية الأزمة السورية واحتواء تداعياتها الكارثية.

وعلى حين تشير مجموعة من المؤشرات إلى أن النفوذ الروسى سوف يتصاعد فى المنطقة خلال المرحلة المقبلة بفعل مجموعة من العوامل التى تدفع فى هذا الاتجاه، تظل هناك مجموعة من التحديات والقيود التى تواجه الدور وتحد من صعوده وحركته.

أولاً: العوامل التى تعزز الدور الروسى:

تتضافر مجموعة من العوامل التى تدعم الدور الروسى فى المنطقة وتشير إلى تصاعده فى المستقبل، أهمها:

(1)     استعادة روسيا لمكانتها كإحدى القوى الكبرى والتغير فى موازين القوى العالمية

استعادت روسيا مكانتها كقوة كبرى فاعلة ومؤثرة إقليمياً ودولياً، قادرة على الدفاع عن مصالحها وحلفائها وفرض إراداتها فى هذا الخصوص، عادت روسيا لتلعب دوراً وتتخذ مواقفاً واضحة فى العديد من القضايا الدولية والإقليمية، وذلك عقب حقبة من التخبط والسكون شهدت تراجعاً واضحاً فى الدور الروسى على الصعيدين الدولى والإقليمى، وانهيار سريع فى القدرات الروسية الاقتصادية والعسكرية، ودرجة حادة من عدم الاستقرار السياسى لم تشهدها روسيا منذ انتهاء الحرب الأهلية وإعلان قيام الاتحاد السوفيتى مطلع العشرينات من القرن الماضى. واستطاعت موسكو تحجيم الولايات المتحدة وإعاقة حركتها فى مواقف عدة كان من أبرزها أزمة أوسيتيا الجنوبية 2008 ثم الأزمة السورية، الأمر الذى أكسبها احترام الدول الأخرى وأعاد الثقة فى روسيا كشريك فاعل وهام. 

لروسيا تقييم سلبى للثورات العربية. فلم تكن روسيا مرحبة بتلك الثورات بل ورأت أن لها آثار كارثية على المصالح الروسية وعلى المنطقة بأسرها

(1)     موقف روسيا من ثورة 30 يونيو وتنامى الإرهاب فى المنطقة

إن الانكشاف الأمريكى والغربى كان لصالح التوجه شرقاً عامة وفى مقدمته الاتجاه لروسيا، يدعم هذا إن نقاط الالتقاء والتقارب المصلحى أصبحت أعظم وأكثر حيوية للطرفين العربى والروسى. وقد جاء هذا الموقف الروسى نتيجة مجموعة من الاعتبارات، أهمها:

-   كان لروسيا تقييم سلبى للثورات العربية. فقد رأت موسكو أن ما يحدث فى مصر وباقى دول الثورات العربية يشبه إلى حد كبير الثورات الملونة التى حاولت الولايات المتحدة افتعالها فى دول الكومنولث لتعزيز القطيعة بينها وبين الماضى السوفيتى. فلم تكن روسيا مرحبة بتلك الثورات بل ورأت أن لها آثارا كارثية على المصالح الروسية وعلى المنطقة بأسرها.

-   أدت التطورات التى أعقبت الثورات، وتزايد الانفلات الأمنى وتصاعد عدم الاستقرار السياسى والتدهور الاقتصادى الحاد، إلى تقييم سلبى جداً من جانب القيادة السياسية الروسية لمرحلة ما بعد الثورات وأكدت المخاوف الروسية السابقة.

-   كما قبل الإخوان وتيار الاسلام السياسى بقيادة تركيا للمنطقة العربية وبالتبعية لها، ولم تكن روسيا لتستريح لقيادة دولة فى حلف شمال الأطلنطى لمنطقة جوار شبة مباشر لها، خاصة مع الماضى الصراعى الطويل بين الإمبراطورية العثمانية وروسيا القيصرية، والتوتر الذى تشهده العلاقات الروسية التركية نتيجة تناقض مواقف البلدين من الأزمة السورية.

-   تخوفت روسيا أيضاً من صعود تيار الاسلام السياسى ووصوله إلى السلطة فى بعض دول المنطقة، خاصة وإنها تدرج جماعة الإخوان المسلمين وعدد من الجماعات الإسلامية المتشددة ضمن قائمة المنظمات الإرهابية لديها. ورأت أن هذا سيؤدى إلى توسيع نشاط القاعدة والجماعات الإرهابية والمتطرفة، وسيكون لهذا أصداء فى الداخل الروسى الذى لا يزال يعانى من الإرهاب في أعقاب الموجات العنيفة من عدم الاستقرار فى منطقة القوقاز الروسى طوال التسعينات. ورغم استخدام موسكو القوة بصرامة للقضاء على الإرهابيين فى تلك المنطقة، ومكافحة الإرهاب فى أراضيها الجنوبية فى القوقاز بشتى الوسائل الأمنية والتنموية، مازال الإرهاب جرح يدمى القوقاز وروسيا. 

(1)     الآفاق الرحبة للتعاون العربى الروسى

شهدت المصالح المتبادلة بين روسيا ودول المنطقة نمواً واضحاً، واستطاعت موسكو إعادة بناء علاقاتها مع عدد كبير من الدول العربية تتضمن حلفائها التقليديين وفى مقدمتهم الجزائر وسوريا وليبيا ومصر، والشركاء الجدد مثل دول الخليج والأردن والسودان. وأصبح لروسيا مصالح حقيقة تسعى للحفاظ عليها وتنميتها حتى مع تغيير النظم الحاكمة فى بعض الدول العربية فى أعقاب الثورات. وترتبط المصالح الروسية بثلاثة قطاعات رئيسية، وهى: الطاقة (النفط والغاز)، والتعاون التقنى فى المجالات الصناعية والتنموية، والتعاون العسكرى.

من ناحية أخرى تزداد أهمية الشراكة مع روسيا بالنسبة للدول العربية. فهناك آفاق رحبة للتعاون الروسى العربى فى مجالات الطاقة النووية، وتكنولوجيا الفضاء، وتطوير البنية الصناعية العربية. وهو التعاون الذى بدء بالفعل على نطاق محدود لا يتفق مع احتياجات الدول العربية، ولا مع ما يمكن أن تقدمه روسيا من دعم تقنى فى هذا المجال. يضاف إلى هذا، حاجة الدول العربية للدعم السياسى الروسى فيما يتعلق بقضايا المنطقة خاصة القضية الفلسطينية داخل الأمم المتحدة وخارجها حيث يتسم الموقف الروسى بالاعتدال والتوازن وتأييد الحق العربى فى مواجهة التحيز الأمريكى الدائم لإسرائيل. 

ثانياً: التحديات والقيود التى تواجه الدور الروسى فى المنطقة

فى حين تدفع العوامل السابقة إلى مزيد من التعاون والتقارب بين روسيا ودول المنطقة، تبرز تحديات عدة للدور الروسى، بعضها ينبع من رؤية روسيا لدورها دولياً وإقليمياً وحدود المواجهة مع الولايات المتحدة، والبعض الآخر ناجم عن مقاومة بعض القوى الدولية والإقليمية للدور الروسى باعتباره يهدد وجودها ومصالحها فى المنطقة.

  (1) رؤية روسيا لحدود دورها فى المنطقة

أن السياسة الروسية تنطلق من رؤية تقوم على التعاون وليس المواجهة والصراع مع الولايات المتحدة كما كان الحال فى ظل الاتحاد السوفيتى، ولا التبعية كما كان الحال فى فترة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. فلم يعد هناك شرق أو غرب وإنما مجموعة من القوى الكبرى تقود العالم من بينها روسيا، والتى ترتبط بعلاقات تعاونية ومصالح حقيقية مع الولايات المتحدة وغيرها من القوى الكبرى. ورغم تأكيد روسيا الدائم على معارضتها للنظام الأحادى القطبية وأهمية وجود نظام دولى متعدد القوى، يتسم بالعدالة واحترام القانون الدولى والشرعية الدولية وبدور أوسع للمنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة، فإن روسيا ترتبط بمصالح استراتيجية وحقيقية مع الولايات المتحدة.

لقد أكد الرئيس بوتين ذلك فى أكثر من مناسبة حيث أشار إلى أن "روسيا لا تنوى منازعة أحد، ولكنها تملك أن تؤثر على عملية تشكيل النظام العالمى الجديد لكى يكون صرح العلاقات الدولية المستقبلى متوازناً". و"أن الولايات المتحدة وروسيا أكبر دولتين نوويتين فى العالم، ومن هنا فإن كلاً منهما شريك طبيعى للآخر فى التعامل مع قضايا الأمن الدولى ومنع انتشار الأسلحة النووية. وفى حل مشاكل الإرهاب الدولى، وبينهما علاقات اقتصادية كبيرة...".

وقد عكست أزمة أوسيتيا الجنوبية عام 2008 حرص واشنطن أيضاً على عدم التصعيد مع موسكو، حيث شهدت الأزمة مواجهة حادة بين الولايات المتحدة وروسيا، خرجت منها الأخيرة منتصرة دبلوماسياً لتؤكد كون روسيا لاعباً دولياً لا يمكن تجاوزه، أو اختراق دائرة أمنه القومى، ولتصحح بعض الخلل في توازن القوى مع الولايات المتحدة إلى علاقة أكثر تكافئاً بين شريكين على قدم المساواة فى إطار نظام متعدّد القوى ينهى الاحتكار والانفراد الأمريكى في إدارة الشأن الدولى. وهو ما تأكد مرة أخرى خلال الأزمة السورية وتراجع واشنطن عن الضربة العسكرية التى توعدت بها دمشق لتؤكد أنه ليس فقط روسيا الحريصة على عدم التصعيد وأن واشنطن لا تقل حرصاً على ذلك من موسكو، وأن العلاقة بينهما تنتقل إلى ندية حقيقية وتوازن فعال.

لا تسعى روسيا إلى تحقيق مكاسب سياسية أو ممارسة دور أمنى أو عسكرى ينافس الوجود الأمريكى المكثف فى المنطقة العربية

 (2) مقاومة الولايات المتحدة وحلفاءها الإقليميين للدور الروسى

أن القيادة الروسية تدرك أن الولايات المتحدة هى الفاعل الأساسى فى المنطقة وفى عملية التسوية ولا تسعى إلى منافسة الولايات المتحدة فى ذلك، وإنما إلى المساعدة وبذل جهود قد تسهم فى التوصل لتسوية شاملة تحقق الأمن والاستقرار فى المنطقة. من ناحية أخرى، ترفض إسرائيل أى وساطة غير تلك الأمريكية، ولا تمتلك  روسيا إمكانيات للتأثير والضغط على تل أبيب، وما يتردد عن كون اليهود الروس المهاجرين فى إسرائيل ورقة ضغط فى يد روسيا على الحكومة الإسرائيلية هو أمر ينقصه الدقة ويحتاج إلى مراجعة.

إن افتقار روسيا لإمكانيات التأثير والضغط على الطرف الإسرائيلى من ناحية، ورغبة إسرائيل والولايات المتحدة فى الانفراد بإدارة عملية التسوية على النحو الذى يحقق مصالحهما فقط، والحيلولة دون تدخل أى طرف ذى موقف إيجابى وداعم للقضية الفلسطينية والذى يعنى السير فى طريق التسوية العادلة، من ناحية أخرى، يمثل عائقاً أساسياً لتفعيل الدور الروسى كراعى ثان لعملية السلام وعضو اللجنة الرباعية للتسوية السلمية بالمنطقة. إلا أن هذا لا يقلل بأى حال من الأحوال من أهمية الدعم الدبلوماسى والفنى الروسى للسلطة والحكومة الفلسطينية لا سيما فى مواجهة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية، وسلبية الموقف الأوربى وتبعيته لهذه الضغوط كتوجه عام.

وعلى الدول العربية من ناحية أخرى تفعيل علاقاتها بموسكو بهدف جذب تأييدها الكامل والفعال للقضايا العربية، وهو ما يقتضى ربط روسيا بشبكة من المصالح الاقتصادية، تصبح قوة دافعة وضاغطة لتحركها الفاعل فى المنطقة. ونشاطاً دبلوماسياً وإعلامياً عربياً مكثفاً؛ لكي يضمن العرب تعبيراً صادقاً عن مصالحهم وقضاياهم، وتعبئة للرأى العام فى روسيا بما يخدم هذه المصالح.

إن عودة روسيا وبقوة، كشريك وفاعل رئيسي في قضايا المنطقة، أحد أبعاد ميلاد نظام عالمى جديد متعدد القوى أكثر توازناً، وأكثر عدلاً وإنصافاً، وعلينا نحن العرب القراءة المبكرة للمتغيرات الإقليمية والدولية حتى نستطيع تعظيم فرصنا ومكاسبنا من هذه التغيرات.

 هذا المقال جزء من دراسة نشرت للكاتبة فى العدد الثانى من مجلة آفاق سياسية

*أستاذ العلوم السياسية، كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟