تنشأ الأدوار الإقليمية، كالعالمية، عن عملية جدلية بين التاريخ الثقافى والجغرافيا السياسية، وهى عملية معقدة طالما أعادت توزيع الأدوار وإنتاج المكانة بين الدول عبر الحقب، تبعا لعناصر قوتها الشاملة، ولحجم التغير فى الأوزان النسبية لهذه العناصر عبر العصور
وهى تغيرات كبيرة ترتبط بتحولات المعرفة العلمية، وتطورات النظم السياسية، وتبدلات الرؤى الثقافية، فجميعها عناصر حاسمة فى بلوغ التقدم وتبوؤ المكانة الإستراتيجية. وقد لعبت مصر عبر مائتى عام تقريبا تلت حكم محمد على، دورا إقليميا بالاستناد إلى موقعها المركزى وكتلتها الحيوية، وسبقها الاقتصادى على أرضية الثورة الزراعية، وكذلك ريادتها الثقافية سواء الموروثة، كونها الحاضنة التاريخية للأزهر قلعة التعليم السنى. أو المكتسبة، كونها الجسر الذى عبرت عليه الحداثة إلى المجتمعات العربية.
ارتبط هذا الدور بالتمدد الجغرافى ـ العسكرى فى الحقبة العلوية، خصوصا فى الشام وشبه الجزيرة العربية، ثم بالانتشار الثقافى ـ السياسي فى الحقبة الناصرية، التى شهدت قيادة مصر عصر التحرر القومى، بما امتكلته من موارد ديمغرافية واقتصادية وعسكرية وثقافية، حيث مثلت ربع كتلة العرب السكانية، ونصف قوتهم الاقتصادية، وثلثى طاقتهم الثقافية، وثلاثة أرباع قوتهم العسكرية، وهى القدرة الشاملة التى مكنتها من التصدى منفردة لمطامع العراق فى الكويت مطلع الستتينيات. غير أنها أفرطت فى الإنفاق منها بلا رشد، عندما تورطت فى صراعات سياسية والتزامات عسكرية أثقلت كاهلها، فكانت هزيمة يونيو، تلك التى شغلتها بنفسها، واستهلكت طاقاتها فى مجرد تجاوز محنتها بعبور أكتوبر العسكرى، الذى فتح أمامها طريق العودة. ولكن عندما أخذت هى فى العودة كان العالم قد أخذ فى التغير، بينما عجزت هى عن ملاحقته بالايقاع نفسه، فأخذ دورها فى التآكل ومالت هى إلى الانكفاء. ولهذا لم يكن ضمن حساباتها مجرد التفكير فى المواجهة المنفردة للغزوة العراقية الثانية، مطلع التسعينيات، ولم تقدم أكثر من دعم لوجستى من داخل محور اعتدال عربى، لعاصفة الصحراء تحت القيادة الأمريكية، حيث كانت العقود الثلاثة وما شهدته من انتشار عناصر القوة، وتبدل أحجام المكانة بين دول الإقليم، كافية لوضع عديد القيود على حرية تحركها.
يكشف هذا السياق الممتد من التمدد الجغرافى، إلى الانتشار السياسي، إلى الانكفاء على الداخل، عن حقيقة أن المكانة ليست هبه إلهية لها طابع الأبدية، كما أن الأدوار ليست منحا تعطى لأحد أو تنتزع منه، فكلاهما ثمرة طبيعية لشخصية المكان، وفاعلية البشر فى الزمان.
شيء من هذا يجرى الآن فى مصر، بطلب من أغلب العرب، بعد أن أدى غيابها إلى تراكم هائل للضغوط عليهم، صار ينذر بانفجار معظم دولهم، تحت وطأة الطائفية والمذهبية والإرهاب. غير أن استعادة الحيوية المصرية، وقدرتها على توقيف الانهيارات العربية، إنما يفترض النهوض بثلاث مهام أساسية، تبدأ جميعها فى موازاة التعاطى الجاد والفعال مع أزمتها الاقتصادية:
المهمة الأولى تنشيط دورها العسكري، خروجا على الحذر الموروث عن عقود ثلاثة ماضية، لم تخرج خلالها عن حدودها إلا ضمن الحشد الدولى لتحرير الكويت، ولم تكن تستطيع أن تحرك مدرعة فى سيناء إلا بموافقة إسرائيلية وربما وساطة أمريكية. ولهذا كانت الضربة الجوية لداعش ليبيا تطورا لافتا ومهما على هذا الصعيد، أبرز ما فيه أنه حدث دون استئذان أحد. فرغم كل التحولات التاريخية فى بنية ومضمون الأدوار العالمية والإقليمية ابتعادا عن منطق الجغرافيا السياسية، واقترابا من منطق الجغرافيا الاقتصادية، تبقى للقوة العسكرية مركزيتها. نعم لا يكفى السلاح وحده لصناعة المكانة الاستراتيجية أو لعب الأدوار الكبرى، التى تتطلب عناصر أخرى. ولكن غيابه يفقد هذه العناصر كلها العمود الفقرى الذى تستند إليه، الأمر الذى يدفع إلى تناثرها ويسحب سلطان الهيبة من صاحبها، فيحرمه من شرعية القيادة. وربما لم تكن الضربة المصرية كافية لإنهاء الحرب فى ليبيا، ولا حاسمة فى قلب الموازين هناك، ولكنها كانت كاشفة عن الحدود التى يمكن الذهاب إليها حال الضرورة.
والثانية هى صوغ مشروع سياسي يمكن التبشير به، فالقائد لابد أن يمتلك القيم الأكثر حداثة وتقدمية، ليسير خلفه الآخرون. وإذا كان سبق مصر إلى «الحداثة الثقافية»، ولعب دور الجسر الذى عبرت عليه الأفكار والفنون الحديثة إلي المجتمعات العربية، قد وفر أرضية جذابة لقيادتها طيلة قرنين مضيا، فقد تقادمت تلك الجاذبية، وصارت بحاجة إلى تجديد سحرها بقيم «الحداثة السياسية» كالدولة الوطنية، والنزعة الفردية، والديمقراطية التمثيلية، تجسيدا لـ «نموذج تحررى» فى الداخل، يمتلك كاريزما الإشعاع فى الخارج، يقتفى أثره من يرغب فيه طوعيا ودونما قسر، احتراما للدولة الوطنية العربية، التى طالما تنكرت لها مشاريع إيديولوجية شمولية، بحثا عن أطر أوسع منها، فإذا بها تورطنا في صراعات طائفية تقودنا إلى ما هو دونها.
أما الثالثة فصوغ رسالة حضارية تمنح للقوة العسكرية مشروعيتها الأخلاقية، فلا تتحول مصر إلى فتوة الإقليم، بل تبقى قائده الملهم. فالمتعين إذن تحديد: هل تقود مشروعا إقليميا طائفيا وشوفينيا، يورطها فى حروب بين السنة والشيعة، وكذا بين العرب والفرس والترك والكرد. أو مشروعا قوميا متمدينا يستوعب الأقليات العرقية والمذهبية، ويصد مخاطر العدوان الصهيونى، ومحاولات التلاعب الأمريكي بالإقليم العربى. كما يحتضن الإسلام الحضارى، ويفتح الباب لعلاقة بناءة مع الشركاء الكبار فى الإقليم، دون عقد نقص؛ إذ تمتلك مصر وحدها من عناصر القوة الشاملة ما يعادل تركيا ويتجاوز إيران. وإذا كانت مشاركتها الراهنة فى عاصفة الحزم ضرورة استراتيجية لحماية باب المندب، وموقفا مبدئيا لدعم الأشقاء فى الخليج، فإن استراتيجية طويلة المدى للأمن القومى العربى تقتضى حوارا مباشرا وتفاوضا شجاعا مع البلدين، بدلا من اللهاث خلف ذيولهما المذهبية، والتورط فى حروب بالوكالة، القاتل والقتيل فيها عرب، ولو اقتضى ذلك الدعوة إلى مؤتمر قمة إسلامي استثنائى، لوأد الفتن وتوقيف الانهيارات. نقلا عن الأهرام