المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

من التنوير الزائف.. للظلام الدامس.. والعكس

الإثنين 07/أبريل/2014 - 11:00 ص
لاحظت منذ فترة ليست قصيرة، أن بعضا من ألمع كتابنا (وبعضهم من كتاب جريدة الأهرام) يعبرون فيما يكتبون عن افتتان مبالغ فيه بالحضارة الغربية. كل ما يفعله الغرب يبدو لهم جديرا بالاعجاب، وأى جديد يبتدعه الغرب لابد أن يكون هو الصواب بعينه، فإذا فعلنا مثلهم كنا أيضا على صواب، وإذا لم نفعل مثلهم فنحن جديرون بأن نوصف بالتخلف والحماقة.
كان آخر مثل لفت نظرى هو موقفهم من تصوير الأنبياء فى الأفلام السينمائية. ألم يفعل الغرب هذا؟ فلماذا نمتنع نحن عنه؟ ولأن الغرب قد فعل ذلك، فلابد أن يكون وراء ذلك أسباب عقلانية تستند إلى فوائد اجتماعية جمة، ولكى يقنعونا بضرورة أن نفعل نحن أيضا الشيء نفسه بحثوا عن بعض الفتاوى لفقهاء فى الدين يؤيدون هذا الموقف. فما الذى نحتاجه أكثر من ذلك؟ سابقة غربية، وحجج عقلانية وفتاوى من فقهاء «مستنيرين»؟
لقد نشر لى منذ أكثر من عشرين عاما كتاب بعنوان «التنوير الزائف» ذكرت فيه أمثلة كثيرة لهذا النوع من التنوير وكنت أقصد به هذا الخطأ بالضبط: أى اعتبار أى عمل من أعمال «التغريب» نوعا من أنواع «التنوير» ومازلت اعتقد أنى كنت على صواب، رغم كل ما حدث خلال العشرين عاما الماضية من غلبة «الظلام الدامس» على «التنوير الزائف» وأقصد بالظلام الدامس غلبة اعداء أى نوع من التنوير حتى «التنوير الحقيقي» وهو الدعوة إلى ما يقضى به العقل أيا كان مصدره ، ورفض الخزعبلات والدروشة، ومع ذلك فمازال فى حياتنا الثقافية ممثلون «للتنوير الزائف» الذى أتكلم عنه الآن.
لقد شهدنا خلال السنوات الماضية (ولانزال) مدافعين عن استخدام ألفاظ بذيئة فى الكلام عن المؤسسات الدينية (لأن الغرب فعل ذلك) وعن الاباحية فى الأدب والأفلام السينمائية والتليفزيونية (لأن الغرب سمح بذلك واعتبر أن حرية الأديب والفنان يجب أن تبقى حرية مطلقة).
ان التمييز بين التنوير الحقيقى والتنوير الزائف مهمة دقيقة وصعبة، ولكن صعوبتها يجب ألا تمنعنا من بذل الجهد فيها، كما اعترف بأن بعضا من أعظم كتابنا ومفكرينا (مثل طه حسين) قد دعانا مرة إلى شيء يشبه هذا الذى ننتقده الآن، عندما دعا فى كتابه (مستقبل الثقافة فى مصر) فى 1938، إلى أن «نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم»، وأن نقبل من الحضارة خيرها وشرها، وحلوها ومرها، وما يحب منها وما يكره، وما يحمد منها وما يعاب« لقد كان فى هذه العبارة تطرف ومبالغة أجد من الصعب استساغتهما ثم اتخذ موقفا مماثلا كتاب ومفكرون آخرون بارزون (مثل زكى نجيب محمود، فى مرحلة مهمة من حياته) كما سار على نفس الدرب هؤلاء الكتاب المنادون بالسير وراء الغرب فى كل الأحوال. ولكنى بصراحة أجد من العذر لطه حسين وجيله الذين اتخذوا هذا الموقف فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى أى منذ ما يقرب الآن من مائة عام ــ أكثر مما أجد لزكى نجيب محمود وجيله (الذين كتبوا فى الخمسينيات والستينيات) وأكثر مما أجد من عذر لكتابنا الذين يتخذون موقفا مماثلا اليوم بعد مرور نصف قرن آخر. والسبب ليس فقط ما أداه طه حسين وجيله من خدمات جليلة للثقافة المصرية والعربية فى وقتهم، ولكن هناك سببا آخر أهم، وهو ما طرأ على «الحضارة الغربية» من تغيرات مهمة ليست دائما إلى الأفضل، خلال المائة عام الماضية.
لابد أن نذكر القاريء أولا بأن الحضارات لا تبقى على حالها إلى الأبد وأن ازدهارها فى فترة يعقبه فترة من الذبول والانحطاط. حدث هذا للحضارة الفرعونية والرومانية والإسلامية، وقد بدأ يحدث شيء مماثل فيما يظهر، للحضارة الغربية التى ازدهرت على ايدى الأوروبيين، واعتراها الذبول فى العصر الأمريكى حتى إننى كثيرا ما يخطر لى أن من الممكن جدا أن ما نسميه الآن الحضارة الغربية قد نكتشف بعد زمن، يطول أو يقصر، أن من الأفضل التمييز فى داخلها بين عصرين كانت الحضارة فى أولهما أوروبية وفى الثانى أمريكية.
قد يكون من الشائق أن نلاحظ أن طه حسين كتب عبارته التى اقتطفتها فيما تقدم، فى السنة السابقة مباشرة على قيام الحرب العالمية الثانية والتى دشن انتهاؤها بداية عصر السيطرة الأمريكية، وبداية الانتشار الكاسح لنمط الحياة الأمريكية فى العالم بأسره، بما فيه أوروبا نفسها، ولكن هذه السيطرة وهذا الانتشار صاحبهما أفول بعض القيم الأخلاقية والجمالية التى كانت مصدر فخار للحضارة الأوروبية، لقد أفاض كثيرون من نقاء الحياة الغربية فى تعداد سلبياتها من نوع تفكك الروابط الأسرية، وانتشار الاباحية وزيادة الجرائم وظهور أنواع جديدة منها، وتمرد صغار السن على الكبار وخضوع نظام التعليم لأهواء التلاميذ، وخلو الأعمال الفنية الجديدة من المضمون، وتغليب المصالح المادية على متطلبات المصلحة العامة.. الخ.
والملاحظ أن كل هذه السلبيات قد استفحلت فى العصر الأمريكي، فإذا كان لكثير من هذه الانتقادات وجاهة وثقل (وأنا اعتقد ذلك) فما الذى يضطرنا الآن باسم الأخذ بأساليب التقدم والتحضر والحداثة واللحاق «بالدول المتقدمة» إلى ان نقلدهم فى كل هذه السلبيات أيضا؟ انى اعتبر السماح بتصوير الأنبياء فى السينما من قبيل هذا الانسياق فى تيار كان من الأجدر بنا تجنب السير فيه من البداية.
عندما نشر الكاتب البريطانى من أصل هندى (سلمان رشدي) كتابه (آيات شيطانية) الذى أحدث ضجة كبرى استهجنت بشدة بذاءة حديثه عن بعض معتقدات المسلمين، كان رأيى أن رجال الدين فى إيران وقت صدور الكتاب أخطأوا بإصدار فتوى بقتله بدلا من الاحتجاج عليه وبيان حماقته ثم اهماله، كان الكتاب فى نظرى مثالا «للتنوير الزائف» ولكن صدور فتوى بقتله كان من قبيل «الظلام الدامس»، وها هو الاتجاه إلى تصوير الأنبياء فى السينما يقدم مثالا آخر «للتنوير الزائف» لقد استخدم البعض حجة ضعيفة لنقد هذا الاتجاه مدارها أن الممثل الذى يقوم بدور النبى قد يكون من قبل قد قام بأدوار شريرة، فيبقى الأثر السييء ملتصقا بذهن مشاهد الفيلم وهو يرى صورة النبي، ثم استخدمت حجة ضعيفة أيضا لتطمين هؤلاء النقاد بأن الفيلم يجب أن يختار ممثلا ليس له مثل هذا التاريخ الشرير، ان الخطأ فيما يبدو لى لا يكمن فى اختيار الممثل بل فى السماح بالتعبير عن طريق التمثيل، عن شيء أو فكرة يجب أن تبقى على مستوى عال من التجريد بحيث تبقى للمرء حرية التخيل والتفكير فى أمور على هذه الدرجة من التبجيل والتقديس، ان الاحتجاج حينئذ بحرية الفنان المطلقة فى ان يفعل ما يشاء، حجة سقيمة ومرفوضة تماما كالدفاع عن نشر الفضائح الجنسية لأشخاص معروفين ومشهورين (أو لغيرهم) بحجة «حق الناس فى ان تعرف» لا، ليس من حقوق الانسان ان يعرف كل شيء، ولكن من حقه الا يقوم أحد بقتله أو ضربه إذا ظن غير ذلك. أحيانا يخطر لى أن هذا الاختيار المشئوم الذى نجد أنفسنا أمامه: اما التنوير الزائف وإما الظلام الدامس، يرجع إلى اننا أمة محاطة بالاعداء من كل جانب، مما يضطر بعضنا إلى ممارسة التنوير الزائف، ويدفع آخرين إلى تفضيل الظلام الدامس، كما يحظر لى أن الخروج من هذا المأزق يحتاج إلى بذل جهد عقلى خلاق، وإلى استقامة خلقية فى الوقت نفسه.
نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟