المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
عبدالله النغيمشي
عبدالله النغيمشي

العنف اللغوي «الديني نموذجاً»

الأحد 13/أبريل/2014 - 11:15 ص
تتباين استخدامات اللغة بتباين الثقافات من حيث نسق العلاقات المترسخة بين طبقات المجتمع، فالمجتمعات المتمدنة التي تحترم كينونة الإنسان بصرف النظر عن ترتيبه الاجتماعي تتمايز عن المجتمعات ذات البنية الشمولية الآبائية السلطوية في نسق علاقاتها، إذ تعتمد المجتمعات التقليدية قانون الهرمية السلطوية والتراتبية الرأسية في تقويم الإنسان، ذلك أن العلاقة في هذه المجتمعات «الشمولية» لا تقوم على التفاعل الأفقي بين الأفراد، وإنما على التعاطي الرأسي العامودي من الأعلى للأدنى، بمعنى أن التعاطي بين طبقات المجتمع تعتمد القوة والهيمنة من الأقوى للأضعف، وحتى الأضعف يستعيد تلك السلطوية ليمارسها على الأدنى وهكذا تظل العلائق نزولاً، فليس ثمة أفقية إنسانية في التفاعل بين الأفراد، إذ السيادة للأقوى.
جرّاء نظام العلاقات الاجتماعية السائدة يتحدد نمط اللغة التي يتم الاحتكام إليها وبها، في الثقافة الشمولية عمودية التواصل تكون اللغة متوازية مع النظام القيمي الشمولي، وبما أن إدارة العلاقات بين الأفراد في البيئة الشمولية تستضمر المغالبة والتسلط تكون اللغة خادمة وموازية لهذا النظام من العلاقات، إذ تنتج الثقافة الشمولية لغة شمولية استبدادية، وهي ما تسمى «العنف اللغوي»، وذلك امتداد طبيعي يتشكل عبر اللاوعي الجماعي دونما أية حرية واختيار.
إشكال عنف اللغة يتمثل من حيث تحولها إلى الآلة الأهم والأكثر تشكيلاً وحفراً في الوعي، ذلك أن اللغة هي المسؤول عن تأسيس لاوعينا العميق وعلاقتنا كما إدراكنا لذواتنا والناس والكون حولنا ذلك أننا نتيجة ومعطى لغوي، إذ اللغة سبقت حضورنا لذلك نحن نحتكم لها ونخضع لشروطها لا اللغة من يخضع لنا، وبحسب ما كان «فإن شخصية الطفل تبدأ في التكون بحسب مفاهيم ومعطيات اللغة، وحيث اللغة سابقة في وجودها على الطفل فهي التي تشكله، وهكذا تصبح اللغة هي التي تتكلم الشخص وليس الشخص هو الذي يتكلم اللغة، فاللغة دائماً موجودة قبلنا، تنتظرنا لتعين لنا مواضعنا فيها وفي العالم، وهي في هذا وفي وجودها السابق تشبه الأهل، ولن نتمكن أن ننفض عنا آثار الأهل ولا آثار اللغة في تشكيل كياننا..». يقول ديريدا: «إن اللغة ليست أداة نستعملها بل هي المادة التي نحن مصنوعون منها».
لأننا درجنا في بيئة محايثة للشمولية والتراتبية السلطوية فإننا بحاجة مضاعفة إلى استعادة علاقتنا باللغة، ليس تحت رغبوية الهيمنة على اللغة فذلك محال وإنما للدخول في حوار وصلح وتفاهم معها ولو لمرحلة التسوية.
أتجه لمسائلة العنف اللغوي الذي تنتجه لغتنا ولا تكاد تمتلك أن تنتج غيره، ولعلي أشير هنا إلى كتاب من أهم الكتب التي استقصت «العنف اللغوي» وهو كتاب «عنف اللغة» لـ«جان جاك لوسيركل»، وإن كان في كتابه أشار إلى أنه ليس رائداً في مجال البحث في عنف اللغة وأنه سبقه فيه فرويد ولاكان ودولوز وغوتاري وجاكوبسون وآخرون إلا أن قيمة كتابه أنه طرح البحث بشكل متكامل يشمل تلافيف مباحث العنف اللغوي.
في ثقافتنا الاجتماعية والدينية ثمة عنف لغوي يمارسه الفرد على ذاته ويمارسه على الآخرين كماهم يمارسون تكراره، في المجال الديني تتم ممارسة العنف اللغوي الديني من دون إدراك أو وعي، إذ ينشأ الفرد وتتكون ثقافته الدينية من خلال تراكم لغوي حاد يشكل لديه وعيه الديني بصورة عنيفة لا تتسق مع التسامح والبساطة الدينية الأصيلة والحقيقية لمرحلة أن يصبح الدين عنتاً ومعرة على ذات الإنسان، ويتحول الدين من كونه رحمة وحباً وجمالاً ويسراً إلى قسوة وشدة وعسراً، وبدلاً من أن تكون تشريعات الدين (فاتقوا الله ما استطعتم) و(لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) و«إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» و«إن هذا الدين عميق فأوغلوا فيه برفق»، تتحول تشريعات الدين من خلال تكريس العنف اللغوي الديني إلى تشريعات مجافية لقيم التسامح الديني، وذلك بسبب التأكيدات اللغوية التي يتم إنتاجها باسم الدين من لدن رجال الدين الذين لا يحسنون توجيه لغتهم الدينية نتيجة تلقيهم الدين بذات اللغة العنيفة التي يستعيدون إنتاجها ويتمثلونها بوصفها هي الدين.
نتج جراء عنف اللغة الدينية التي يسوق الدين من خلالها ثقافة دينية رديئة تدعي أنها الدين وهي أبعد ما تكون عن تمثيله وتجسيده، لنا في مصطلح «حرام» مثال على العنف اللغوي الديني وكيف تم الجور على هذا المصطلح وعلى الوعي الديني حتى بات استخدامه يولد ويترعرع معنا من بواكيرنا حتى خلنا كل شيء حراماً بمجرد أن يقال أنه حرام، ليأخذ هذا المصطلح الحيز الأكبر من أصل الدين مع أن الدين يعتمد قاعدة الحلية والإباحة ويشرعن هيمنتها ويجعل التحريم استثناء وليس أصلاً.
لو طالعنا البضائع اللغوية لرجال الدين لوجدنا أنها تكاد أن تتماس دوماً مع التحريمات الاعتباطية غير المستحقة دونما أدلة برهانية، وتأكيداً لمدى هيمنة العنف اللغوي الديني قابلية المجتمع لتصديق وامتثال الفتاوى التي تنحو التحريم، بينما لا نجد مثل ذلك حال فتاوى التحليل نظراً إلى تغلغل لغة العنف الديني المهيمنة على نسيج اللاوعي والمخيال الجمعي.
«الحصاد» عنف لغوي ديني أن نكرر على الطفل من بداياته مصطلح «حرام» جزافاً، عنف لغوي ديني أن يعطى الناس تصوراً عن الله أنه عقاب وخوف وليس حباً وأماناً ورحمة، عنف لغوي ديني أن يغوّر في اللاوعي أن الدين يقدم الموت على الحياة وأنه لا يشمل الدين والدنيا وأنه برزخ فحسب، عنف لغوي ديني أن يتم تحويل رجال لشخصيات رديفة موضوعياً للدين ومقاصده، العنف اللغوي الديني صنع مفازة محفوفة بالجهل والغموض بين المؤمن التقليدي ودينه. * كاتب سعودي. جريدة الحياة

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟