المركز العربي
للبحوث والدراسات
رئيس مجلس الادارة
عبد الرحيم علي

المدير التنفيذي 
هاني سليمان
ads
د‏.‏ جلال أمين
د‏.‏ جلال أمين

المساواة.. هل مازالت تصلح هدفا؟

الإثنين 20/أبريل/2015 - 11:00 ص

لابد أنى لاحظت منذ سن مبكرة، مظاهر كثيرة للتفاوت الكبير بين أنماط الحياة، للأغنياء والفقراء فى مصر، ولابد أنى اقتنعت منذ ذلك الوقت بأننا لابد أن نفعل شيئا للقضاء على هذا التفاوت، أو على الأقل للتخفيف منه، على أساس أن المساواة بين البشر أفضل من اللامساواة. أفضل لزيادة الرفاهية للمجتمع ككل من ناحية، وأكثر تحقيقا للعدالة من ناحية أخري.

مازلت حتى بعد تقدمى فى السن، أؤمن بمزايا المساواة من الناحيتين، الرفاهية والعدالة، ولكن لابد أن أعترف بأن نظرتى لقضية المساواة واللامساواة قد طرأ عليها بعض التغيير مع ظهور وانتشار تلك الظاهرة التى تعرف «بالمجتمع الاستهلاكي» منذ أربعين أو خمسين عاما. انى أفهم عبارة «المجتمع الاستهلاكي» بمعنى زيادة الاقبال على السلع الترفيهية، وانتشار استهلاكها فى البلاد الثرية أولا ثم انتقالها إلينا، والميل المتزايد إلى اعتبار استهلاك هذه السلع من ضروريات الحياة (رغم انها ليست كذلك فى الحقيقة) واعتبار الحصول عليها معيارا مهما فى التمييز من الطبقات، وعاملا مهما فى توليد الشعور بالتعالي، من جانب طبقة لأخري، من ناحية، وبالحسد والغيظ من الناحية الأخري.

كنت قد بدأت ألاحظ هذه الظاهرة فى الستينيات من القرن الماضي، كلما كنت فى زيارة لإحدى الدول الغنية، ولكنى لاحظت نموها السريع منذ السبعينيات، ثم انتقالها إلى مصر مع بداية ما سمى بعصر الانفتاح كنت فى البداية أشعر بالأسف لهذه الظاهرة لأسباب ثقافية أو حضارية، سواء تعلق الأمر بالمجتمعات الغنية أو الفقيرة، ولأسباب اقتصادية أيضا، إذا تعلق الأمر ببلادنا الفقيرة، إذ رأيت فى انتشار هذه الظاهرة أحد العوامل المعطلة للتنمية الاقتصادية.

ولكن مع مرور الوقت، وتفاقم ظاهرة المجتمع الاستهلاكى وتسربها أكثر فأكثر حتى بين صفوف الطبقات الأقل ثراء، أو المحدودة الدخل، بدأت ادرك أن لهذه الظاهرة أيضا مغزى آخر يتعلق بتلك القضية العتيدة التى شغلت الناس والمفكرين عبر التاريخ، وهى قضية المساواة واللامساواة.

فلنلاحظ أولا أن مشكلة اللامساواة لم تعد مقصورة على الفرق بين التمتع بالرفاهية فى جانب، وحرمان من الضروريات فى الجانب الآخر، بل أصبحت تتعلق أكثر فأكثر، بالتفاوت فى استهلاك الطرفين لسلع مشكوك فى ضرورتها أصلا، بل وربما مشكوك حتى فى نفعها، إذا كان الأمر كذلك فإلى أى حد يجوز أن يشعر المرء بالألم أو الأسف، كلما رأى هذا التفاوت، وإلى أى مدى يجوز التحمس بشدة للقضاء عليه؟

 

بعبارة أخري، إذا كان الاستهلاك فى الحالين يبدو تافها أو مثيراً للسخرية بدلا من الحسد، فلماذا نريد أن يتساوى الناس فيه؟ أو بعبارة ثالثة: كان من المؤلم حقا أن نرى منظر شخص جائع إلى جانب شخص لديه من المال ما يكفى لإشباع حاجاته الضرورية وغير الضرورية، فما وجه الشعور بالألم أو الأسف، إذا رأينا شخصا لا يحصل على أكثر من زجاجة واحدة من الكوكاكولا فى اليوم أو الأسبوع، بينما يستطيع آخر أن يشرب الكوكاكولا فى أى وقت يشاء؟ أو إذا رأينا شخصا يمتلك سيارة صغيرة تفتح نوافذها بتحريك اليد، بينما يملك آخر سيارة فارهة تفتح نوافذها أتوماتيكيا؟ ما جدوى اثارة موضوع المساواة واللامساواة فى مثل هذه الأحوال؟

ولكن الأمر لا يقتصر على هذا، بل ان من الملاحظ أيضا فى ظل المجتمع الاستهلاكى ان استمرار التفاوت فى الدخول والثروة لم يعد يعتمد فقط (بل ولافى الأساس) على استخدام وسائل القهر والعنف، فى اخضاع الفئات الأقل دخلا بل يعتمد هذا التفاوت فى استمراره على وسائل نفسية تخلو تماما من العنف، ولا تستخدم إلا نوعا رقيقا جدا من القهر، إن الرأسمالى إذ يقوم باستغلال العمال يعتمد على حاجة العمال الشديدة للأجر، وإلا مات هو وعياله جوعا، أما عندما يقوم الرأسمالى باستغلال المستهلكين فإنه يعتمد على تشويق المستهلك إلى سلع قد لا يحتاجها أصلا، أو على اقناعه بمختلف الطرق بأن هذه السلع تجلب من المتعة أو السعادة ما لا تجلبه فى الحقيقة. فإذا وقع المستهلك فى الفخ (وقد أثبتنا جميعا سهولة وقوعنا فى هذا الفخ) فإنه أى المستهلك يساهم طوعا فى تضخم أرباح المنتجين والبائعين، ومن ثم يساهم طوعا فى زيادة درجة اللامساواة، بينما كانت اللامساواة فى الماضى لا تتحقق إلا بالقوة والعنف.

إذا كان صحيحا ان اللامساواة تتحول أكثر فأكثر إلى لا مساواة فى أمور تافهة وغير ضرورية، أو أنها قد أصبحت الآن ـ ولهذا السبب ـ أقل وطأة مما كانت واننا جميعا بمن فى ذلك محدودو الدخل منا، نساهم فى استمرار اللامساواة بل ونساهم فى تفاقمها كلما رضينا أن ندفع أثمانا باهظة لأشياء تافهة، الا يعنى هذا ان تحقيق المساواة لم يعد هدفا جديرا بالسعى من أجله بنفس الدرجة وبتلك الحماسة الشديدة التى كانت تتسم بها الحركات الاشتراكية؟

الا يصح القول إذن إنه كلما ارتفع مستوى الدخل فى المجتمع ككل، بما فى ذلك مستوى معيشة محدودى الدخل، كلما فقد هدف المساواة جاذبيته وسحره؟ أو بعبارة أخري: إذا كان الجميع قد قبلوا الاشتراك فى سباق جنونى لزيادة استهلاكهم من مختلف السلع ضرورية كانت أو غير ضرورية هل يستمر لهدف المساواة ذلك السحر القديم الذى اثار مختلف المفكرين الداعين للإصلاح؟

قد يكون هذا صحيحا ولكن إلى حد معين، ان اشتراك الجميع، الأثرياء والأقل ثراء، فى مهرجان استهلاكى عظيم، يحصل فيه الجميع على الضروريات وكثير من الكماليات قد يجعل حقا من الصعب اثارة موضوع المساواة واللامساواة، ولكن إذا رؤى وسط هذا المهرجان العظيم شخص جائع إلى جانب أشخاص ينفقون دخلهم على مختلف أنواع المأكولات والمشروبات والملبوسات الباهظة التكاليف دون أن تكون ضرورية الا يجب أن يثير هذا المنظر نفورا شديدا من هذه الدرجة من اللامساواة، فيستعيد هدف المساواة أهميته وجدارته؟

ان كل هذه الملاحظات لابد أن تثير التساؤل عما إذا كنا قد ارتكبنا خطأ جسيما عندما هجرنا هدفا آخر، أقدم بكثير من هدف المساواة وفضلنا عليه هدف المساواة، أقصد بهذا هدف تحقيق «العدل». ان العدل، أى الانصاف أو اعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه، شيء مطلوب دائما، سواء فى ظل الدخل المرتفع أو المنخفض، فى مجتمع يستهلك الضروريات فقط أو يمعن أيضا فى استهلاك الكماليات بل ان كلمة العدل تثير فى اللغة العربية (ولاشك فى لغات أخرى أيضا) ليس فقط معنى عدم المحاباة فى توزيع الدخل، ولكن أيضا التحقق من استحقاق السلعة نفسها لأن يرغب الناس فى استهلاكها أيضا، فضلا بالطبع على المساواة أمام القانون. نقلا عن الأهرام

إرسل لصديق

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟

ما توقعك لمستقبل الاتفاق النووي الإيراني؟