هل تذكرون التحول إلى آسيا؟ الحركة المميزة الكبيرة في السياسة الخارجية لفترة باراك اوباما الرئاسية الأولى التي أطلق البعض عليها اسم «إعادة التوازن الاستراتيجي»؟ كنا مضينا في تحديد جديد لأولوياتنا ووضع صراعات الشرق الأوسط وراءنا وتخصيص جهود كبيرة وتطبيق استراتيجية للتعامل مع الخطوات الاستراتيجية التي يتعين على أميركا أن تخطوها لتأخذ في الحسبان نهوض المنطقة الأسرع نمواً في العالم.
في غضون ذلك، استقال صاحبا المشروع ومحركاه وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ومستشار الأمن القومي توم دونيلون من منصبيهما في إدارة اوباما، ما أدى إلى خسارة المبادرة اندفاعتها. ومنذ 2013، لم يصدر ما يزيد عن تأكيدات تقول أن التحول ما زال جارياً – رغم وجود دليل صغير وثمين على ذلك (اتفاق النقل التجاري عبر المحيط الهادئ). أما المنطقة التي أملت الإدارة بالتحول بعيداً عنها، أي الشرق الأوسط، فما زالت تمتص كل الجهود وما زال المسؤولون الرسميون في الإدارة عاجزين عن القيام بما يزيد عن إيماءات رمزية أو مبادرات صغيرة نسبياً لإظهار الأولوية التي منحتها أميركا لآسيا على رأس لائحة مهماتها في السياسة الخارجية.
مع ذلك حصل أمر طريف. بينما كنا ماضين في الانتقال إلى الدوران الراقص حول المحور في الشرق الأوسط – ونحن نسعى إلى الابتعاد لكننا نرجع إلى حيث كنا – اتفقت بلدان المنطقة، من الحلفاء والخصوم سواء بسواء، على رؤية أميركا تحاول الخروج أو الانكفاء أو أن تقود من الخلف. وعندما تصرفت واشنطن، كان ذلك استجابة لأزمة. وحتى عندما تصرفت، بدا أن أكثر ما قامت به يرمي إلى أن تقوم بالحد الأدنى. مبادرة الولايات المتحدة الوحيدة الكبيرة، أي الدفع في اتجاه اتفاق نووي مع إيران، نُظر إليه من جميع حلفائنا التقليديين تقريباً كأمر أسوأ من إعادة التوازن الآسيوي الذي أقلقهم باعتباره إشارة إلى الانكفاء الأميركي. بالنسبة إليهم، من إسرائيل إلى دول الخليج، اعتُبر الاتفاق تغيراً ليس للخروج من المنطقة بل كدخول عدو جديد إليها.
وقررت مجموعة من أهم الدول في الشرق الأوسط، بعد انزعاجها من تردد وتأرجح القوة العظمى أو ربما بسبب ما يبدو عليها من آثار دوار، أن تقوم بما لا يبدو أن أميركا ستقوم به: لقد بدأت الدول هذه بتنفيذ تحولها الخاص نحو آسيا وفي بعض الحالات، سرّعت اتجاهاً كان قد بدأ سابقاً.
قال لي زعيم من الشرق الأوسط أخيراً «نحتاج إلى علاقة يمكن الاعتماد عليها مع قوة كبرى. إذا لم يعد ممكناً إدراج الولايات المتحدة في الحساب، فعلينا الالتفات إلى جهة أخرى».
كانت النتيجة تعزيز العلاقات الصينية (كذلك الهندية واليابانية والكورية الجنوبية، إلى درجة أقل) مع العديد من دول الشرق الأوسط الأكبر. ورغم أن الصراع في اليمن قوض خطط الرئيس الصيني تشي جينبينغ لزيارة السعودية ومصر، إلا أن ذلك ليس سوى توقف قصير في التيار المستمر من زيارات قادة الشرق الأوسط إلى الصين والعكس بالعكس.
إضافة إلى الإعلان عن استثمارات جديدة بقيمة 46 بليون دولار في باكستان الحليفة التقليدية للصين، كان وزير التجارة الخارجية الصيني لاعباً مهماً في قمة شرم الشيخ الأخيرة التي ركزت على الاستثمار في مصر وعقد الجانبان اجتماعات عدة رفيعة المستوى. وأقيم في العام الماضي «أسبوع الصين» في إسرائيل مترافقاً مع زيارة نائب رئيس الوزراء الصيني حاملاً وعوداً جديدة بالتعاون والاستثمار. وأعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، وقد زار الصين قبل عام أيضاً، صراحة أنه يضع في أولوياته تعزيز العلاقات مع بكين وهو قرار «يرمي إلى توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة» على ما أبلغني مسؤول إسرائيلي عالٍ.
تتخذ الصلات أشكالاً أخرى أيضاً. ولاحظ مسؤول خليجي الأسبوع الماضي أنه عندما تواجه دول الخليج مشكلات في الحصول على التكنولوجيا العسكرية من الولايات المتحدة فإن المكان الأول الذي تتوجه إليه هو الصين.
واليوم تحتل الصين المركز الأول بين شركاء إيران التجاريين كما أنها الشريك الأكبر للسعودية، وفق «كتاب معطيات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية». كما أنها الشريك التجاري الثاني لإسرائيل وباكستان. وتناقش بكين وطهران سبل التعاون النووي السلمي بينهما وتزداد قرباً العلاقات بين حكومتي البلدين. وتظهر الصين والهند ككبار المستهلكين للنفط الإيراني الذي قد يتدفق إلى الأسواق ما إن ترفع العقوبات عن إيران جراء الاتفاق النووي المرجح. وربما يكون البلدان في موقف المعارض لأي إعادة فرض العقوبات على إيران إذا أخلت بالاتفاق النووي.
وفيما تحولت دول الشرق الأوسط إلى الصين بحثاً عن منافع اقتصادية وتجارة السلاح والتكنولوجيا والقيمة الاستراتيجية التي قد تجلبها هذه العلاقات، لم يكتف الصينيون بالترحيب بهذه الترتيبات، بل إنهم سعوا إليها. وخلافاً للولايات المتحدة، يملك الصينيون استراتيجية شديدة الوضوح لزيادة نفوذهم.
ويؤدي الشرق الأوسط دوراً مركزياً في استراتيجية بكين لرفع مستوى العلاقات مع الاقتصادات الحيوية في وسط آسيا والشرق الأوسط ووصولاً إلى أوروبا. وتحتل موارد الطاقة في الشرق الأوسط موقعاً مركزياً في الاستراتيجية هذه. وتظهر هنا كفاءة الصينيين في الحفاظ على العلاقات مع بلدان تتصارع في ما بينها، بل تعزيزها - على غرار إيران والسعودية وإسرائيل – وفي ذلك إشارة إلى الجدية التي يقاربون بها مهمتهم. نقلا عن الحياة
* رئيس مجلس إدارة «مجموعة فورين بوليسي»، عن «فورين بوليسي» الأميركية، 24/4/2015، إعداد حسام غياتي