بعيدا عن التعليق على أحكام القضاء وما يتعلق بالحكم الصادر بشأن تجريم الإضراب وإحالة المضربين إلى المعاش، فإننى أعتقد أن هناك جولات طويلة فى هذا المجال سوف تشهدها أروقة المحاكم لإزالة «الالتباس» بشأن حق الإضراب والتظاهر حتى تتضح الحقيقة كاملة، ويأخذ العدل مجراه الطبيعي، لأن الإضراب والتظاهرات حقوق كفلها الدستور، وهو «أب» كل القوانين والأحكام، خاصة مع وجود نص دستورى صريح وليس مجرد اجتهاد أو تخمين.
على الجانب الآخر أرفض التشكيك فى القضاء لمجرد صدور بعض الأحكام التى قد نتفق أو نختلف بشأنها، خاصة أن القانون كفل العديد من طرق الطعن على الأحكام، بعيدا عن محاولة البعض هدم صرح القضاء الشامخ، وضرب استقلاله، وهز صورته، والنيل منه لأهداف خبيثة وشيطانية فى إطار ضرب وتفكيك مؤسسات الدولة، كما حدث فى الدول المجاورة التى وقعت فريسة للفوضى والعشوائية.
الدستور المصرى أفرد مادتين للإضراب والتظاهرات، أولاهما المادة رقم 15 التى نصت على أن: «الإضراب السلمى حق ينظمه القانون»، وثانيتهما: المادة 73 التى تقول: «للمواطنين حق تنظيم الاجتماعات العامة، والمواكب والتظاهرات، وجميع أشكال الاحتجاجات السلمية، غير حاملين سلاحا من أى نوع، بإخطار على النحو الذى ينظمه القانون، وحق الاجتماع الخاص سلميا مكفول دون الحاجة إلى إخطار سابق، ولا يجوز لرجال الأمن حضوره، أو مراقبته، أو التنصت عليه».
هكذا أكد الدستور بما لا يدع مجالا للشك دون أدنى اجتهاد حق الإضراب والتظاهر، بل وألزم الدولة بإصدار القوانين المنظمة لهذا الحق.
قبل إقرار الدستور الجديد كان الرئيس المؤقت عدلى منصور قد أصدر قرارا بقانون رقم 107 لسنة 2013 بشأن التظاهر وتنظيم الحق فى الاجتماعات والمواكب والتظاهرات السلمية، واشتمل القانون على 25 مادة، وأكدت المادة الأولى حق تنظيم الاجتماعات العامة والمواكب والتظاهرات السلمية والانضمام إليها، وذلك وفقا للأحكام والضوابط المنصوص عليها فى هذا القانون، وأوضحت باقى المواد الضوابط والمحاذير لحق التظاهر، وكذلك العقوبات المقررة فى حالة مخالفة هذه الضوابط والمحاذير.
وقتها قامت الدنيا ولم تقعد، فقد كان هناك فريق يؤيد هذا القانون بعد أن تحولت المظاهرات والإضرابات إلى «فوضي» و«هوس» يجتاح كل الأماكن «بحق» أو «دون حق»، خاصة مع تراجع العمل والإنتاج، وغلق العديد من المصانع والشركات نتيجة هستيريا التظاهر والإضراب، فى حين كان هناك فريق آخر يخشى أن تتحول الضوابط والمحاذير إلى وسيلة «للمنع» وعودة «القمع»، وفى النهاية تم الطعن على القانون أمام المحكمة الدستورية، وفى انتظار حكمها لمعرفة ما إذا كان هذا القانون دستوريا أم لا، وهل يحتاج إلى تعديل بعض فقراته أم نحتاج إلى قانون جديد تتم صياغته بصياغات أكثر دقة دون اللجوء إلى الألفاظ «المطاطية» و«العموميات».؟
مصر الآن تشق طريقها نحو الاستقرار، وتتبوأ مكانتها العالمية بعد أن تغيرت نظرة المجتمع الدولى لما حدث فى مصر بعد ثورة 30 يونيو، وأقرت جميع دول العالم ـ باستثناء دولتين فقط ـ بحق الشعب المصرى فى ثورته التى أطاحت بحكم الإخوان بعد رفضهم لكل الحلول التى طرحتها القوى السياسية، والقوات المسلحة آنذاك، وكل ذلك يحتاج إلى خطوات مدروسة بعيدا عن «الانفعالات» و «التشنجات»، وبالتالى فلابد من احترام الدستور واحترام ما وقعته مصر من مواثيق دولية، مثل العهد الدولى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، الذى بمقتضاه حصل عمال السكك الحديدية المتهمون بالإضراب على البراءة.
تقنين التظاهر والإضراب مطلوب، لأن الفوضى معناها الخراب والانهيار.. لا قدر الله، لكن فى الوقت نفسه من المستحيل إعادة العجلة إلى الوراء والعودة إلى الحظر الكامل، لأن «الحظر» وعدم «التنفيس» يعنى الانفجار فى النهاية، كما حدث فى ثورتى 25 يناير و30 يونيو.
أتمنى لو قام رئيس اتحاد العمال جبالى المراغى بتكليف مستشاريه القانونيين بدراسة حكم الإدارية العليا، والطعن عليه بكل الوسائل القانونية بسرعة ودون «إبطاء»، بعيدا عن المزايدين ومشعلى الحرائق، ثم بعد ذلك ننتظر حكم الدستورية العليا فى مدى دستورية قانون التظاهر، وهل سيتم تعديل بعض فقراته أم يتم إعداد قانون جديد يتناسب مع المتغيرات الجديدة، ويراعى التطور الديمقراطى فى مصر ومكانتها الدولية، وأعتقد أن ذلك هو الأغلب. نقلا عن الأهرام