لقد كان الرئيس عبدالناصرعلي يقين بأن مصر هي بوابة إفريقيا بلا منازع. وعليه فقد أضحت القاهرة عاصمة التحرر الوطني الإفريقي حيث توافد عليها الزعماء والقادة الأفارقة طلباً للدعم والمساندة. ولعلنا نذكر كيف أضحت اذاعة القاهرة أول إذاعة ثورية دولية تبث برامجها باللغة السواحلية وغيرها من اللغات الإفريقية الأخري. ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد حيث كانت مصر مقصدا للأفارقة من أجل طلب العلم والمعرفة. علي أن انشغال الرئيس السادات بتنفيذ سياساته المتعلقة بالتوجه نحو الغرب ولا سيما الولايات المتحدة قد أنساه أمر إفريقيا فلم يعد يعول عليها إلا لطلب الدعم في المواجهة مع اسرائيل. وقد ازداد الأمر سوءا في ظل حكم الرئيس مبارك الذي استطاع أن يعزل مصر بشكل شبه تام عن محيطها الإفريقي، وهو ما أدي إلي تراجع دورها الإقليمي في إفريقيا.
وهنا تأتي أهمية الهجوم الدبلوماسي الناعم الذي يقوده الرئيس السيسي منذ نحو عام تجاه إفريقيا. إنها محاولة لإصلاح الخلل أولا، وتمهيد الطريق ثانياً لبناء شراكة متكافئة مع الدول الإفريقية علي أسس من الندية والمنفعة المتبادلة. وتذكرنا هذه الغيبة المصرية الطويلة عن إفريقيا والعودة إليها بفيلم المخرج الراحل يوسف شاهين «عودة الابن الضال» ولاسيما شخصية «على» الذى ترك عائلته وأهله ليقع فريسة أوهامه ومن يستغله.
ولا يخفي أن توقيع اتفاق سد النهضة بين مصر وأثيوبيا والسودان بعد صراع سياسي طويل يمثل خطوة مهمة لكسر حالة الجمود التي أعاقت مسيرة علاقات مصر مع إثيوبيا ومع إفريقيا بشكل عام. كما أن مساعدة مصر في إنقاذ المواطنين الإثيوبيين المختطفين في ليبيا واستقبال الرئيس السيسي لهم في مطار القاهرة يعد تجسيداً لمبدأ الدبلوماسية الناعمة التي يتبناها بنجاح تجاه الدول الإفريقية. ولعل جولات وزير الخارجية سامح شكري المكوكية في إفريقيا تؤكد هذه العودة المصرية، وتؤسس لمرحلة جديدة في العلاقات المصرية الإفريقية.
علي أن هذه العودة المصرية تواجهها تحديات كبري، ولاسيما في منطقة حوض النيل التي تشكل أولوية قصوي نظراً لارتباطها بالأمن المائي المصري، والمطلوب من الفكر الاستراتيجي المصري أن يتعامل بمنطق التحدي والاستجابة في التعامل مع تحولات دول حوض النيل. ونستطيع في هذا المقام التركيزعلي أربعة تحديات كبري علي النحو التالي:
التحدي الأول يرتبط بطبيعة الصراعات الاثنية والحروب الأهلية التي تكمن حيناً وتعود للظهور أحايين أخري. ونشير في هذا السياق إلي أزمة بوروندي التي شهدت في 13 مايو الحالي محاولة انقلابية فاشلة ضد الرئيس بيير نكرونزيزا. فمنذ اعلان الرئيس نيته للترشح لولاية ثالثة مدتها خمس سنوات والأمور تسير من سييء إلي أسوأ منذرة بامكانية اعادة انتاج حالة التطهير العرقي التي شهدتها رواندا عام 1994 نظراً لتشابه حالة البلدين ولاسيما من حيث التركيب الاثني.ولا يخفي أن الرئيس الحالي ينتمي إلي الأغلبية من الهوتو، وكان قائداً للتمرد السابق ضد نظام الأقلية من التوتسي بقيادة بيير بويويا. وتري المعارضة أن ترشح الرئيس لولاية ثالثة يمثل انتهاكا للدستور ولاتفاق أروشا عام 2005 الذي أنهي حالة الحرب الأهلية في البلاد. ومن ناحية أخري فإن الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان تعكس أيضاً طابعاً اثنياً وعرقياً في أحد أبعادها ولاسيما الانقسام التقليدي بين جماعتي الدينكا والنوير. ويلاحظ أن الدور الاقليمي الفاعل في الحالتين البوروندية والسودانية الجنوبية يتم بمعزل عن القاهرة. إذ يلاحظ الدور الفاعل لتجمع دول شرق إفريقيا تحت قيادة تنزانيا من أجل التوسط لإيجاد حل توافقي للأزمة الانتخابية في بوروندي. أما أثيوبيا فإنها تقود جهود منظمة »الإيجاد« للتوسط بين زعماء الحرب في جنوب السودان.
التحدي الثاني يتمثل في الظاهرة الإرهابية، ولاسيما جماعة الشباب الصوماليين التي خرجت عن طابعها المحلي الصومالي لتمثل تهديداً لمنطقة شرق إفريقيا، ولاسيما كينيا علي وجه التحديد. ويجسد الهجوم علي جامعة غاريسا في كينيا وقتل 148 من طلابها تحولاً فارقاً في استراتيجيات الحركات الإرهابية الإفريقية لاسيما وأن أحد المهاجمين كان يتحدث باللغة السواحلية. نحن إذن أمام عولمة حركة شباب المجاهدين من حيث المنهج والتمويل والتجنيد. ويمكن لمصر أن تنسق جهودها وخبراتها في محاربة الإرهاب لمزيد من التعاون بين دول حوض النيل ولاسيما في مجال تبادل المعلومات والاستخبارات والإنذار المبكر.
التحدي الثالث يكمن في إثيوبيا ذاتها. إذ علي الرغم من التقارب الحادث بين البلدين والذي تقوده مصر فإن الكتاب الأبيض الإثيوبي الصادر عام 2002 ينظر إلي مصر باعتبارها المنافس الاقليمي التقليدي. يعني ذلك بأن مصر في الرؤية الاستراتيجية الإثيوبية لا تزال تعد مصدر تهديد يحول دون تحقيق السلام والأمن في القرن الإفريقي، بالمفهوم الاثيوبي طبعاً. ونظراً لتحولات مراكز القوة في منطقة القرن الإفريقي وشرق إفريقيا لصالح أثيوبيا فإنها أضحت تعزز دورها العسكري في الصومال وتوجهها الاستراتيجي الاقليمي نحو شرق إفريقيا كما يتضح من تفاعلاتها مع كينيا وجيبوتي وجنوب السودان. ولعل ذلك كله يفرض علي مصر التوجه بحذر لبناء قاعدة تفاوضية جديدة مع إثيوبيا تقوم علي أساس المصالح المتبادلة وضمان الأمن المائي المصري.
التحدي الرابع يكمن في نظام البشير في السودان، فمن الواضح أن نظام الرئيس عمر البشير يتحرك بأكثر من وجه في سياسته الخارجية. فعلي الرغم من تقربه من النظام المصري بعد الاطاحة بالرئيس محمد مرسي ومحاولته النأي بنفسه عن جماعة الاخوان المسلمين إلا أنه يرتبط بعلاقات وطيدة مع بعض فصائل المعارضة الاسلامية في ليبيا. كما أنه يحاول في إطارعزلته الدولية الاستفادة من الصعود الاثيوبي وذلك علي حساب الشراكة الاستراتيجية مع مصر، وهو ما ظهر واضحاً في الموقف السوداني في مفاوضات مياه النيل الذي اكتفي فيها بدور الوساطة وتقريب وجهات النظر بين مصر وإثيوبيا. ومن جهة أخري فإنه علي الرغم من مشاركة السودان الرسمية في عاصفة الحزم ضد التمرد الحوثي في اليمن فإنه لا يزال يحافظ علي علاقة وثيقة بإيران وبجماعة حزب الله في لبنان.
ولعل حادثة اسقاط الجيش السوداني لطائرات بدون طيار في أوائل هذا الشهر الحالي تعيد إلي الأذهان الضربات الاسرائيلية السابقة لأهداف داخل السودان يعتقد أنها مراكز تدريب للحرس الثوري الايراني أو قوافل لتهريب أسلحة إيرانية. يعني ذلك أن التحدي الأيديولوجي الذي يمثله نظام البشير لمصر يظهر في خارطة تحالفاته الإقليمية والتي تشمل ايران وحماس وقطر، بالاضافة إلي تعاطفه مع ثوار فجر ليبيا. يفرض ذلك ضرورة اعادة النظر وتقويم خبرات التجارب التكاملية بين مصر والسودان والابتعاد عن الخطاب الحماسي المثالي الذي يركن إلي دعاوي التاريخ والروابط الحضارية المشتركة التي تجمع بين البلدين، فثمة واقع متبادل وصور ذهنية سلبية ارتبطت في الادراك السوداني بغلبة الدور المصري وتأثيره الواضح في المشهد السوداني قبل الاستقلال وبعده.
ما العمل لمواجهة هذه التحديات؟ إن اعمال قوة مصر الناعمة لكسب عقول وقلوب الأفارقة يتوقف علي القوة الاقتصادية، ومدي مشاركة مصر في مشروعات التنمية الإفريقية. وهذا هو التحدي الأكبر. ويكفي أن نشير إلي أن إجمالي التجارة الخارجية المصرية مع الدول الإفريقية غير العربية لا يتجاوز المليار دولار فقط، أي ما يعادل 1.1% من إجمالي هذه التجارة، وذلك بالرغم من عضوية مصر في العديد من التجمعات الاقتصادية الإفريقية.
ويمثل مؤتمر شرم الشيخ الذي يعقد في شهر يونيو القادم حدثاً فارقاً في مسيرة التكامل الاقتصادي الإفريقي حيث يتم دمج ثلاثة تجمعات إفريقية كبري هي: الكوميسا والسادك وتجمع شرق إفريقيا والتي تضم نحو 26دولة يصل اجمالي الناتج المحلي الاجمالي لها 1.2 تريليون دولار. وإذا كانت مصر هي التي تقود هذه الجهود التكاملية فإني علي يقين بأنها قوة كامنة إذا استيقظت اهتزت إفريقيا وما حولها. نقلا عن الأهرام